شوكة الأطباء - الحلقة الأولى

2011-06-26 - 4:48 م



 
"كان الأطباء، السمكة التي أرادت السلطة أن تبلع بها حقيقة ضحاياها، فابتلعتها سريعاً في قضمة واحدة، ونست أن الشوكة أخطر ما في السمكة" مراقب

مرآة البحرين (خاص): لماذا الأطباء والكادر الطبي أكثر من غيرهم؟ ما الخطر الذي يمثله وجود هؤلاء على السلطة؟ كيف سار سيناريو الأحداث في مستشفى السلمانية الطبي منذ ١٤ فبراير حتى الآن؟ وكيف عاش الكادر الطبي الأوقات العصيبة وغير الاعتيادية التي فاجأته بشكل لم يكن مهيئاً لها؟ وكيف تطورت الأحداث المتلاحقة خارج المستشفى، وما تأثيرها على الداخل؟ وما الذي عايشه الأطباء من إذلال وتنكيل داخل مستشفى السلمانية والمراكز الصحية المختلفة، وداخل زنازين السلطة؟
كل هذه التساؤلات، سيحاول هذا التقرير الدخول في تفاصيلها على شكل حلقات. مصادرنا هي شهادات من عناصر الكادر الطبي الذين لن نتمكن من ذكر أسمائهم، والحوادث الموثقة والبيانات، بالإضافة إلى إفادات الأطباء والشهود المدونة في محاضر الأمن التي حصلنا عليها بشكل خاص.
    
 البداية

البداية كانت في 14 فبراير. اليوم الأول لبدء الاحتجاجات التي تحمل شعار "الشعب يريد إصلاح النظام" رجال الأمن يقمعون الاحتجاجات السلمية التي خرجت في مناطق متفرقة من البحرين. مستشفى السلمانية تصله عدد من الحالات والإصابات والاختناقات بالغازات المسيلة للدموع، قبل أن تصل حالة الوفاة الأولى، إنه علي مشيمع (21 سنة) أول ضحية في الأحداث. ما يقارب من الـ 50 متجمهراً من أقارب مشيمع توافدوا فوراً إلى المستشفى. تزايد العدد بعد ساعات ليصير 800 حسب إفادة الرئيس التنفيذي للمستشفيات وليد المانع، في ملفات التحقيق، لم تتمكن إدارة المستشفى من إخراجهم، قوات الأمن العام وصلت المستشفى مبكراً، لكنها لم تتمكن من السيطرة على الجماهير الغاضبة، المتجمهرون دخلوا غرفة الإنعاش حيث جثة مشيمع. الإعلام الخارجي كان هناك، دخل غرفة الإنعاش والتقط صور جثة مشيمع. وحسب إفادة وليد المانع، فإنه عند إخبار الوكيل المساعد لشؤون المستشفيات الدكتور أمين الساعاتي، أجاب أنه لا يستطيع القيام بشيء. تم نقل الجثة إلى المشرحة. الفوضى لا تزال قائمة في المستشفى حتى حضر نائبان من جمعية الوفاق، استطاعا السيطرة على المتجمهرين، غادر المتجمهرون الساعة الواحدة صباحاً. الأمن أيضاً وصلهم الأمر بالإنسحاب، انسحب الجميع.

"الأطباء المتهمون لم يكونوا حاضرين هذا المقطع من الحدث، إدارة مستشفى السلمانية وحدها كانت من يدير الوضع هناك، لم تتمكن الإدارة من السيطرة على هذا العدد القليل نسبياً من المتجمهرين الغاضبين، رغم أن خطة الطوارئ كانت قد وضعت قبل هذا الحادث بأيام، وذلك إثر الاعلان عن تاريخ بدء الاحتجاجات الشعبية في شبكات التواصل الاجتماعي" تقول إحدى الطبيبات.
 
في إفادته التي أدلى بها إلى النيابة، يؤكد المانع أن الوزير السابق فيصل الحمر وجه إلى اجتماع للاستعداد لإدارة الأزمات من باب احترازي، ترأسه الوكيل الساعاتي، وتم فيه توزيع المهام على المسؤولين في المستشفى للقيام بالإجراءات اللازمة. لكن منذ اليوم الأول، فشلت  تلك الإدارة في (إدارة) الأزمة الاحترازية.

 صباح 15فبراير
 
صباح 15 فبراير تشييع القتيل الأول. تجمهر المشيعون عند مستشفى السلمانية منذ الصباح الباكر، الأمن أيضاً.
الأمن يقوم بضرب المتجمهرين بمسيلات الدموع والرصاص المطاطي. الجنازة تخرج من السلمانية إلى منطقة البلاد القديم ثم تنعطف يمين منطقة جدحفص وتنتهي عند مقبرة السنابس. لكن حدثاً آخر يجعلها لا تنتهي "كنا في الجنازة عندما سمعنا بسقوط القتيل الثاني" يقول أحد المشاركين. إنه فاضل المتروك (32 سنة) سقط أثناء خروجه للمشاركة في تشييع الأول. التجمهر يعود إلى مستشفى السلمانية في عدد أكبر. الغضب يتصاعد، الهتاف يحتد: "الشعب يريد إسقاط النظام".
 
ظهراً، يخرج الملك على شاشة التفزيون، يعرب عن أسفه للحدث الذي وقع: "على ضوء ما جرى من حوادث متفرقة يوم أمس واليوم وكانت هناك للأسف وفاة لاثنين من أبنائنا الأعزاء، وعليه نتقدم بتعازينا الحارة لذويهما وأن يلهمهم العلي القدير الصبر والسكينة والسلوان. كما ليعلم الجميع بأننا قد كلفنا سعادة الأخ جواد بن سالم العريض نائب رئيس مجلس الوزراء بتشكيل لجنة خاصة لمعرفة الأسباب التي أدت إلى تلك الأحداث المؤسفة التي جرت".

يتم تشييع المتروك بتاريخ 16 فبراير دون تدخل رجال الأمن، وذلك في اليوم الثاني من الوصول للدوار الذي كان خالياً أيضاً من رجال الأمن . وهذا ما أتاح لعشرات الآلاف أن تتوافد حاملة غضبها إلى دوار اللؤلؤة. في مساء 15فبراير بدأ نصب الخيم والتمهيد لاعتصام أعلن أنه يمتد حتى تحقيق المطالب.

خيمة الأطباء

الحضور الرسمي للأطباء بدأ من هنا. المقدمات السابقة، جعلت عدداً من الأطباء يتفقون على أهمية وجود خيمة طبية في مكان الاعتصام، تحسباً لأي طارئ أو حادث غير متوقع.
   
تم نصب خيمتين طبيتين، تم تجهيزهما بمواد أولية، الطبيب علي العكري تجري محاكمته الآن بتهمة سرقة مواد طبية للخيمة. لكن وثيقة تم تسريبها تقول غير ذلك، وفيها طلب رسمي قدمه عبد الحي العوضي رئيس بمجمع السلمانية الطبي، إلى وليد المانع الإداري التنفيذي، أن يوفر مواد وأجهزة صحية للعيادة في دوار اللؤلؤة، وذلك بناء على طلب من الدكتور علي العكري. هكذا تقول الوثيقة الرسمية التي نشرتها "مرآة البحرين" قبل أسابيع.
 
هناك أطباء، أحضروا معدات من عياداتهم الخاصة، ووضعوها في الخيمة "تركتها على أن أستعيدها بعد انتفاء الحاجة لها، لكنها ذهبت جميعها في الهجوم الأول على الدوار" يقول أحد الأطباء.
  
بدأ التنظيم لأوقات العمل على 3 فترات، على أن يكون هناك طبيب مناوب واحد في كل فترة. الوكيلان المساعدان مريم الجلاهمة وأمين الساعاتي، اقترحا إعطاء الأطباء المناوبين بدل مناوبة، سواء في الرعاية الصحية الأولية أو الثانوية. الأطباء رفضوا، اعتبروا أنهم يقومون بعمل تطوعي لخدمة المصابين "لم يكن هدفهم الخروج ضد النظام ولا أن يهتفوا ضده، هم ليسوا سياسيين، بل أطباء، يؤمنون أن إسعاف المصابين واجباً إنسانياً ومهنياً" يقول أحد الأطباء.

الأمور سارت على نحو هادئ فيما تبقى من يوم 15 فبراير، استمر كذلك طوال اليوم التالي، آلاف المعتصمين ينصبون خيماً جماعية يطالبون بالإصلاحات، مستشفى السلمانية غاب عن الحدث منذ ظهر الدوار، خيمتا الأطباء كانتا تمثلان الحضور الاحترازي هذه المرة.

فجر17فبراير الطويل

فجر 17 فبراير، كل من الطبيبين علي العكري وصادق العكري في مناوبتهما الليلية في خيمتي الأطباء مع بقية الطاقم الطبي. كان حدث آخر ينتظر الجميع. حدث لم يتوقعه أحد منهم ولم يتخيلوا وحشيته. هجوم مباغت من قوات الأمن عند الثالثة فجراً في هدوء الخيام والناس. الطبيبان تعرضا إلى هجوم مباشر، وشاهدا بأعينهما وحشيته مع وجود النساء والأطفال. اقتحم الأمن الخيمة التي يناوب فيها علي العكري. قال لهم: رجاءً لا تضربوا، جميعنا طاقم طبي أتينا فقط لحالات الطوارئ. تم القاء مسيلات الدموع داخل الخيمة. أخرج العكري معه عدد من الطاقم الطبي في سيارته وتوجهوا إلى مستشفى السلمانية.
  
صادق العكري كان في الخيمة  الأخرى، غادرها قبل أن يتذكر أن أحد أفراد الطاقم الطبي نائماً هناك. عاد ليطمئن عليه فداهمته قوات الأمن. لم يشفع له رداءه الأبيض وإخباره لهم أنه طبيب. تم ركله بالأحذية وضربه بالهراويات والأسلحة، فكانت إصابته التى نقل على إثرها إلى غرفة العمليات.

نداء الاستغاثة لسيارات الإسعاف أطلق مباشرة بعد وصول خبر ضرب الدوار، خرجت بين الساعة   3:30- 6:30 صباحاً فقط، اختفت بعدها.
المصابون لجأوا إلى مجمع السلمانية الطبي، اعتبروا الحرم الطبي مكاناً آمناً، الطاقم الطبي في حالة ذهول. لا أحد يعرف حجم المصابين وعددهم وإصاباتهم. الحالات والإصابات بدأت تتوافد إلى المستشفى في سيارات خاصة. بدأ التجمهر مرة أخرى. هذه المرة بغضب أكبر وهيجان أكبر وعدد أكبر. الحدث كان صادماً للجميع، قتيلان سقطا وعشرات الجرحى توافدوا  على المستشفى.

بعد الساعة الثامنة صباحاً، حدث ثوران شعبي عارم، أعداد غفيرة احتشدت عند المستشفى. المحتجون حاولوا العودة للدوار. قوات الأمن واجتهم بمسيلات الدموع والرصاص المطاطي والإنشطاري عن قرب، إلى الحد الذي تم فيه تفجير رأس ضحية ثالثة بتصويب مباشر، الحادث، شهدته الصحفية نزيهة سعيد ونقلته للإعلام، وفي شهادتها الشفهية لمرآة البحرين، أضافت أنها شاهدت كذلك فيما تظنه الشهيد على المؤمن وفق المواصفات التي قرأتها لاحقا عنه. إصابات مختلفة ومتفاوتة دخلت المستشفى، إحدى الحالات تعرضت لإصابة بالرصاص الإنشطاري في الرقبة، تم إنقاذها، بعد عمل الأشعة لها اتضح أن الرصاص الإنشطاري منتشر في كامل الرئة، لكنها نجت من الموت.
 
قوات الأمن تقدمت من جهة الدوار باتجاه مجمع السلمانية. وصلت مستشفى الطب النفسي، وهنا بدأ منع المسعفين من الوصول إلى الدوار، تم توقيف المسعفين وضربهم.
الأطباء في مفاجأة الحدث والتعامل مع الحالات التي تصل إليهم، وفي ترقب ما يصلهم من حالات جديدة. الطوارئ تحول إلى فوضى عارمة بسبب العدد الكبير من أهالي المصابين والمتجمهرين. الأطباء قالوا سنخرج مع سيارات الإسعاف لاحضار المصابين من الدوار، لكن سيارات الإسعاف اختفت فجأة. عندما سأل الأطباء عنها أخبرتهم الإدارة أنه بسبب التجمهر وعدم قدرتها على التحرك بسهولة، فقد تم سحب السيارات إلى مركز كانو الصحي. أطباء ذهبوا إلى مركز كانو الصحي ليخرجوا مع الإسعاف من هناك، لكنهم تفاجئوا أن الباب مقفل من الخارج . كانت الساعة لا تزال التاسعة صباحاً، الإصابات لا تزال تأتي السلمانية بسيارات مدنية.


الإسعاف الحائر

بين الساعة التاسعة والحادية عشرة، يبدأ استنفار الأطباء، كيف يمكن الوصول إلى الحالات التي لا تزال في الدوار، وسط الحصار الأمني الذي أغلق كل الطرق الموصلة إليه، وكيف يتأكد الأطباء أنه تم إخلاء الدوار من الجرحى والمصابين. الإسعاف ممنوع من الوصول إلى مكان الحدث والمسعفون تعرضوا للضرب وتم سحب سيارات الاسعاف منهم. مجموعة من الأطباء تذهب للالتقاء بوليد المانع ليتم السماح للإسعافات بالخروج. بعد الساعة11:30 يأتي الإذن بخروج الإسعافات من الوزير. منذ السادسة والنصف وحتى الحادية عشرة والنصف كان الإسعاف ممنوعاً من الوصول إلى الدوار "لا أحد يعرف سبب منعنا من الوصول إلى الدوار قبل هذا الوقت، لا تفسير له سوى أن الأمن كان لديه مهمة خاصة ينجزها هناك طوال الساعات الخمس هذه، وعندما انتهى من مهمته الخاصة، سمح للاسعاف والكادر الطبي بالوصول" تقول إحدى الطبيبات.
 
قبل الإذن للإسعافات بالخروج، كانت حالة أقرب إلى الثورة الغاضبة يعيشها الطاقم الطبي. عند بوابة قسم الطوارئ انقسم الأطباء إلى قسمين. فريق يقول بالخروج والتظاهر احتجاجاً على منع سيارات الإسعاف من الوصول للجرحى. هذا الفريق يضم علي العكري الذي كان شاهداً على وحشية الهجوم وما أصاب قريبه صادق العكري. الفريق الآخر يضم زميله نبيل تمام، ويرى أن يبقى الأطباء لمعالجة المصابين. خرجت المجموعة في مسيرتها الاحتجاجية بشكل عفوي وتحت تأثير الحدث الساخن الذي عايشه الكادر الطبي للمرة الأولى في تاريخ البحرين. المجموعة الثانية اجتمعت بعد أن أعطاها الوكيل أمين الساعاتي الضوء الأخضر، وتم الإعلان في أجهزة المناداة داخل السلمانية عن اجتماع للأطباء، حضره ما يقارب 50 طبيباً، الهدف هو التهدئة ومحاولة الوصول إلى حل مشكلة الفوضى التي كانت  قد سيطرت على المستشفى بالكامل.
 
في الاجتماع تم الاتصال برئيس  جمعية الأطباء أحمد جمال والنائب علي ابراهيم. بعدها يصدر بيان إدانة من الجمعية: "إن ما حدث هذا اليوم من استخدام للعنف المفرط والغير مبرر من قبل أجهزة الأمن والذي نتج عنه وفيات وإصابات بالغة بين جموع المواطنين المعتصمين سلميا بكفالة الدستور والأعراف الدولية لمهول وغير مقبول، كما أن منع الطواقم الطبية والمهنية من أداء واجبها في إسعاف المصابين ونقلهم إلى المستشفى أمر لا تقره الشرائع الدولية والإنسانية وعليه، فإن كل من جمعية الأطباء البحرينية وجمعية أطباء الفم والأسنان البحرينية، تدين وتستنكر هذا العنف غير المبرر تجاه المواطنين المسالمين والطواقم الطبية التي تقدم لهم الإسعافات اللازمة، والذي نتج عنه أيضاً إصابة عدد من أفراد الطواقم الطبية بجروح بليغة. ونطالب الدولة وعلى رأسها جلالة الملك للتدخل السريع لوقف هذه التصرفات والإجراءات الضارة بالمواطنين والوطن والحيلولة دون بث الفرقة والهلع في صفوف المجتمع الواحد والآمن. والله ولي التوفيق".

الحادية عشرة والنصف، يتزامن خروج الفريق الأول من الأطباء في المسيرة الاحتجاجية، مع اجتماع الفريق الثاني، مع بيان جمعية الأطباء، مع صدور قرار الوزير أخيراً بالسماح للإسعاف بالخروج. الأطباء قطعوا مسيرتهم وركبوا الإسعافات وتوجهو للدوار "لم نجد شيئاً هناك. لماذا إذاً تم منع الإسعاف من الوصول إلى الدوار طوال الساعات الخمس؟ قمنا بمسح المناطق القريبة من الدوار لعل مصاباً هنا أو هناك، لكن لم نعثر على أحد" تشرح إحدى الطبيبات.

هل سيقف هنا ما عايشه الأطباء من أحداث مرعبة؟ الجمعة 18 فبراير، كان حدثاً جديداً أكثر تعقيداً ينتظر الأطباء. نكمله في الجزء الثاني من هذا التقرير.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus