هيثم الحداد: يوم النطق بالحكم، قررنا أن نلعب الكرة بنزاهة بدل أن يلعب بنا القضاء بلا ضمير (2)

2013-11-11 - 12:30 م

مرآة البحرين (خاص): "عوملت مثل إرهابي خطير فار من يد العدالة، ُقبض علي من خارج بلدي مثل مجرم هارب، نُقلت معصوب العينين موثق اليدين عبر طائرات خاصة وبين مطارات عسكرية مثل إرهابي خطير، 10 شهور عشت وعائلتي وأطفالي أسوأ أيامهم ولياليهم ونحن لا نعرف إلى أي مصير سينتهي حكمي، تصدّرت صورتي الصفحات الأولى للإعلام الرسمي باعتباري إرهابياً وتم التشهير بي وبسمعتي وبولائي لوطني، ثم بعد كل هذا يقال لي: براءة!! خلاص روح بيتكم!! انتهى!! ومطلوب مني بعدها أن أكون ممتناً لأنهم برؤوني؟!! رغم فرحي بالحرية وامتناني لله ولدعاء الأحبة، إلا أنه لا شيء مما لحق بي وبعائلتي يمكن أن يُغفر أو ينتهي، لا شيء"

هكذا قال هيثم الحداد (35 عاماً) لـ«مرآة البحرين»، متهم الخلية الإرهابية المسمّاة بخلية جيش الإمام. اعتقل في 21 يناير 2012، أفرج عنه بعد تبرئته في جلسة نطق الحكم الأخيرة في 3 نوفمبر 2013.

في هذه الحلقة، يروي لنا (هيثم) تفاصيل تعرّفه الأول بالموقوفين معه في مركز شرطة المطار، وكيف بدؤوا يشبكون الخيوط ليعرفوا أنهم جميعاً داخل قضية واحدة:

يصف (هيثم) سجن مركز شرطة المطار: يتكون من صفين من الزنازن المتقابلة، في كل صف 3 زنازن. واجهات الزنازن عبارة عن قضبان حديدية، أي أنها مكشوفة على بعضها البعض، لكن تم وضع ستارة ثقيلة جداً خلف القضبان لكي لا يرى أحدنا الآخر. في هذه الأثناء كنت أرى من الأسفل أقدام تتحرك، وأصوات أبواب الزنازن تفتح وتقفل، ويتم إدخال أشخاص إليها، لم أكن أعرف أكثر من هذا. لم يكن مسموحاً لنا بالكلام، ممنوع حتى مناداة الشرطي، قيل لنا أي أحد يحتاج لشيء يدق على القضبان وسوف نأتي نحن.

خلال أيام قليلة فقط بدأنا نتعود على الوضع الذي كنا فيه، وبطبيعة الحال، فإنك ما أن تتعود، حتى تبدأ في التمرد، ذلك أن رهبة الوضع الجديد والمكان الجديد والمعاملة الجديدة تنكسر تدريجياً. بدأ تمردنا بأن ننادي الشرطة بأصواتنا بدل الطرق على الباب المفروض علينا، هدفنا أن يسمع بعضنا صوت الآخر لنعرف من هناك، كان أول صوت تعرفت عليه هو صوت (علي صنقور) الذي أعرفه شخصياً بحكم وجود تعاملات مسبقة بيننا في مجال (الآي تي)، لا أعرف أحداً من أصحاب الأصوات الأخرى.

بعد أيام قال لي الشرطي: "لأنك حسن السير والسلوك بنشيل الآسيوي اللي معك وبنجيب لك واحد عربي". ظننت أنه يقصد عربي غير بحريني. أدخلوا (مازن الونّة) وكان حينها في حال يرثى له من التعب والانهاك (اعتقلوه بعدنا بحوالي 5 أيام)، كان للتو عائداً من التحقيقات. لم أكن أعرفه حينها، قلت له: شكلها جايدة (أي تبدو شديدة التعقيد)، قال نعم، عرفت من رده أنه بحريني، سألته من أين أنت؟ قال: من سترة، سألته عن قضيته، أجاب: سوالف أسلحة وتدريب. كان منهاراً من شدّة التعب، تركته لينام، استغرق في النوم حوالي 5 ساعات.

بدأنا نألف أصوات بعضنا في الزنازين الستة، تمكن مازن من تمييز صوت (سيد محمود فضل) لأنه على معرفة سابقة به من خلال نادي الفروسية وسباقات الخيل. كنا موزعين وفق الشكل التالي:

سيد فيصل العلوي
علي السماهيجي علي صنقور

سيد سعيد العلوي

علي الحايكي

هيثم الحداد

مازن الونّة

سيد محمود فضل

بدأنا نتعارف، وبدأ كل واحد منا يستل من الآخر طرف الكلام. عرفنا أن البعض تعرض للضرب والتعذيب الشديد مثل (سيد سعيد وصنقور) وقد بقيت عليه آثار التعذيب لفترة. بعد الأسبوع الأول فهمنا أننا جميعاً في القضية ذاتها. كنا نتحدث بتحريك الشفاه وننبس بالكلام كي لا تلتفت لنا الشرطة، لم يكن مسموحاً لنا بالتحدث إلى بعضنا البعض ولا رؤية بعضنا، ولم يكن أي منا يرى الآخر خلف الستائر الغليظة، حتى عندما يريد أحدنا استخدام الحمام لا يسمح له المرور إلا بعد التأكد من خلو الممر من أي أحد.

كنا نستغل وقت غداء الشرطة لنتحدث، ما إن نسمع قرقعة الصحون والقدور، حتى ينسحب كل منا من تحت ستارته ليرى ما يمكن أن يظهر من وجه الآخر. كان الأسهل لنا رؤية (السماهيجي) لأنه في الزنزانة المقابلة لنا مباشرة. لهذا كان هو أول من تعرفنا إليه. أحياناً كنا نقف فوق أسرّتنا ليطل أحدنا على الآخر في الزنزانة المجاورة من خلال الفتحة في الأعلى ونتحدث بالإشارة. تأخرت معرفتنا ب(سيد سعيد) و(علي الحايكي) فزنزانتهما أقرب إلى مكاتب الشرطة وكان الوضع أصعب بالنسبة إليهم في التواصل معنا. (الحايكي) المصاب بالسكري يتم أخذه مرتين في اليوم ليعطى جرعاته من الإبر الخاصة بمرضه.

عرفنا بعد شهر أننا نواجه التهمة التي عرفت بـ(خلية جيش الإمام) بعد أن جاء اتصال لـ(علي صنقور) من عائلته يخبروه فيها بصورنا المنشورة وتهمتنا المزعومة. ورغم أن الصحف يتم إحضارها إلى المركز بشكل يومي إلا أنهم أخفوها عنا في اليوم الذي نشرت فيه صورنا وتم التشهير بنا. وفي الزيارة التالية لعوائلنا عرفنا كل شيء.

في أحد الأيام بعد انتشار قضية الخلية، تم نقلنا إلى التحقيقات مرة أخرى. أخذونا فرداً فرداً وتركوا كل منا في غرفة منفصلة عن الآخر. كان التحقيق استفزازا وإهانة أكثر من أي شيء آخر. عن نفسي أبقوني واقفاً طوال اليوم مصمدة عيني وموثقة يدي بالهافكري بلا صوت ولا نفس، كمن يشفي غليله من لا شيء، لم يتم حتى التحقيق معي، أعادونا ليلاً.

في تاريخ 23 مارس فوجئنا بهم يأتون إلينا، ويبدؤون في إزالة الستائر عن واجهات الزنازن. آآآه كانت لحظة فريدة لا يمكن وصفها. لم نصدق أعيننا من الدهشة، كمن كان يعيش العمى وها هو يبصر للمرة الأولى ويرى حوله من كان يسمع أصواتهم طوال الوقت. شعرنا أن الشمس للتو أشرقت على كامل السجن أو كأنه أُفرج عنا، للمرة الأولى شاهدنا بعضنا وجهاً لوجه، كنا طوال الشهرين السابقين بالكاد نرى مقاطع من وجوه بعضنا من أسفل الستائر أو من فوقها، أخيراً انفتح بعضنا على الآخر بلا حواجز رؤية وإن بقت حواجز القضبان، أذكر أننا بقينا طوال تلك الليلة نتحدث ملتصقين بالقضبان متربعين يقابل بعضنا البعض وفرحة تغمرنا كالأطفال. صباح اليوم التالي أخذونا جميعاً إلى سجن الحوض الجاف ووضعونا في عنبر 10 مع بقية المعتقلين، عدا (سيد فيصل) الذي أُخذ وحده إلى سجن أسري لأنه عسكري سابق.

بدأت جلسات المحاكمة. استغرقت 6 جلسات. في الأولى تم إلقاء التهم علينا، وفي الثانية أحضروا متهمين جدد. شهدت هذه الجلستان فوضى وانفعال كبير من المتهمين الذين لم يسمح لهم القاضي (الظهراني) بالحديث عن معاناتهم. في الجلسة الثالثة أحضروا شهود الإثبات الذين لم يكونوا سوى المحققين الذين حققوا معنا، لم يكن هناك أي إثبات أو أدلة سوى الاعترافات التي تم توقيعها تحت الترهيب والتعذيب. في الجلسة الرابعة أُحضر شهود النفي، وفي الخامسة مرافعة عامة، وفي السادسة النطق بالحكم. كنا قد امتنعنا عن حضور الجلسات التي وجدناها أقرب للمهزلة، وبدأنا نهيئ أنفسنا للأسوأ من الأحكام.

طوال وقت وجودنا معاً في السجن، كان كل منا يصبّر الآخر ويواسيه، ومع اقتراب جلسة النطق بالحكم قررنا أن نعد أنفسنا للأسوأ وكذلك فعلنا مع عوائلنا. قلنا لبعضنا البعض "أنت محكوم محكوم، فلا داعي لأن تعيش فترة حكمك تعيساً، لا تخسر ما لديك، لا تسمح لداخلك أن يتحطم، تكيّف مع ما لديك، وعشه كأفضل ما يمكن أن تستفيد منه، الحكم مجرد رقم، والأرقام تنتهي، لكننا باقون، وسينتهي كل شيء وسنخرج". كان ذلك يعطينا القوة، نعلم أن الاستبداد نفسه قصير، وأن الحق نفسه طويل، لهذا ينتهي الأول ويبقى الثاني. هكذا قررنا أن لا يحطمنا الحكم الذي سيصدر في حقنا، بل أن نحطمه نحن بصمودنا.

قررنا أن لا نحضر جلسة المحاكمة، وأن لا نخسر وقت الرياضة الذي سيتصادف مع وقت المحاكمة، إذ أن وقت رياضتنا هو بين الساعة 6-9. قررنا أن الرياضة أهم من جلسة المحاكمة. وهذا ما حدث، استيقظنا إلى صلاة الصبح وأديناها بروح عالية. بعدها تناولنا إفطارنا عند الخامسة والنصف كعادتنا، ثم خرجنا إلى (الفنس) وبدأنا نمارس رياضتنا ونلعب الكرة. انتهينا من اللعب عند الساعة التاسعة واستحممنا، وبدأنا نعد أنفسنا لنقلنا إلى سجن (جو) بعد صدور الأحكام التي توقعناها 15 عاماً فما فوق، وفقاً لما صدر في قضايا مشابهة.

كان صاحب الصورة الأشهر في ثورة 14 فبراير (علي صنقور) أول من علم بالأحكام عندما اتصل بزوجته للاطمئنان عليها.

أخبرته بالحكم الصادر في حقّه فقال لها ممازحاً: "بس 15 سنة؟! فشيلة!! كل هذه التهم وبس 15 سنة؟ لا تقولين لأحد تفشليني"، قالت له أيضاً هناك من تمت تبرئتهم، هنا صرخ من الفرح وسأل عن الأسماء، وجاءنا يرقص فرحاً حاملاً البشارة، المحكومون نسوا أحكامهم القاسية وفرحوا لنا وهللوا ورقصوا فرحاً بنا. تفاجأنا بحكم البراءة الذي شمل 14 بحرينياً متهماً بعد أن تم نشر صورهم والتشهير بهم إعلامياً وحبس 5 منهم طوال هذه المدة، 9 آخرين في خارج البحرين. لم نتفاجأ بالأحكام الأخرى التي تهيأنا لها: 4 حكم بالسجن المؤبد، والباقي 15 عاماً سجن. كانت دهشتنا كبيرة بالبراءة لكن فرحتنا بقت مخنوقة من أجل رفاقنا.

يصعب علينا أن نغادر رفاقنا الذين عاشرناهم طوال هذه المدة بحلوها ومرها، رفاقنا الذين صاروا إخوة لنا نلعب معاً ونمزح ونأكل ونشرب وننام ويقوي بعضنا بعضاً. يصعب علينا أن نتركهم الآن وحدهم ونغادر مثل رفيق تخلّى عن رفيقه، أن نتركهم يواجهون الأحكام القاسية وحدهم، كان هذا أصعب ما في تلك اللحظات الأخيرة التي قضيناها معاً..

"السجن مقبرة الأحياء"، لم أشعر يوماً بعمق هذه المقولة إلا عندما عشت تجربة أن أكون مقبوراً وأنا حياً، بعيداً عن العالم وعن كل شيء، لقد أخذت مني هذه المقبرة الوقت الذي يجب أن أكونه داخل العالم، داخل عائلتي، داخل حياتي. لكنها أيضاً أعطتني الكثير، ففي داخل السجن الصبر ليس خياراً، والتحمّل ليس خياراً، بل عليك التحمّل أكثر، ستكون نفسك صافية أكثر، لذا فعلاقتك بربك ستكون أكثر صفاءً أيضاً، ستعود إلى محطات رئيسية في حياتك لتعيد التفكّر فيها، وسترى أن وعيك ونضجك يكبران سريعاً، إنها مدرسة السجن رغم كونها مقبرة.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus