هل انتهى زمن البحراني "المزارع"؟

2013-09-25 - 7:50 م

عادل مرزوق*

مؤلمة هي تفاصيل وصفحات الأرشيف البريطاني عن البحرين. ذلك الأرشيف المغيب عن ذاكرة هذا الجيل [1]. ويتطلب الخوض في تفاصيل هذا الأرشيف القدرة على ضبط النفس، والحرص على أن لا ينزاح القارئ/ الباحث/ الصحافي للإنفعال في الكتابة أو التحليل، أو أن يبادر السياسي إلى إطلاق مواقف إنفعالية أو متسرعة.

استعرض اليوم وثيقة من أهم الوثائق التي أتيح لي الإطلاع عليها، وتتبع تفاصيلها والأسماء الورادة فيها، وهي رسالة الميجر كلايف كيركباتريك ديلي المعتمد السياسي البريطاني في البحرين إلى الكولونيل آرثر بريسكوت ترذر المقيم السياسي في بوشهر، المؤرخة في 20 سبتمبر العام 1923م.

يتعلق مضمون الرسالة بقيام الشيخ خالد بن علي آل خليفة [2] وأولاده (علي وسلمان وعبدالرزاق)، وبمعاونة كل من (حمود بن أجويد وناصر الفردان) بالهجوم على جزيرة سترة. حيث قتل المهاجمون "رجلاً نقل جسده إلى مستشفى المعتمدية، وهرب القرويون الى المزارع المجاورة ونهبت بيوتهم"[3]

ويُبرر المعتمد السياسي حادثة القتل بالعثور على أحد الجمال التي تخص الشيخ خالد بن علي آل خليفة مجروحاً في سترة، ويضيف: "عندما سمع الشيخ خالد بذلك، قال: يجب قتل بحراني لذلك"!.

وفيما يبدي المعتمد السياسي أسفه للحادثة، يؤكد على أن الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة حاكم البحرين آنذاك (توفي العام 1942) لم يبذل أي جهد لإعتقال المتهمين في حادثة القتل من العائلة الحاكمة، ويضيف: "رأيت الشيخ حمد هذا الصباح ولم يستجب المتهمون للإحضارية. وكما هي عادته، فقد كان مشغولاً بإرسال رسائل مطمئنة لهم. بينما كانوا يساومون ويطالبون بإحالة القضية ليد القاضي السني"!.

العدالة المنقوصة مدعاة للظلم

بعد ضغوط المعتمد والإحتجاجات الشعبية، عقدت محاكمة للمهاجمين خلصت في نتائجها إلى "الحكم على الشيخ خالد بن علي آل خليفة بتسليم مبلغ 2000 روبية كتعويض لعائلة القتيل ومصادرة جميع أملاكه في سترة لتنقل إلى الحكومة، وبمنعه من دخول سترة والرفاع مدى الحياة. كما حكم على إبنه علي بن خالد بالنفي النهائي من البحرين، وعلى كل من سلمان وعبدالرزاق بالنفي لمدة عام، وعلى كل من: حمود بن أجويد وناصر الفردان بالسجن لثلاث سنوات".

بعد 3 أشهر، وتحديداً في 8 من يناير 1924م، عاد المعتمد السياسي في البحرين إلى إرسال رسالة أخرى إلى المقيم السياسي في بوشهر ليعلمه بشكوى جديدة تقدم بها هذه المرة عمدة سترة الحاج مرزوق[4]، وتؤكد الشكوى هجوما جديداً شنه رجال مسلحون من الرفاع حيث "يعيش الشيخ خالد وابنه الأكبر إبراهيم الذين أحاطوا بقرية واديان، وقاموا بإطلاق الرصاص على القرية واقتحموا عدداً من الأكواخ. وقتلوا شخصين، رجلاً وامرأة وجرحوا خمسة أخرين، من ضمنهم امرأتان بجروح خطيرة". ويؤكد الميجر ديلي في رسالته أن عدة أشخاص "رأوا إبراهيم بن خالد مع المهاجمين". ويضيف: "كما هو الحال في القضايا السابقة فإن الشيخ إبراهيم سيكون قادراً أن يأتي بشواهد لا عد لها على أنه لم يترك بيته أبداً "!.

ثنائية "الشيخ" و"البحراني"

اليوم، وبعد 90 عاماً من تاريخ الوثيقتين البريطانيتين يكاد المشهد في البحرين لا يختلف كثيراً: نفوذ العائلة الحاكمة، القتل، الإعتقالات، سياسات التمييز الطائفي، والقضاء المسيس الأحكام لصالح الأقلية السياسية المتمثلة في الأسرة الحاكمة والقبائل الموالية لها.

نعم، قد يكون ما بين العام 1923م والعام 2013م الكثير من الحوادث والمحطات والحركات الوطنية والمطلبية والمتغيرات الإقليمية التي عصفت بالبحرين. قد يكون هيكل الدولة اليوم أكثر تنظيماً تحت دستور 2002 وهو الدستور الثاني منذ الإستقلال، كما أن هناك مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية بحسب الدستور. لكنها، مجرد هياكل صورية ظهرت حقيقتها وبانت هشاشتها مع إعلان الملك حمد بن عيسى آل خليفة لحالة السلامة الوطنية (حالة الطوارئ) في 15 مارس العام 2011. وقتها تحديداً، كشفت الدولة - سلطة سياسية، دستوراً، ومؤسسات - عن الحقيقة، وهي أن شيئاً لم يتغير، وأن الدولة المدنية المفترضة، والمؤسسات القائمة، والقضاء بمبانيه وقوانينه ورجالاته، كلها قشور "حضارة"، لا قيمة لها او تأثير في فهم/ إدراك/ إدارة القبيلة لهذه البلاد التي هي في فهم القبيلة ليست أكثر من غنيمة حرب!

وحدهم أبطال القصة ما بين العامين 1923 و2013 وعلى مدى 90 عاماً من بقو محتفظين بالأدوار ذاتها، دون تغيير، "الشيخ[5]" و"البحراني"[6]، الجلاد والضحية.

الشيخ الذي كان ولا يزال يمسك بزمام السلطة والحكم في البحرين، والذي تجلى قبل 90 عاماً في الشيخ خالد بن علي آل خليفة الأخ الشقيق لحاكم البحرين عيسى بن علي آل خليفة، أو كما يتجلى اليوم في أحفاده من (الخوالد)، كوزير الديوان الملكي خالد بن أحمد آل خليفة، وأخيه القائد الأعلى لقوة دفاع البحرين المشير خليفة بن أحمد آل خليفة. واللذان هما أحفاد سلمان بن خالد بن علي آل خليفة الذي شارك في الهجوم على سترة العام 1923.  

كذلك هو "البحراني" بقى ليلعب دور الضحية في الفترتين. تجلى في أولئك المواطنين من جزيرة سترة الذين قتلوا على يد الشيخ خالد بن علي آل خليفة وأولاده وأعوانه قبل 90 عاماً، والذي يتجلى اليوم - بشكل أكثر فضاعة وقسوة - في أكثر من 100 مواطن قتلوا منذ بدء الأحداث الإحتجاجية في فبراير 2011 أو ضمن أكثر من 2000 معتقل سياسي تمتلئ بهم السجون البحرينية اليوم.

تشير التعابير الواردة في رسالتي المعتمد السياسي إلى عديد التماثلات بين الفترتين. ليس أقلها رواج سياسة الإفلات من العقاب بالنسبة لكبار أفراد العائلة الحاكمة/ المسؤولين في الدولة، وذلك حين يؤكد المعتمد السياسي أن الشيخ حمد بن عيسى حاكم البحرين آنذاك كان "مشغولاً بإرسال رسائل مطمئنة" للشيخ خالد بن علي آل خليفة وأولاده. وهو موقف يتكرر اليوم من خلال كلمات رئيس الوزراء خليفة بن سلمان آل خليفة في لدى زيارته الضابط مبارك بن حويل، المتهم بالمسؤولية عن تعذيب الأطباء المعتقلين العام 2011 إذ يقول: "القانون لا يطبق عليكم، وإذا طبق عليكم، فسيطبق علينا"![7]

وتظهر في الوثيقتين أيضاً، دلائل فساد الجهاز القضائي، حيث لعبت سياسيات التمييز الطائفي في تعيين القضاة دورها في تأصيل ثقافة الإفلات من العقاب عبر ضمان السيطرة على المؤسسة القضائية وتوجيه أحكامها سياسياً. وهو ما كان المعتمد السياسي واضحاً فيه حين يقول في الوثيقة الأولى: "كانوا يساومون ويطالبون بإحالة القضية ليد القاضي السني"، ويضيف في الوثيقة الثانية:"فإن الشيخ إبراهيم سيكون قادراً أن يأتي بشواهد لا عد لها على أنه لم يترك بيته أبداً!". واقع تدل عليه اليوم عشرات المواقف والتقارير الدولية التي خلصت إلى أن المحاكمات القضائية في البحرين اليوم ليست أكثر من محاكمات سياسية لم تلتزم أياً من المعايير الدولية، بل هي متورطة في التستر على إنتهاكات حقوق الإنسان في البلاد[8].

الكراهية والاحتقار والانتقام

ويورد الميجر ديلي في الوثيقة الثانية نصاً هو الآخر جدير بالتوقف والملاحظة والتدقيق، حيث يقول:"إن الجريمة بدون شك جريمة سياسية لاستفزاز البحارنة الذين أدلوا بشهادات في الجرائم السابقة". وكان ديلي في الوثيقة الأولى قد أشار بوضوح إلى أن سياسات الحكم في حماية القتلة كانت السبب الرئيسي في تزايد حالات القتل بين المواطنين من الطائفة الشيعية: يقول المعتمد السياسي:"إن عدم فرض عقوبة على شيخ الدواسر في قضية عالي ... وحقيقة عدم فرض أي عقوبة لمقتل بحرانيين مؤخراً قد شجعت أفراد آل خليفة على اتخاذ هذا الخط".

هذه السياسات التي لا تزال فاعلة حتى اليوم، كانت سياساتها ونتائجها جلية خلال العامين الماضيين عبر استمرار سياسات القتل والقمع والاستهداف وإعمال سياسات التمييز في البلاد. حيث إستمرت سياسات "الحكم" في حماية كبار المسؤولين في الدولة بل وتكريم العديد منهم بعد إقالتهم إثر صدور تقرير بسيوني في 23 نوفمبر العام 2011. ولا ننسى الإشارة إلى تعبير دقيق استخدمه رئيس اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق محمود شريف بسيوني في كلمته أمام ملك البحرين حين قال: "إن حجم  وطبيعة سوء المعاملة  النفسي والبدني، يدل على ممارسة متعمدة كانت تستهدف، في بعض الحالات، انتزاع  اعترافات وإفادات بالإكراه، بينما تستهدف في حالات أخرى العقاب والانتقام"[9].

مزارعون لا يفقهون الحرب

تجرع البحرينيون منذ عهد الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة "الفاتح" – 1782 - 1795- إلى اليوم، عقوداً من الظلم والاضطهاد السياسي. ولم تستطع الغالبية الشعبية في البلاد أن تتتحول لغالبية سياسية فاعلة، أو أن تدافع عن مصالحها الاقتصادية والاجتماعية لأسباب عدة، وهي أسباب يطول سبرها، شرح ظروفها، وتحديد المسؤوليات التاريخية فيها. وإذا كان قدر وواجب وخيار العائلة الحاكمة في البحرين كان على الدوام هو الدفاع عما اعتبروه ملكاً وغنيمة، وهو سلوك تاريخي/ طبيعي لأي مشيخة قامت في هذه المنطقة أو غيرها، فإن ذلك لا يعني البتة، أن مسؤولية الغالبية الشعبية في البلاد كانت القبول بذلك، والرضوخ له.

سأستعير من أحد الأكاديميين السعوديين المرموقين تعبير "المزارع" لتوصيف البحريني/البحراني العام 1923م، بل وبما يشمل المرحلة التي سبقت تأسيس حكم عائلة آل خليفة في البحرين العام 1783م. حيث شهدت البحرين صراعات عديدة، داخلية تارة بين قبيلة آل خليفة (صراعات الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة وبن إخيه محمد بن خليفة آل خليفة مثالاً)، ومع قوى محلية وإقليمية (آل ثاني وآل بن علي في قطر/ ال سعود في الجزيرة العربية مثالاً) تارة أخرى.    

يمكننا اعتبار زمن البحراني "المزارع" زمن البقاء في هامش موضوعة الحكم/ هامش السياسة/ هامش صناعة المشهد السياسي والشراكة الحقيقية والفاعلة فيه/ هامش التاريخ، وهو بالمناسبة توصيف أطلقه أحد رجالات القبائل الغازية من نجد لتوصيف سكان شرقي السعودية (القطيف والأحساء) إذ لم يكن سكان هذه المناطق يظهرون أي مقاومة حقيقية لسيطرة القبائل الغازية على مناطقهم ومزارعهم. كانوا بحسب توصيف ذلك القائد: "مزارعون بسطاء، لا يفقهون في الحرب شيئاً".

90 عاماً مضت و"الشيخ" هو الشيخ، لم يتغير. تبدلت أدوات اللعبة وفضاءاتها، لكنها بقت في مستوى النتائج قارة ومتماثلة. فهل تغير "البحراني" أو قرر "التغيير". سؤال يحمل في طياته الكثير من التحديات، تحديات لا ترتبط بـ 14 من فبراير العام 2011، بل بما هو أبعد من ذلك بعقود. سؤال كبير، إجابته تكتب الآن: نجاحاً أو فشلاً، فلا حاجة إذن إلى التنجيم بها.

هوامش

[1]  تحمل صفحات الأرشيف البريطاني تفاصيل دقيقة في الحياة السياسية في البحرين، ويعتبر كتاب: "البحرين: قراءة في الوثائق البريطانية 1920 -1971" للدكتور سعيد الشهابي أحد الإنتاجات الفريدة التي تدارست بعض الوثائق. وتتوارد أنباء عن أن قوى المعارضة تعكف حالياً على الانتهاء من مشروع ضخم لجمع هذه الوثائق وطباعتها.

[2]  المقصود هو الشيخ خالد بن علي آل خليفة أخ حاكم البحرين عيسى بن علي آل خليفة، كانت له قوة عسكرية خاصة مكونة من 100 رجل، وله نفوذ واسع في البلاد بعد أن قدم مع اخيه عيسى بعد علي من قطر ليمسك بحكم البحرين بأمر من الحكومة البريطانية. وخالد بن علي هو جد وزير الديوان الملكي الحالي خالد بن أحمد آل خليفة والقائد العام لقوة دفاع البحرين المشير خليفة بن أحمد آل خليفة.

[3]  اعتذر عن عدم إيراد نصوص الوثائق كاملة، ويمكن الإطلاع على الوثيقة عبر هذا الرابط باللغة العربية، علماً أنها موثقة في الأرشيف البريطاني الخاص بالبحرين من مكتب الهند تحت رقم C118/23/9/19

[4]  لم تورد الوثيقة الاسم الكامل للحاج مرزوق مكتفية بهذا الاسم.

[5]  "الشيخ" تسمية تطلق على رئيس أو زعيم القبيلة، وهي مأخوذة من "المشيخة" وهي نظام الحكم القبلي الذي كان سائداً في منطقة الخليج العربي قبل الإستقلال. وتعتبر تسمية مشهورة بين أفراد العائلات الحاكمة في المشيخات الخليجية، ولها معان مختلفة إجتماعياً إذ تتصل هذه التسمية أيضا برجل الدين الذي يطلق عليه "الشيخ".

[6] "البحراني" هي النسبة اللغوية الأصح لسكان جزيرة البحرين عوض نسبة "البحريني". ولكن لأسباب سياسية واجتماعية درج اليوم استخدام نسبة "البحراني" على البحرينيين من الطائفة الشيعية فقط، وتضمر التسمية في المستوى الإجتماعي شيئاً من الاحتقار والدونية.

[7] للإطلاع على تصريح رئيس وزراء البحرين إضغط هنا

[8]  يمكن في هذا الإطار الرجوع لتقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق وكذلك تقارير منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش حول البحرين خلال الأعوام 2011 – 2013.

[9]  لمراجعة كلمة رئيس اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق د. محمود شريف بسيوني كاملة إضغط هنا

 

* صحفي بحريني.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus