نجادي: فيلم الجزيرة الوثائقي الذي احتفى بي كان صفعة لآل خليفة، والطغاة صاروا على الجانب الخاطئ من التاريخ ( الرابعة والأخيرة)
2013-11-07 - 5:06 م
مرآة البحرين (خاص): المصرفي البحريني حسين نجادي الذي اغتيل في ماليزيا قبل أشهر، كتب قصة حياته ونشرها عام 2012 في كتاب أسماه «البحر والتلال» The Sea and the Hills، أسمى الباب الخاص بسرد هروبه الأخير فاراً بحياته وعذاباته بعد تجربته المريرة: «وداعاً جزيرة الشيطان».
«مرآة البحرين» قامت بترجمة الجزء الذي تناول فيه (نجادي) تفاصيل (القضية) التي أدت إلى سجنه ومحاصرته قبل هروبه (من الفصل 17 حتى 20)، وذلك لما أثير حولها من أقاويل كثيرة ومتباينة. آثرنا أن ننقلها كما وثّقها صاحبها للتاريخ. بطل هذه (القضية) هو الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة وزير الداخلية حينها، وبطلها الآخر هو إيان هندرسون. لم يشأ (نجادي) أن يضع اسم الأول واستعاض عنه باسم مستعار (الشيخ طحنون)، ربما لأسباب أمنية، لكننا رأينا أن نثبت الاسم الحقيقي، فما بعد 14 فبراير، ليس كما قبله، وقضية (نجادي) مع وزير الداخلية السابق، لم تكن سراً.
الانبعاث من تحت الرماد مرة أخرى
كان للمنحى الذي اتخذته حياتي، منذ أن عدت إلى ماليزيا، جذور من مرحلة سابقة، ففي الكويت، في عام 1973، أسست وبعض أصدقائي شركة استثمارية مُسَجّلة أسميناها مجموعة الاستثمارات العربية لآسيا الكويت المحدودة (AIAK) وأصبحت الشركة القابضة التي من خلالها أنشأنا البنك العربي الماليزي للتنمية في كوالالمبور وفيما بعد، البنك العربي الآسيوي. وكما ذكرت في الفصل السابق، استولى عزمان هاشم على رئاسة البنك العربي الماليزي للتنمية الذي يزدهر الآن تحت إسم آي إم بنك AmBank .
أما البنك الثاني، وهوالبنك العربي الآسيوي، فقد سطت عليه عائلة خليفة المالكة، وباعته بين ليلة وضحاها، في صفقة مخادعة سرية، إلى عائلة بن محفوظ المصرفية السعودية.
في الواقع، لم تحرمني عائلة آل خليفة المالكة من حريتي لمدة خمسة عشر عاماً فحسب، بل استولت على كل مدخراتي. كنت قد استثمرت كل ما تمكنت من توفيره في حياتي المهنية طوال خمسة وثلاثين عاماً في أسهم في البنك العربي الآسيوي. والبنك أصبح الآن، بالتأكيد، بعيداً عن متناول يدي ولكنني استطعت إنعاش سَلَفِه -آياك -(AIAK)- واستئناف التاريخ المنقطع للشركة التي أنشأتها في الكويت.
وبالتالي، في خريف عام 2002، تمّت إعادة دمج رأسمال شركة آياك AIAK في ماليزيا مع رأسمال ضئيل يوازي 180 ألف دولار أمريكي. ووضعت سياسة صارمة تقضي بأن تتجنب شركة آياك AIAK هذه المرة بوضوح امتلاك البنك. كنت متقدماً في العمر، وأمتلك رأسمال ضئيل جداً لأغامر به في عالم الخدمات المصرفية الذي أصبح مغامرة تجارية. كلا، لقد قررت أن تصبح آياك AIAK شركة استشارات مصرفية، فريدة من نوعها، تُرَكِّز على تقديم استشارات استراتيجية لعائلات الشرق الأوسط التجارية الثرية وعملاء الشركات في ماليزيا واتحاد دول جنوب شرق آسيا (آسيان ASEAN) وغيرها.
استغرق الأمر مني ثماني سنوات من العمل الدؤوب لأرفع شركة AIAK من الحضيض وأعيدها للعمل من جديد. ساعدني في هذه المهمة فريق متفانٍ مؤلف من شخصين، يتبع لابني باسكال، بالإضافة إلى بعض الموظفين الماليزيين الرئيسيين الذين يعملون لديّ.
اكتسب باسكال سيرة ذاتية مهمة، و خبرة مهمة في التمويل الدولي. لقد أمضى ستة عشرة سنة في أفضل المصارف التجارية والإستثمارية في زيورخ ولندن، مثل ميريل لينشMerril Lynch ودرسدنر كلينورت بنسون Dresdner Kleinwort Benson وبنك يو بي أس UBS وبنك كريدي سويس Credit Suisse، وأصبح، بجهده الكلّي الخاص، تاجراً ومصرفياً منافساً، مستفيداً من شبكة العلاقات القوية التي بناها.
باسكال وأنا نجحنا في عقد بعض الصفقات المهمة العابرة للحدود لزبائن في ألمانيا والسويد وماليزيا وأعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية باستثناء البحرين، وكذلك ساعدنا شركات تجارية غنية في دبي على إنشاء أربع شركات إستثمارية مصرفية في ماليزيا وأمّنا لهم الاستشارات الاستراتيجية التي يحتاجونها. وفي الوقت نفسه، وأثناء تأليفي لهذا الكتاب، كنا ننشئ بنكاً استثمارياً آخر.
ما دفعني لخوض هذه المغامرة هي فكرة التقريب بين الشعوب والثقافات، مما يؤدي إلى تفاهم وتعاون بين القارات. ومؤخراً، استطعت فعل ذلك في قارة كانت حتى الآن مغلقة أمام آسيا _أفريقيا، ولم تواجهنا أيّ عوائق طبيعية أو سياسية لخلق علاقات إقتصادية بين هاتين القارتين، ولكن التاريخ والمسافة الجغرافية أبقيا كلّا منهما على حدة. ولولا امتلاكي لشبكة علاقات تعود إلى شركات وساطتي المتخصصة بالتمويل وعلاقاتي الوطيدة في واشنطن العاصمة، لما استطعت إكمال مسيرتي والمغامرة لوصل أفريقيا بأسواق رأس المال الفعّالة في آسيا.
كانت غانا هدفي. لماذا غانا؟ بسبب حكومتها الديمقراطية وعدد سكانها الكبير (26 مليون نسمة ما يساوي تقريباً عدد سكان وطني البديل ماليزيا) ومواردها الطبيعية الوفيرة، والتي يمكن الاستفادة منها في سد الثغرة الإجتماعية والإقتصادية.
وبالرغم من أنني كنت أعمل على أساس مشروعي في غانا لفترة، إلا أن تقدمي الأول كان خلال رحلة عمل إلى العاصمة أكرا في أيلول/سبتمبر 2011، عندما استطعت ترتيب لقاء مع الرئيس الغاني البروفيسور جون آتا ميلز. علمت بشأن حصوله على شهادات تقدير مثيرة للإعجاب، وعلى كونه بصدد حيازة شهادة الدكتوراه في الضرائب والتنمية الإقتصادية في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية في لندن. و قد تمّ اختياره للحصول على منحة فولبرايت Fulbright Scholar من كلية الحقوق في جامعة ستانفورد في الولايات المتحدة Stanford Law School .
والرئيس ميلز هو قائد يسعى للتقدم وحلمه كما كرّر مراراً هو "أن نرى غانا تصبح الأمة التي تقود أفريقيا.. وأن تكون بلداً ديمقراطياً مثقفاً ومزدهراً ،نستطيع أن نُقَدّم به مثلاً للعالم حول ما يمكن لأفريقيا أن تكونه، عندما تعمل شعوبها سويّة". وكان هدفه القيام بالبلد لبلوغ مستوى الدخل المتوسط سنة 2028. وقبل تسلمه الحكم عام 2008، كان مفوض دائرة الإيرادات الداخلية في غانا ولعب دوراً فعالاً في رفع الضرائب/الناتج المحلي الإجمالي من 8% إلى 16%. وميلز رجل ذو رؤية واضحة للعدالة الإجتماعية، ولذلك شعرت أن لدينا الكثير من القواسم المشتركة.
وبالفعل، تبين أن حدسي محق، فقد تحقق ما كنت أتمنى. وعقدنا اجتماعاً موسّعاً في البيت الأبيض في غانا في مكتب الرئيس، على شواطئ المحيط الأطلسي المواجهة لأمريكا في قلعة أوسو، وهي قلعة تعود إلى القرن السادس عشر، تغيرت ملكيتها عدة مرات. فقد بناها الدانماركيون عام 1660 كحصن كبير وأُعيدَ بناؤها في عدة مناسبات واستُخدِمَت كمقرّ للحكومة في ظل الحكم الإستعماري البريطاني وما زالت حتى الآن تؤدي هذا الدور، فقلعة أوسو هي الآن مقرٌ للحكومة الغانية.
وشرحت للبروفيسور ميلز كيف دعمت كلّياً تصورّه لتطوير القارة الأفريقية، وكيف أحبّ أن أساعد قادة هذه القارة الكبيرة لتشكيل أفريقيا جديدة قادرة على التخلص من بقايا ماضي كونها ساحة معركة للقوات الإستعمارية، وعلى أن تصبح ساحة تنافس للقوى الإقتصادية التي تريد أن تستفيد من بضائعها الوافرة من كاكاو وخشب وذهب وحديد خام وفحم وزيت وغاز. وشرحت له أن العالم أجمع، بعد إتلافه أكثر أراضيه الصالحة للزراعة، سيتطلع إلى مساحات أفريقيا الشاسعة الصالحة للزراعة للإستفادة منها في إنتاج الغذاء- لا للفقراء وحدهم بل للجميع.
أكدتُ أنه: "حان الوقت ليستثمر الماليزيون والسنغافوريون وأهالي الشرق الأوسط أموالهم في أفريقيا بدءاً من غانا".
وافق البروفيسور ميلز على ذلك. وقبل مغادرتي غانا، وقّعت اتفاقية لإدارة مصرف فيديلتي آسيا Fidelity Asia Bank في كوالالمبور-ماليزيا والمؤسسة المصرفية الرئيسية- بنك فيديلتي المحدودFidelity Bank Limited في غانا وتقديم الإستشارة لهما، وستدير مجموعة الأعمال الخاصة بنا آياك AIAK أعمال مصرف فيديلتي آسياFidelity Asia Bank ، وبهذا أكون قد عدت إلى عالم المصارف من دون دفع أي شيء من مالي الخاص.
لذا، فمطلبي الأساسي لبناء علاقات بين الأمم والثقافات والحضارات يخدم الآن أفكاري المِثالية في خدمة اقتصاد أفريقيا الناشئ مع أسواق مال ماليزيا وآسيا المتطورة في شكله التقليدي أو أسواق المال الإسلامية التي تنمو بسرعة.
عندما أنظر للحياة الآن، أرى بوضوح مشهد تحوّلي من يساري مثاليّ إلى رأسمالي (يتحلى بضمير)، وها أنا الآن أعود لأكون ذلك الشخص المثالي الذي يهتم بخلق عالم عادل يستطيع الجميع فيه التمتع بنتاج مواردنا العالمية.
لم أعد الآن منقاداً للسعي إلى السلطة أو لامتلاك أو إدارة مصرف ما أو شركات كبيرة. بدلاً من ذلك، أصبحت مهتماً بمشاركة كل ما أملك من معرفة وخبرات اكتسبتها في خلال سنوات حياتي المتقلبة لمساعدة الآخرين على الإستفادة مما يملكون.
استمتعت فعلاً بعملي الجديد كمهندس مالي، ينصح الزبائن ويساعدهم في إدارة أعمالهم المصرفية ومؤسساتهم الأخرى، وحتى الآن ساعدت آياك AIAK بجمع أكثر من 200 مليون دولار أمريكي لمشاريع مالية مختلفة من دون أن نمتلك أي سهم ولم أفكر بنفسي كمصرفي بل كجراح مالي للمشهد دائم التغير في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا.
وأستمدّ الآن فرحي من كسب ثقة الزبائن- من جميع مجالات الحياة و من جمع أنحاء العالم- وخدمتهم جيداً أكثر من أي إنجاز آخر في حياتي. ومِن الفترة الوجيزة التي قضيتها في تعليم الإنكليزية والألمانية والفارسية في سجن البحرين، أصبحت الآن مرشداً ومعلماً وناصحاً في مجال الأعمال، يُوَجّه الناس في عمليات التمويل المالية المعقدة.
واصلت الإنقياد لحبي غير المحدود للعلم وتشجيعي للمعرفة والسعي الدائم إليهما. ومن خلال شبكة معارف باسكال، تمّت دعوتي لإلقاء محاضرة عن التمويل الإسلامي في جامعة سانت غالن في سويسرا في تشرين الأول/أكتوبر 2010 ومحاضرة أخرى في تشرين الأول/أكتوبر 2011. وفي وقت لاحق، قرّرت الجامعة إنشاء حرم جامعي آسيوي في سنغافورة وتعييني كمستشار آسيوي.
ومرة أخرى، أنظر إلى هذا الأمر وكأنه يُكمل دائرة، دائرة بدأت هذه المرة بانخراطي في كلية إنسياد INSEAD لإدارة الأعمال. ووجدت نفسي، عبر هذه المبادرة، أبني جسوراً بين الثقافات من خلال المؤسسات الأكاديمية- وهو شيء يتوافق مع"العلم"، جوهر وجودي.
لم أعد الرجل "التائه" الذي وصل إلى ماليزيا في عام 2002. ومع أن الأمر استغرق الوقت اللازم له، إلا أنه يمكنني القول بصدق كامل إنني خلقت لنفسي بيئة مريحة استمديت منها انجازي الشخصي والعملي. أما نقطة التحول في حياتي فكانت عام 2004عندما تبسم لي الحظ وقابلت تشونغ مي كوين، سيدة ماليزية صينية لطيفة تزوجتها في سيدني-أستراليا عام 2007. ومع وجودها بحياتي، أدركت أنني أجتذب الكثير من الطاقة الإيجابية.
أكثر الأحداث درامية، ويجب أن أعترف بذلك، حصل معي في عام 2009. في بداية شهر آذار/ مارس عام 2009، تلقيت اتصالاً من أحمد حريري، المدير الآسيوي للبنك الإسلامي للتنمية الذي تملكه 55 دولة عربية بما فيها الحكومة البحرينية، وهو شخص لبق. قال لي: "حسين عندي مراسل إحدى أقوى وسائل الإعلام العربية- قناة الجزيرة- و هو يريد أن يكلمك".
سألته: "الجزيرة؟ عمّ يريد أن يكلمني؟". كنت مرتبكاً فعلاً.
أجابني: "يريد أن يجري معك مقابلة ويعرض قصة حياتك في وقت الذروة على قناة الجزيرة".
-"هل تقصد أنهم يريدون مني أن أذهب إلى قطر لإجراء مقابلة معي؟"
أجاب: " كلا، يريدون أن يصوروك هنا في ماليزيا، في بيتك ومكتبك والأماكن التي تذهب إليها سيكون بمثابة فيلم وثائقي ولمحة عن قصة حياتك".
كان هذا خبراً مفرحاً بالنسبة لي، فالعائلة الحاكمة في قطر، حليفة دولة البحرين المجاورة، هي من تمتلك قناة الجزيرة. ومع هذا فإنهم يريدون أن يصوروني أنا– حسين نجادي- كنموذج للمواطن العربي في العالم. وتجدر الإشارة إلى أن عدد مشاهدي قناة الجزيرة يبلغ حوالى 150 مليون خاصة في دول الخليج العربي، ولكن أيضاً في سائر أنحاء العالم. فإذا أنتجوا فيلماً وثائقياً عني، فمن المؤكد أنه سيلفت نظر خصومي في البحرين.
رأيت في هذا الأمر فرصة، تحققت لي أخيراً لأقول الكلمة الأخيرة حول سلسلة الأحداث التي أدّت إلى سجني لسبع سنوات. إنّها فرصة لأفصح عن الحقيقة وأظهرها أمام العائلة الحاكمة في البحرين. كان ذلك خلاصي، وعقابي لآل خليفة. وسيصحح كل الأخطاء التي ارتكبوها. لذلك، وافقت بالطبع على إجراء المقابلة.
وصل طاقم قناة الجزيرة من الدوحة. ورافقني المنتج مجيد مع فريقه لأربعة عشر يوماً في جميع أنحاء ماليزيا لتصويري في البلد الذي اعتبره الآن موطني. وتم عرض فيلمي على القناة ثلاث مرات بعد نشرات الأخبار. شكّل ذلك هزّة سياسية وصفعة لآل خليفة.
وبعد أن عُرِضَ برنامج نجادي على التلفاز في نيسان/ أبريل 2009، لم يتوقف هاتفي عن الرنين، اتصل بي أقارب وأصدقاء في البحرين ليخبروني أنهم شاهدوا الفيلم الوثائقي وأنهم فخورون جداً بي. كان مفيداً جداً لي معرفة أن الكثير من الأشخاص شاركوني خيبة أملي و معاناتي مع العائلة الحاكمة، وكان البرنامج بالنسبة لهم هديّة حقيقة وعدالة مرحّب بها.
هذا وأخبرني أصدقاء بحرينيون ذوو مراكز رفيعة أنه بمجرد أن علمت عائلة آل خليفة بالبرنامج، اتّصَلَت بالحكومة القطرية وطلبت منها وقف عرضه مهما كان الثمن، ولكن لحسن حظي، لم توافق الحكومة القطرية على هذا الطلب، بحجة استقلالية القناة التي يديرها فريق إداري متخصص بدون أي تدخل من مالكيها، أي الحكومة القطرية.
وما زاد من انزعاج الحكومة البحرينية، إعلان قناة الجزيرة، كباقي القنوات التلفزيونية، عن البرامج التالية عبر لقطات قصيرة مدتها ثلاثون ثانية. وقد عُرِضت لقطات من فيلمي بانتظام على مدى عشرة أيام، قبل عرضه كاملاً، مع ذكر وقت عرضه لأول مرة وتاريخه، ومع الإشارة بأنني "شخصية بارزة ليس من البحرين فقط بل من العالم العربي أجمع".
ومرةً أخرى، أثرتُ ضجةً في الشوارع والمقاهي والديوانيات والمجالس في البحرين. أُجمعَ الكلّ على أن الله كان يلقن النخبة الحاكمة درساً، في قصة الشاب البحريني الفقير حسين نجادي.
عشت حياةً يحلم بها الكثيرون. وصلت إلى القمة، ومن ثم هبطت إلى الحضيض المظلم، لكنني استطعت البقاء على قيد الحياة، وعشتُ لأخبر قصتي. وبسبب قناة الجزيرة، أمضيتُ أياماً ولياليَ، في الأمسيات وخلال نهايات الأسبوع، أؤلف هذا الكتاب. فبعد البرنامج، طلبوا منّي توثيق المحاكمات التي خضعت لها، والأحداث التي مررت بها. ولا بد من القول أنها كانت عملية مُسَهَّلة.
وبما أني استرجعت ماضيّ، توصّلت إلى رؤية الأمور بوضوح أكبر؛ تجلّت في ذهني الأحداث التي كانت تبدو لي مشوّشة. أصبحت فلسفياً أكثر تجاه أولئك الذين أعتقد أنهم ظلموني.كل إنسان يحصد نتيجة ما يزرعه. أصبحت حياتي حلقة متكاملة: فأنا رجل متصالح مع نفسي وزوجتي اللطيفة وحياتي. ولديّ عمل مناسب ومفيد يبعث فيّ الشعور بالرضا. ولديّ أصدقاء جيّدون أستمتع بحياتي معهم، وتربطنا علاقة طويلة مبنية على الإحترام والصدق. كما أنه لديّ عائلة وأقارب في إيران والبحرين، أتواصل معهم دائماً وأزورهم. أشتاق إلى أمي كثيراً وأنا أعلم أن الفضل في حظي الجيد يعود إليها فقوة حبها لي وتقواها أنقذاني من الموت في عدة مواقف. أفكّر بها وبأبي دائماً وأرسل لهما حبي عبر أفكاري. باسكال هو الآن جزء من حياتي، ويمدني بطاقة وعنفوان الشباب. ومع وجود مي بجانبي وكل الحظ الجيد الذي أتمتع به، أشكر الله على نعمه، وأحاول، بطريقتي الخاصة، معرفة معنى كل هذا. أنا على يقين أن لكل هذا معنى عميق، وإلا ما كنت لأبقى هنا حتى الآن.
خاتمة
لم تشارف حياتي وقصتي على النهاية، لذا فالخاتمة غير مسموحة حتى الآن، ومازالت سابقة لأوانها. وعلى العكس تماماً، يُحَفّزني نموي الشخصي. أنا متفائل لأن هناك أدوار إضافية سألعبها على مسرح الحياة. وإن كان هناك فائدة واحدة من الإستغراق في ذكرياتي فهي الإدراك أن حياتي عادت إلى نقطة الانطلاق وبقوة. واليوم، أجد أن صوتي يؤثر بشدة في الأجيال القادمة في وقتٍ تقاعد فيه الكثيرون من أبناء جيلي.
بالطبع، أنا أتكلم عن سلسلة ثورات الربيع العربي المصيرية والضغط الجماعي المستمر على السلطات. وفي الوقت الذي اهتزت فيه المؤسسات في بعض الدول مثل تونس ومصر وليبيا واليمن، وخضعت لإرادة الشعب في بناء هيكلياتهم السياسية الخاصة -بما فيها مكان ولادتي؛ البحرين- فالطغاة يحفرون لأنفسهم حفراً أعمق. وأصبحوا الآن على الجانب الخاطئ من التاريخ؛ يخاطرون بالسباحة ضد التيار.
أشعر بالثقة الآن لأنني سوف أرى التغيير الذي شنّ أصدقائي والمواطنون حملات لإحداثه في شبابنا- الذين يقضي الكثير منهم أفضل سنواتهم في النضال ضد الإضطهاد والظلم. ويريحني كثيراً أن أعلم أن جهودهم وتضحياتهم- ومعها جهودي وتضحياتي- لم يذهبوا سدىً، وأننا سنشهد قريباً يوم انزلاق وغرق عائلة آل خليفة- ومعها حكام العالم العربي المستبدين- وذهابهم إلى مزبلة التاريخ.
أما بريطانيا، فتبقى العمود الفقري الذي يدعم العائلة الحاكمة في البحرين التي تحكم البلد منذ حوالى 200 عام. وقد غضّت الحكومة البريطانية نظرها عن القمع الوحشي الذي أبقى شعباً كاملاً تحت الحصار. وأثناء ذلك، تجني هذه الحكومة أرباحاً من مخصصات الحكومة البحرينية جراء بيع البضائع والخدمات التي تُستَخدَم لاضطهاد الشعب. وقد تلقى الموقف البريطاني الجشع الذي يخدم مصالح حكومته الذاتية انتقاداً جماعياً من باقي دول العالم وكذلك من داخل المؤسسة البريطانية السياسية نفسها والصحافة المحلية.
ويدّعي المسؤولون البريطانيون أنه ليس بوسعهم فعل أي شيء للضغط على نظام آل خليفة وجعلهم يوقفون انتهاكاتهم الوحشية لحقوق الإنسان. ولكن العكس صحيح، بالطبع. فبريطانيا تملك أقوى نفوذ على البحرينيين، وهي حبل نجاتهم الوحيد. أما الوضع الميداني، فهو يناقض كل الديمقراطيات الليبرالية التي يدعمها الغرب، ويمثّل كل ما يشجبونه، فلا يوجد أساس أخلاقي يمكن للبريطانيين ادعاء الارتكاز إليه، إلا التهديد بانعدام الأمان في حال وضع الايرانيون يدهم على الفراغ الذي سيخلّفه سقوط النظام.
إنّ المطالبة بحرية البحرين وحقوق مواطنيها هي مطمح بحريني يشتعل في صدر كل مواطن، فأكاذيب الظلم كما النفاق تُذكي النار أكثر من أي وقت مضى. أما إيران، فلا يد لها في ذلك. هي لم تقم بذلك في أيام تشارلز بلجريف و"المستشارين" البريطانيين، وهي حتماً لا تفعل اليوم. بدلاً من ذلك، يجب أن تدرك بريطانيا أنها ستُثَبّت فى نظر البحرينيين صورة إيان هندرسون "جزار البحرين" التي ما زالت حادة اليوم مثلما عهدتها في أيامي. وبالنسبة لأمة عظيمة، لها إنجازات ملحوظة، سيشكل ذلك علامة سوداء في تاريخها.
آن الآوان لكي تدرك الحكومة البريطانية أنه ليس من مصلحتها أن تقف ضد موجة الإنتفاضات. قد لا يترك آل خليفة الحكم من دون صراع، لكنهم سيتركونه عاجلاً أم آجلاً. إنّ جيلاً جديداً من أبناء بلدي يعاني من شبكة فاسدة من رجال الشرطة السرّيين –المُدَرّبين جيداً، الحاذقين ولكن الدمويين والسفاحين- ومن تقنياتهم في التجسس والضرب والسجن والقتل. وأشعر بتقارب وتشابه مع المتظاهرين، فهم شركائي في المقاومة في مسيرة نضال الشرفاء من أجل الكرامة والحرية وحقوق الإنسان في وجه دولة مارقة، ولا يمكن لأي رقابة أو دعاية تغييرهذه الحقيقة.
هوامش: