نجادي: هكذا رحلت بلا جواز سفري البحريني، وودّعت جزيرة الشيطان (3)
2013-11-05 - 4:38 م
مرآة البحرين (خاص): المصرفي البحريني حسين نجادي الذي اغتيل في ماليزيا قبل أشهر، كتب قصة حياته ونشرها عام 2012 في كتاب أسماه «البحر والتلال» The Sea and the Hills، أسمى الباب الخاص بسرد هروبه الأخير فاراً بحياته وعذاباته بعد تجربته المريرة: «وداعاً جزيرة الشيطان».
«مرآة البحرين» قامت بترجمة الجزء الذي تناول فيه (نجادي) تفاصيل (القضية) التي أدت إلى سجنه ومحاصرته قبل هروبه (من الفصل 17 حتى20)، وذلك لما أثير حولها من أقاويل كثيرة ومتباينة. آثرنا أن ننقلها كما وثّقها صاحبها للتاريخ. بطل هذه (القضية) هو الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة وزير الداخلية حينها، وبطلها الآخر هو إيان هندرسون. لم يشأ (نجادي) أن يضع اسم الأول واستعاض عنه باسم مستعار (الشيخ طحنون)، ربما لأسباب أمنية، لكننا رأينا أن نثبت الاسم الحقيقي، فما بعد 14 فبراير، ليس كما قبله، وقضية (نجادي) مع وزير الداخلية السابق، لم تكن سراً.
الوداع، جزيرة الشيطان
رغم حالة انعدام الجنسية التي كنت فيها، عزمت على الإفادة من وقتي. فكنت أستقبل مصرفيين وبائعين وأفراد من عائلتي وأصدقائي واحداً تلو الآخر لإعطائهم نصائح مالية وأصبحت تدريجياً مستشاراً. وسرعان ما أسست مكتباً صغيراً اتخذته قاعدة لممارسة أعمالي الاستشارية في إدارة الشركات واستراتيجيتها. وفي الوقت عينه، استمتعت بتنشق الهواء العليل والسباحة وصيد السمك والقراءة والعودة إلى حياتي الطبيعية، ولا زلت، حتى الآن، غير قادر على وصف كم أثمّن حريتي التي نلتها بعد سبع سنوات ونصف من الاحتجاز.
مرّت ثماني سنوات على هذه الحال. وكان الكابوس الوحيد الذي لازمني في ذلك الوقت، إضافة إلى عجزي عن مغادرة البحرين، صحة أبي المتدهورة؛ فقد كان يعاني بشدة ويسعل ويشتكي من ألم في صدره. ومع اقتراب عام 2000، عرف أن منيته قد اقتربت، فقرر العودة إلى موطنه الأصلي إيران. ورافقته أمي بالطبع في عودته إلى شيراز.
وبقدر ما كنت أتوق لمرافقتهم إلا أني لم أستطع ذلك بسبب عدم حيازتي على جواز سفر. ولحسن الحظ، كان عددٌ من أقاربي يزور والدي في اليوم الذي وافته فيه المنية، فلم يمت وحيداً بل كان هناك أفراد من العائلة قربه. وتولى ابن عمي، حسن، الذي يعمل في شيراز مسؤولية ترتيب جنازة أبي. وطَلبت منه السلطات إبراز هوية والدي للحصول على وثيقة الوفاة. أحضرت أمي مجموعة من المستندات بينها كتاب أحمر لا يحوي فقط هوية أبي، بل المعلومات الشخصية لي ولأمي. وخلال تصفح حسن لهذا الكتاب، وجد اسمي مذكوراً فيه. وكان ينص على أني ابن والدي. ولأن حسن كان على علم بمشكلة عدم تمكني من السفر، خطر له فوراً أن هذه الهوية كانت دليلاً على أصولي الفارسية، ويمكنني من خلالها الحصول على جواز سفر فارسي. اتصل بي حسن في مكتبي قائلاً إن هناك شيئاً يود إخباري به. وخوفاً من أن يكون هاتفي مراقباً، طلب مني الخروج والاتصال به من هاتف عام، ففعلت.
سألته "السلام عليكم يا حسن! ما الأمر؟"
أجابني بحماس:"حسين أظن أنه يوجد حل لمشكلتك. توّجب عليّ تقديم هوية والدك للحصول على وثيقة الوفاة ووجدت اسمك وتاريخ ولادتك ومكانها، في سيراف، مدرج في الهوية ووفقاً لهذه المعطيات، أنت مواطن فارسي لذلك يجب إعطاؤك جواز سفر فارسي"
-"يا إلهي! حسن أنت محق. لم أعلم أبداً أن بياناتي موجودة في هوية أبي. أنت محق قد تكون هذه الهوية جواز سفري إلى الحرية"
سألني " هل تريد أن أرسلها لك؟"
أجبته: "بالطبع، لكن لا ترسلها بالبريد لأنني لن أحصل عليها أبداً، أَرسِلها مع مناف (أحد أقربائنا) واطلب منه أن يأتي بنفسه للبحرين ليسلمها لي"
وبالفعل قام حسن بما طلبته منه. بعد بضعة أيام، كانت الهوية بحوزتي. فأخذتها فوراً إلى السفير الإيراني في البحرين مبيناً له تفاصيل حكايتي، وسألته مباشرة: "ألا يجعلني ذلك مواطناً إيرانياً ؟"
أجابني: " بالطبع يا حسين.أنت مواطن إيراني. ومن الواضح أن أبويك إيرانيان وأنت ولدت في إيران. هذا يكفي لجعلك إيرانياً"
فسألته فوراً " هل يمكنك إعطائي جواز سفر؟"
أجابني: "حسين أنت رجل معروف جداً. وقد حظيت قضيتك بتغطية إعلامية شاملة. بصراحة أنا لا أتجرأ أن أعطيك جواز سفر. أحتاج لإذن السلطات العليا، سأرسل برقية إلى وزير الخارجية وسأرى ماذا يقول"
وفى السفير بوعده. ورفع قضيتي مباشرةً إلى الرئيس الإيراني «أكبر هاشمي رفسنجاني»، الذي وافق بدوره على منحي جواز سفر وقال: " نعم، يجب أن نرحب بحسين نجادي". وأتى السفير الإيراني إلى منزلي بعد ثلاثة أيام ومعه جواز سفري الإيراني الجديد. كان الأمر يشبه الحصول على فرصة جديدة للحياة. شعرت أني مدعوم وتبدد خوفي من السلطات البحرينية.
ما الذي يمكنهم فعله لمنعي من الخروج من البلد الآن؟ فالسلطات لا تزال تلاحقني وتتعقبني ولتشجيعهم على ذلك، أعلمتهم عبر عدة قنوات أنني سأغادر البحرين مستخدماً جواز سفري الإيراني. فاجأهم الأمر. لم يكن باستطاعتهم معرفة كيف تدبرت أمري لأحظى بجواز سفر إيراني.
وصل بي الأمر لإطلاع ضباط المخابرات الذين كانوا يراقبونني على كيفية خروجي من البحرين. كانت الخطة أن أذهب بقارب صيد صغير من مرفأ الصيد في قرية الديه خلف مطار المحرق الدولي في الساعة التاسعة صباحاً من يوم الخميس الواقع فيه 15 حزيران/ يونيو 2000. وأخبرتهم أن أقاربي سينقلوني من هناك ويعيدونني إلى بلدتي الساحلية الأم سيراف التي ينتمي أهلي إليها. ووفقاً للخطة، وفي الزمان المحدد وأمام أعين مسؤولي إدارة الهجرة ورجال الشرطة العاجزين عن فعل أي شيء، أتى قارب صيد لنقلي يقوده الصياد جاسين وعلى متنه قريبي مناف.
صعدت على متن القارب مع مناف وأبحر القبطان في المياه الدولية وسط الخليج الفارسي. كنت قد اتفقت مع أقاربي من بندر طاهري للقائنا وكان لنظام تحديد المواقع العالمي GPS دور كبير في تنسيق مواقعنا. وعندما اقتربنا من المياه الدولية، كان بإمكاننا رؤية زوارق الدورية البحرينية تتراجع لمسافة معينة. وفي الوقت عينه، اقترب نحونا قارب يحمل علماً أخضر، كان قارب قريبي، القبطان مجيد، الذي كان قبطاناً في القوات البحرية خلال الحرب الإيرانية-العراقية. وعندما التقى القاربان، قفزت إلى سفينة مجيد وعلمت أني أتممت مهمتي. وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، كنت حراً تماماًّ.
أحضر لي مجيد معه ماءً من جبل جام لأشرب وبطيخاً لآكل. وتناولت مياه النبع العذبة والفاكهة الناضجة، والتي كانت دائماً فاكهتي المفضلة. بعد ساعة، استطعنا رؤية قمم الجبال التي تأتّت منها المياه. وسرعان ما وصلنا إلى المنزل في قريتي سيراف.
في إيران، قابلت والدتي العزيزة التي عادت إلى بندر طاهري وهي الآن تعيش مع عائلتي هناك. ضمتني إلى صدرها كما لو أنها لا تريد تركي مجدداً. والتم شملي مع أبناء عمومي وأبناء أخوتي وأخواتي وأصدقاء العائلة المقربين. كان اجتماعاً مفرحاً. قضيت ثلاثة أو أربعة أيام في بندر طاهري، ومن ثم قدت السيارة مع قريبي الثاني في أرجاء البلاد الجميلة، ومررنا بحديقة شيراز وأصفهان متوجهين إلى حدود أذربيجان على مشارف بحر قزوين، في طريقنا إلى العاصمة طهران.
وهناك، تواصلت مع قريب آخر لي، محمد الذي يعيش في غوتنبرغ في السويد. وأخبرته أنني سأزوره. كنت أعلم أن عدداً من اللاجئين السياسيين البحرينيين مثلي يسكنون في السويد والدنمارك وقد كنت متشوقاً لرؤية أكثر من حوالي خمسة وعشرين عائلة من أصدقائي القدماء من أعضاء جبهة التحرير الوطني –البحرين في السويد.
أرسل لي محمد دعوة لزيارته، عبر شركته في السويد، وكان ذلك كافياً للحصول على تأشيرة دخول في غضون يومين من السفارة السويدية في طهران. بعد حصولي على تأشيرة الدخول، اشتريت تذكرة سفر وسافرت عبر إسطنبول إلى ستوكهولم واستقليت بعدها القطار السريع لأصل إلى غوتنبرغ، ثاني أكبر مدينة في السويد، حيث يعيش محمد.
محمد هو لاجئ سياسي أيضاً، كان يعيش مع زوجته اللطيفة أنجيلا، وهي من أمريكا اللاتينية، في شقة مريحة. وقد أخلياها لأسكنها، بينما انتقل الإثنان ليسكنا في شقة أنجيلا. قضيت هناك شهوراً أعوّض الوقت الذي ضاع مني مع أصدقائي القدماء وأتجول وأقرأ. أفكر في الحياة ملّياً.
ولأن غوتنبرغ تقع في محاذاة الشاطئ، تمكنت غالباً من زيارة المرفأ ومراقبة حركة القوارب. قدّرت في هذه الفترة من حياتي جمال ومعنى الحرية، فكنت حراً في أن أقرأ وأكتب وأتكلم. وانضم إليّ باسكال وهايدي لقضاء عطلة عيد الميلاد ورأس السنة. بعدها، انتقلت إلى كوبنهاغن حيث تتواجد مجموعة أكبر من اللاجئين البحرينيين، الذين تم تجنيسهم. وهناك، في كوبنهاغن، بقيت مع قريب آخر اسمه رضا.
لعب باسكال دوراً مهماً في هذه المرحلة من حياتي، فكان مصراً على مساعدتي لاسترجاع ما فقدت منها والإنخراط في عالم المصارف الشيّق. فتواصل مع أصدقائنا الأمريكيين في العاصمة واشنطن، ورتّب معهم للحصول على تأشيرة دخول من السفارة الأمريكية في كوبنهاغن. وعندما حصلت عليها، سافرت إلى نيويورك ثم إلى واشنطن.
قضيت أسبوعين هناك، حتى رتّب لي صديق باسكال، سام هوسكينسون، الذي يدير شركة إستشارات للشركات تُدعى جيفرسون وترمان العالمية في العاصمة واشنطن Jefferson Waterman International، لقاءً مع أنطوني براين الذي تمتلك عائلته بنكاً تجارياً صغيراً اسمه "واتلي غروب Watley Group " مقره في لوس أنجلوس. سافرت للقاء أنطوني ووظفني فوراً كمستشار.
عملت هناك مع زبائنهم الكبار كسيرز Sears وروبيك roebuck والشركاء في مخازن سيرز الشهيرة في لوس أنجلوس حتى 5 أيلول/ سبتمبر 2001. استمتعت بالعمل، لأنني تمكنت من الإستفادة من خبرتي المصرفية، غير أنني لم أحتج إلى أصول أو رأسمال، كل ما احتجته هو صحتي وطموحي الشخصي.
وأخيراً، اضطررت للعودة إلى كوبنهاغن، لأنني كنت قد أتيت إلى الولايات المتحدة بتأشيرة سياحية، ولم أكن مخولاً أن أعمل في البلد. كانت الخطة أن أقدم طلباً للحصول على رخصة عمل في كوبنهاغن، وبعدها أعود. ذهبت مرة أخرى إلى ابن عمي رضا الذي كان يمتلك منزلاً جميلاً في الغابة قرب بحيرة. وذهبنا سويةً إلى السفارة الأمريكية في 10 أيلول/ سبتمبر 2001، وحددنا موعداً مع المستشار المسؤول عن التأشيرات. في اليوم التالي،11 أيلول 2001، وفي الساعة التاسعة صباحاً، عدنا إلى السفارة مع الصور والملفات ورسائل التزكية من واشنطن العاصمة ورخصة عملي وعقد العمل وجواز سفري الإيراني.
تصفح المستشار جميع الأوراق وبدت عليه علامات الرضا. قال مبتسماً: "كل شيء يسير وفق النظام، سيد نجادي. سنوافق على تأشيرة الدخول خلال أيام قليلة ولا تحتاج للعودة لاسترداد جواز سفرك، سنرسله إلى مكان إقامتك في كوبنهاغن".
كانت راحة كبيرة لي ً أن أسمع هذه الكلمات ففي أيام قليلة، سيصبح بإمكاني العمل قانونياً في الولايات المتحدة. أنطوني، الذي سُرَّ جداً بعملي معه، ذكر مسألة نقلي إلى العاصمة واشنطن حيث سيتم تسليمي مهام أكبر. مشيت ورضا بمحاذاة ضفة النهر في كوبنهاغن. أخبرته عن شركة سوبرامار Supramar والهيدروفويل التي لا تزال تنتقل بحراً بين كوبنهاغن ومالمو. وشاهدنا بعض هذه الهيدروفويل التي أخبرت رضا عنها ومازحني عن نجاحاتي السابقة: "كل ما لمسته تحول ذهباً يا حسين ، كيف استطعت أن تكون منذ وُلِدت ميداس المنامة؟".
تناولنا غداءً لذيذاً واحتسينا القهوة بجانب النهر وتنزهنا عبر الغابة باتجاه البحيرة المحاذية لمنزله. وعندما دخلنا المنزل، فتحنا التلفاز لنشاهد قناة سي أن أن CNN فرأينا مشهداً خيالياً، لطائرتين تصطدمان ببرج التجارة العالمي في الساعة الخامسة بتوقيت كوبنهاغن أي حوالى التاسعة بتوقيت نيويورك. ظننّا أننا نشاهد فيلم رعب وضعناه عن طريق الخطأ. استغرَقَنا الأمر بضع ثوانٍ لندرك الحقيقة. كانت تلك الأخبار العاجلة التي غطّت مباشرة الهجوم الإرهابي في الولايات المتحدة. وبالطبع، غيّر هذا الهجوم الموازين كلها.
"يا إلهي، هل تعلم ما يعني هذا يا رضا. يعني نهاية حلمي بالعودة للعمل في الولايات المتحدة فمن المؤكد أنني لن أحصل على تأشيرتي الآن لأنني مسلم إيراني. وحتى لو كانوا قد منحوني إياها، سيقومون بإلغائها".
جلسنا صامتين ومصدومين، تسمرت أعيننا أمام شاشة التلفاز، لم نستطع أن نصدق أن أحداً يمكنه ارتكاب هكذا اعتداء على الإنسانية. رأينا ألسنة اللهب، وتهدّم المبنى، والأشخاص العالقين في ذلك الجحيم المشتعل وأجساداً تقفز إلى موتها. بكيت لجنون الإنسانية وعلمت حينها أنّي لن أتمكن أبداّ من العودة إلى الحياة الجديدة التي بنيتها في الولايات المتحدة.
وبعد أيام قليلة، في الرابع عشر من أيلول/سبتمبر، كلّمت السفارة وسألتهم عن تأشيرتي وجواز سفري.
ردّ عليّ مستشار القنصل الذي كنت قد قابلته، وقال "سيد حسين نجادي؟ نعم، لدينا جواز سفرك سيدي ولكن أخشى أن تأشيرتك قد أُلغِيت وسنعيد جواز سفرك إليك عبر البريد. يفترض أن تتلقاه خلال الأيام القليلة المقبلة".
كان ذلك أمراً متوقعاً بالنسبة لي لذا لم أتفاجأ أو أشعر بالقنوط كما فعلت عند مشاهدة الهجوم الإرهابي.
سألني رضا الذي كان معي في الغرفة: "إذاً؟"
أجبته:"كما قلت لك، لن يعطوني التأشيرة، إنهم يدرجون كل المسلمين، وكل المنتمين إلى بلد إسلامي على اللائحة السوداء".
نظر إلي رضا بتعاطف:"ماذا الآن؟" ماذا ستفعل؟ أنت تعلم أنه بإمكانك البقاء هنا قدر ما تشاء"
شكرته، ولكنني لا يمكن أن أبقى ضيفه للأبد. بدلاً من ذلك، سافرت إلى سويسرا ومكثت مع هايدي وباسكال لفترة. اتصلت بالكثير من أصدقائي وأفراد عائلتي للتثبت من كل خياراتي. وكان من بين الأشخاص الذين كلمتهم، مستشاري القانوني السابق في البنك العربي الماليزي، سوني بيلاي الذي استقال منذ ذلك الوقت ويدير عملاً قانونياً صغيراً خاصاّ به. تفاجأ سوني عند سماع صوتي وقال غير مصدّق "حسين! سيدي هل هذا أنت حقاً ؟".
سألته: "بالطبع، أنا ولم لا "
"يسعدني ذلك.أنا مسرور لسماع صوتك مجدداً. كنا نتساءل ما الذي حلّ بك، فقد كنا نتلقّى لفترة أخباراً عنك، لكنها انقطعت منذ بضع سنين، وسمعنا بعض القصص التي تقول إن السلطات البحرينية قتلتك داخل السجن".
قلت ضاحكاً: "أنا متأكد أنهم لو استطاعوا لقتلوني". كان من الجيد سماع صوت سوني المتفائل. وتابعت:"علاقتي مع السلطات البحرينية ليست جيدة ولكني حي أرزق وأفكر بالسفر إلى ماليزيا."
-"هذا رائع يا حسين! رائع ببساطة! أخبرني متى ستأتي."
طلبت من سوني بريده الإلكتروني وأخبرته أنني سأتواصل معه عبره لحين أجد تصوراً لرحلتي لماليزيا.
وصلت إلى ماليزيا في بداية عام 2002، وليت باستطاعتي القول أني عدت لأتابع مسار حياتي وعملي كما في السابق، وتحديداً قبل تركي البلد عام 1982، لكن هذا سيبدو مضللاً. فالواقع هو، أني عندما عدت من أوروبا إلى ماليزيا، كنت يائساً وخائب الأمل ومنكسراً. أما منذ حوالى عشرين سنة، قبل أن أغادر كوالالمبور، كنت أمتلك مصرفاً وكنت أقابل الوزراء ورؤساء الوزراء ومحافظي المصارف المركزية وشخصيات أجنبية.
على ما يبدو، أراد الجميع معرفة حسين نجادي. كانوا يريدون الإستفادة مني. في غضون ذلك، خسرت مصرفي، خسرت أسهمي وخسرت أيضاً رأسمالي. ولا بد من القول أن البلد شهد نمواً هائلاً خلال هذه الفترة.
ومن الجدير ذكره أن د.مهاتير قدّم الكثير لماليزيا. ففي عهده، تم بناء HYPERLINK برجي بتروناس التوأم الذين يحويان شركات متعددة الجنسيات، والذين بقيا لمدة أطول برجين في العالم. كما وتم بناء ناطحات سحاب وجسور من الفولاذ والزجاج حول المدينة. لم تعد كوالالمبور قرية صغيرة kampong. بالواقع، لم أكن لأعرف أين مكتب د. مهاتير حتى لو أردت مقابلته (لم أزره حتى الساعة) لأنه نقل مكتبه إلى بوتراجايا العاصمة الإدارية الجديدة لماليزيا.
ومجدداً، لحسن حظي، التقيت بواحدة من موظفيّ القدامى في البنك العربي الماليزي، روز، والتي كنت قد عيّنتها للعمل عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها. وهي شابة جميلة من أصل مالايي وصيني. دعتني روز وزوجها الثاني؛ داتو عزيز، المستشار السياسي السابق لدكتور مهاتير إلى عشاء لّم شمل في فندق شانغريلا في كوالالمبور. أخبر عزيز، اللطيف والمتفهم، دكتور.مهاتير عن عودتي ماليزيا، ورتّب لي موعداً معه في الثامنة صباحاً من يوم الأثنين المقبل. خلال لقائنا، أطلعته على الأحداث الدرامية التي عشتها مذ غادرت ماليزيا. لم يتفاجأ د. مهاتير ولمّح لي بأنه عرف عن معاناتي على يد العائلة المالكة في البحرين.
قال لي: "لقد كنت نعم الصديق لي ولماليزيا يا حسين. أخبرني فقط إن كان بإمكاني فعل أي شيء لك تأمين إقامة دائمة أو أي شيء. لا ترحل هذه المرة. تصرف وكأنك في بلدك فنحن بحاجة لأشخاص مثلك".
قليلاً ما مررت بمواقف أعجز عن الكلام فيها، كانت هذه واحدة من تلك المرات.كان لطف دكتور مهاتير يحمل الكثير من المعاني بعد كل ما شهدته في بلدي. تساءلت حينها لم تركت ماليزيا وشعبها الطيب لأعود إلى قبضة الإستبداد في البحرين. وحتى الآن، لم أجد جواباً مقنعاً على سؤالي.
ورغم من طيبة الماليزيين، إلا إنني استغرقت وقتاً لأعيد نفسي لسابق عهدي، فكوالالمبور جعلتني أدرك أنه بينما كان العالم يتقدم، كنت أتراجع.
كنت مصمماً، بعزيمة وإصرار، على إعادة بناء نفسي، فقابلت أصدقائي القدامى، ومن بينهم سوني. وبدأت حملة جمع أموال من أصدقائي الأمريكيين للحصول على آياك، مجموعة الاستثمارات العربية لآسيا الكويت المحدودة (AIAK)، الشركة القابضة للبنك الماليزي. وبهذا يمكنني استخدام آياك (AIAK) كشركة وساطة متخصصة للإستشارات المالية.
ومن ثم اشتريت لنفسي سيارة بيردانا ماليزية، ولأبقى في مزاج جيد، كنت أستخدمها كلما سنحت لي الفرصة لأبقى قريباً من المعلم الوحيد من الطبيعة الذي أشعر بالألفة معه- البحر. وفي عطلة نهاية الأسبوع، كنت أجهز حقائبي، وآخذ الجريدة اليومية والكتاب الذي يصادف أني أقرأه وأذهب إلى بعض الجزر كجزيرة تيومان في الساحل الشرقي أو لنكاوي في الساحل الغربي، وحين كنت لا أريد أن أجتاز مسافات طويلة، كنت أتوجه إلى بورت ديكسون التي تبعد حوالى الساعة عن جنوب كوالالمبور من مضيق ميلاكا.
وبعد ظهر يوم الجمعة، تهيأت للذهاب إلى فندق ريجنسي في بورت ديكسون وكنت قد ارتبطت مسبقاً بغداء مهم. وبينما كنت أقود بسرعة 140 كلم/الساعة على أوتوستراد سيريمبان –كوالالمبور، شعرت بالنعاس تحت أشعة الشمس الدافئة، لم يكن ممكناً أن أكون قد غفوت لأكثر من بضعة ثوان، ولكن عندما صحوت، كانت هناك شاحنة كبيرة تتجه نحوي.
وعندما انتبهت لها، لم يكن ما أراه شاحنة بل رأيت "الموت". وفكرت أن الدوس بقوة على المكابح لن يجدي نفعاً، لأنني سأصطدم بالشاحنة لا محالة. ولحسن حظي، كان يوجد طريق للطوارئ على يساري، وفي جزء من الثانية –مع أن الوقت بدا أطول بالنسبة لي، على الرغم من أنه في أوقات كهذه، للوقت طريقته الخاصة في التمهل لمنحنا وقتاً للتفكير ورؤية الأمور بوضوح أكثر مما نفعل في الحالات الطبيعية- انعطفت يساراً. عندها، علق باب سيارتي بخطّاف في مؤخرة الشاحنة، كان يستخدم لتثبيت غطائها الكتاني، وعندما تجاوزتها عن يسارها، علق بابي المفتوح بباب الشاحنة.
توقفت حينها. ورأى سائق الشاحنة سيارتي، التي ينقصها قطعة من الباب، تظهر أمامه، توقف. لحسن الحظ لم تتأذّ الشاحنة. أما أنا، فكنت أرتجف كلياً، ولم أقوَ على الحراك. اقترب مني سائق الشاحنة وكان رجلاً من مالاي في عقده الثالث. كان يبدو قلقاً جداً عليّ. لم يكن متأكداً أني بخير. وحين تأكد من أنه لم يصبني شيء، سألني: "ما الذي حدث لك؟ لماذا كنت تقود كالمجنون بسرعة وخلفي مباشرةً؟".
ردّدت كلمات من القرآن شاكراً الله على إبقائي حياً فسألني الرجل: "هل أنت عربي؟"
قلت له: "نعم، أنا عربي وفارسي. أنا آسف جداً. لن تصدّق ما حصل، لقد غفوت لثوانٍ بينما كنت أقود وعندما فتحت عيني وجدتك أمامي مباشرةً". ثم كررت أسفي له."
سألني: "لا بأس! لكن هل أنت بخير؟ هل تريد أن أتصل بأحد لأجلك؟" بدا الرجل مهتماً حقاً.
أجبته: "كلا، لا تقلق.أنا بخير". كل ما كان عليّ فعله هو ربط باب السيارة بطريقة ما بحبل كان مع سائق الشاحنة الذي ساعدني وسألني "إلى أين تذهب؟"
-" إلى فندق ريجنسي Regency في بورت ديكسون"
-"آه نعم، أعرفه. إنه قرب نادي اليخت".
-"أجل هذا هو"
قال لي السائق: "يمكنك أن تترك سيارتك هنا، وترسل رابطة السيارات في ماليزيا AAM لنقلها فيما بعد، أستطيع أن أقلك إلى هناك"
أجبته بإلحاح:" كلا، السيارة بخير وأنا بخير. يمكنني أن أقود. ستكون مشكلة كبيرة إن تركت السيارة هنا". كنت دائماً أحتفظ بقنينة ماء معي. أخذت القنينة الموضوعة على المقعد الأمامي وأفرغتها على رأسي لأستيقظ وأصحو من ذهولي.
لم يتركني هذا الرجل اللطيف أذهب بمفردي، بل تبعني على طول طريق الفندق، وبقي معي حتى دخلنا بوابة الريجنسي Regency بوابته، حيث أمعن الحارس النظر في الشاحنة وفي سيارتي المتضررة.. وبعد أن ركنّاهما، قلت للسائق: "سيدي، هل تسمح لي أن أقدم لك وجبة خفيفة؟" فوافق ودعوته إلى مقهى الفندق على الشاطئ. طلبنا الشاي والحلوى. وبعد أن أنهى طعامه، أكمل طريقه. قبل أن يذهب، نظر إليّ بدهشة وقال: "إن الله معك يا سيدي ويريدك أن تحيا".
عزّز كلّ من شجاري المرعب مع الموت ومقالة قرأتها في الصحف في نهاية الأسبوع عزيمتي على النجاح. لم يقوّيا تشبثي بالحياة فحسب، بل رغبتي في التقدم والاستفادة القصوى مما لديّ. وردت المقالة في صحيفة "نيو سترايتس تايمز"، وهي أهم صحيفة يومية إنكليزية في البلد. وكتبها المحرر الإقتصادي في الصحيفة باي شان، الذي كنت أعرفه منذ أيامي الأولى في ماليزيا عندما كان محرراً إقتصادياً في صحيفة "ذا ستار" المنافِسة.
كنت مستلقياً على كرسي البحر على الشاطئ، - مكاني المفضل في العالم- عندما وقع نظري على صورة لعزمان هاشم الذي بعته أسهمي من البنك العربي الماليزي وترافق صورته مقالة تُمَجّد دوره في نجاح البنك، وذهبت بعيداً إلى حدّ القول أنّ عزمان أسّس البنك. لم يَرِد أيُّ ذكر لي في المقال!
كانت تلك المقالة مجرد قطعة من هراء مقالات العلاقات العامة المتملقة والكاذبة وغير القيمة التي يكتبها باي شان. وعندما قرأتها قلت: تباً! هذا تزوير سافر للتاريخ فقد استطاعوا نسياني ليس الأمر كما لو أني ميت ويستطيعون شرعيّاً نسياني. أنا هنا الآن...على قيد الحياة ...بالكاد... رغم قربي من تجربة الموت! وحال عودتي إلى كوالالمبور، سعيت للحصول على بريد باي الإلكتروني، وعند حصولي عليه، راسلته قائلاً:
عزيزي باي شان،
أنا حسين نجادي مؤسس البنك العربي الماليزي. كتبت عني وعن مصرفي عدة مرات عندما كنت تعمل لصحيفة "ذا ستار". وحضرت تقريباً كل مؤتمراتي الصحفية التي عقدتها في مكتبي وتناولنا العديد من وجبات الغداء سوية. أنت تعلم أن البنك العربي الماليزي هو من بنات أفكاري وثمرة جهودي. كيف استطعت أن تكتب أن عزمان هاشم هو مؤسس البنك؟
وجاء ردّه سريعاً: " حسين! أنت هنا في ماليزيا؟"
أجبته: "نعم، أنا هنا"
قال: " أنا آسف جداً يا حسين. كنت أعتقد أنك ميت. فعزمان أخبرني ذلك"
قلت له: "أنا موجود في مكتبي، ما لم أكن شبحاً"، وأعطيته عنوان مجموعة الاستثمارات العربية لآسيا الكويت المحدودة (AIAK) الجديد الموجود في منارة هاو بار وسط كوالالمبور.
جاء باي في اليوم التالي إلى مكتبي واعتذر بشدّة، وكتب بعدها مقالة في "نيو سترايتس تايمز" يصحح فيها ما ورد من أخطاء في المقالة السابقة. نُشرت في 20 تموز/يوليو 2003 واعترف فيها باي أنه " في سنوات البنك الأولى، فاجأ نجادي الجميع بإنجازاته بما يتعلق بالصناعة المصرفية المحلية عندما حوّل البنك ليصبح على قمة البنوك التجارية في ماليزيا بمجموعة أصول وصلت إلى مليار رينغيت ماليزي في عام 1979 بعد أربع سنوات فقط... و سجله الحافل بتحويل البنك العربي الماليزي للتنمية AMDB إلى ما هو عليه الآن يبقى غير قابل للهزيمة حتى اليوم".
قرأ العديد من الناس المقال واتصلوا بي. كنت متأكداً أن عزمان سيقرأ المقالة. من هنا، سأكون مضطراً للتواصل معه. وعلى الرغم من أنه بدا قلقاً عند سماع صوتي على الهاتف، إلا أنه بحسن ضيافة ماليزي، دعاني لتناول الغداء. كان لقاؤنا متحضراً جداً. أخبرني أنه قرأ مقال باي وأن عودتي كات مفاجأة سارّة له. وأراد أن يعلم المزيد عما حصل لي في سنوات غيابي العشرين. أخبرته كل ما استطعت إطلاعه عليه أو ما كان مناسباً من وجهة نظري. بالإضافة إلى ذلك، تحدّثنا عن مجموعة الاستثمارات العربية لآسيا الكويت المحدودة AIAK التي أنعشتها حقاً وأخبرته عن قلّة رأس المال.
وكان أصدقائي قد ذكروني بمعاش التقاعد الماليزي الذي يُسَمّى صندوق ادخار الموظفين EPF وأخبروني أنه من المفترض بي أن أكون قد جمعت مبلغاً من المال نسبةً إلى مكاسبي من البنك، فسألت عزمان عنه. قال لي: " نعم أنا متأكد أنه لديك معاش تعاقد. دعني أتحقق الأمر لك".
وفي اليوم التالي كلمني وقال إنه وجد ملفي في صندوق ادخار الموظفينEPF وأنني جمعت حوالى 84 ألف دولار أمريكي في حسابي.
قلت له: "هذا جيد. نسبةً إلى كل الأموال التي فقدتها في السنوات الأخيرة الماضية، أنا مندهش ومسرور أن مبلغاً صافياً كهذا ما زال محفوظاً لي بإخلاص وجد".
ضحك عزمان وقال " من الجيد أنك لم تفقد حس فكاهتك يا حسين."
أجبته: "عندما يفقد الإنسان قدرته على الضحك فإنه يفقد قدرته على العيش".
سكت عزمان قليلاً ثم أضاف: " اذهب وكلّم المدير التنفيذي لصندوق ادخار الموظفين EPF يمكنك أن تقنعه بالسماح لك بسحب مدخراتك".
هوامش: