أمين الأسود: المسعف الذي كسر درع الجزيرة رقبته

2011-06-28 - 4:01 م



مرآة البحرين (خاص): "ألو.. أحمد.. ألو، تسمعني، أين أنت، إنّها كارثة.. كارثة.. لا أصدّق ما أراه!". كان ذلك المسعف المُعتقل أمين جعفر الأسود (مواليد 1975)، متحدّثا إلى زميله في العمل، بعد الهجوم الأوّل على دوّار اللؤلؤة فجر يوم الخميس 17 فبراير. يومها، كان المصابون والجرحى يتدفّقون على مستشفى السّلمانيّة، وبحسب أصدقاء أمين من طواقم الإسعاف والممرضين؛ فقد كان كلّ إداريي المستشفى متواجدين، يشاركون في إسعاف الجرحى وتقديم الخدمات الطبية.
 
     ينقلُ أحد الممرضين الذين رافقوا أمين في عمليات الإسعاف الدّاخلية، بأنّ عددا من موظفي المستشفى أنكروا دورهم العلاجي عندما اجتاحت القوّات العسكريّة مستشفى السلمانية بعد الهجوم الثاني على الدّوار في 17 مارس، بعضهم خوفا من الإجراءات العقابية، وبعضهم تحوّلوا إلى معاونين للإدارة العسكرية للمستشفى، وثمّة منْ بادرَ بتقديم قوائم بأسماء الذين شاركوا في معالجة المتظاهرين الجرحى.

     تحاشى المسعف أمين الظّهور في الإعلام، وتمنّع عن ركوب المنصّة مع الأطباء والمسعفين حين اقتحم المتظاهرون الدّوار لأول مرّة، برغم إلحاح الدّكتور علي العكري. لم يكن أمين معروفاً باهتماماته السّياسية، وهو لم يتعرّض سابقا لأيّ إيقاف أمني أو ما شابه، وكان أصدقاؤه يمازحونه بأنّه كان "جبانا ويهرب من أحداث التوتر طوال فترة التسعينات"، وهي الحقبة التي تشكّل فيها الجيل الشّاب الذي ينتمي إليه أمين، وخلالها رأى أصدقاءه وأهله وجيرانه يؤخذون إلى المعتقلات. حياته العادية، وعلاقاته المحبوبة بين الجميع لم تنبئ يوما بأنه كان بانتظار مرحلة مختلفة من حياته.
 
     منذ الأيام الأولى لسقوط الجرحى قرّر أمين اتخاذ طريقه المعروف. تفاجأ كثيرون للتحوّل الذي طرأ على حياته. حدث صراع مرير بينه وبين أهله الذين خافوا عليه، ورأوه يعطي كلّ ما لديه لأجل عمله ناسياً راحته وسلامته. كان يقول لهم: "إنّ عملي مسعفا هو جزء من حياتي، لن أتخلى على هذه المسئولية الإنسانية، مهما حصل لي". إضافة إلى دوامه الرسمي، يقضي أمين أكثر من 8 ساعات إضافية في علاج المصابين ومتابعة الحالات الوافدة إلى المستشفى وفي خيمة الإسعاف بدوّار اللؤلؤة. لم يكن يتقاضى أجرا إضافيا على عمله، ولم يطلب ذلك، وقد تأثر مشروعه الخاص (المطعم) بسبب انشغاله الدّائم في الاسعافات، واضطر إلى ترْك إدارته إلى شقيقه.

     يختصر أحد أقرباء أمين قصّته بالقول إن "أمينا كان في زيّه الرّسمي طوال الوقت. لم أره إلا نادرا بلباسه العادي". كان حاضرا في الإسعاف في كلّ المسيرات الاحتجاجية التي شهدتها البحرين في شهري فبراير ومارس، وحين كان يتردّد بعض زملائه في الذّهاب؛ كان يتقدّم ويتطوّع. يقول أحد زملائه: "كان موجودا بالإسعاف في مسيرة عالي المتوجّهة للدّيوان الملكي، ومسيرة قصر الصافرية، وأحداث المرفأ المالي. كان حاضرا بزيّه الرسمي، ويؤدي عمله بروح مليئة بالتفاني، والجميع لا يُخفي اندهاشه وهو يشاهده في نشاط مستمر ودون توقف".

     يستحضر زميل آخر مشهد أمين وهو ينقل المصابين - بعد انتهاء مسيرة الدّيوان - من أطراف المنطقة إلى المركز الصّحي في عالي. كان في حركة دائمة بين النقطتين لساعات متواصلة، "كان ينقذ المصابين، وهو يبكي بصمت. دموعه كانت في انهمار مؤثر".
 
      المشاهد المروّعة التي يراها أمين كلّ يوم لا تغادره في كلّ الأوقات. ينقلُ أهله أنه كان دائم الشّرود حينما يعود من عمله الطّويل. أحيانا، يردّد مع نفسه كلمات تنمّ عن الاندهاش والحيرة و"كيف يمكن أن يحدث كلّ ذلك؟ هل كان حلما أم حقيقة؟".

معركة سترة

     يوم إعلان قانون الطّوارئ ودخول قوات درع الجزيرة البحرين، وقبل يوم من الهجوم الثاني على الدّوار؛ وصلت مستشفى السلمانية استغاثاتٌ من منطقة سترة التي اجتاحتها القوات ظهرا. كانت الأجواء مشحونة بالرّعب. انتشر الجيش السّعودي في المنطقة، مدعوما بقوات عسكرية متعددة وميليشا مدنية. الأنباء الواردة من هناك تحدّثت عن ضحايا ومجازر يتم ارتكابها في الشّوارع. الهجوم على مركز سترة الصحي، وصورة الشهيد أحمد فرحان؛ أعطت توضيحا كافيا لما كان يجري هناك.
 
     لم يتردّد أمين في أداء عمله والاستجابة للاستغاثات. جهّزَ الإسعاف مع السّائق، وتطوّع معه ممرض وطبيب (الدكتورة حنين البوسطة، ابنة المناضل اليساري أحمد البوسطة) للمرافقة. كان الوصول إلى منطقة سترة أمرا محفوفا بالمخاطر، فالموت ينتشر في الهواء. يقول أمين وهو يصف تلك اللّحظة "تذكرتُ كلام الدكتور علي العكري عندما كان يتحدث عن أجواء غزة حين زارها. دخلنا سترة، وكانت منطقة حرب حقيقية".

     عندما وصلت سيارةُ الإسعاف منطقة سترة، توجّهت إليها القواتُ العسكرية وقامت بملاحقتها وإيقافها. في البدء، تمّ تخريب إطارات الإسعاف لمنعه من التحرّك تماما. ثم أنزلوا الطاقم الطبي وانهالوا عليهم بضرب جنوني وكأنهم كانوا ينوون "قتلنا، فالأسلحة كانت فوق رؤوسنا كلّ الوقت"، يروي أمين. تعرّضت الدكتورة حنين لاعتداءات لفظية بذيئة، وهدّدوها بالاعتداء الجنسي. ولأنه مسعف ومسؤول عن سيارة الإسعاف؛ فقد نال أمينا الحجم الأكبر من الضّرب والاعتداء، وتعرّض نتيجة ذلك لكسر ثابت في فقرة الرقبة الثانية – وهي من الناحية الطبية إصابة محظوظة، وكان يمكن أن تتسبّب له بالشّلل – وبعد تقييد الجميع بقيد بلاستيكي من الخلف، تركتهم القوات على الأرض وأخلت المكان الذي كان يعج بأصوات الشباب وهتافاتهم الاحتجاجية.

     بعد ذلك، تقدّمت نحوهم مجموعة من شباب سترة، وقاموا بإنقاذهم في عملية وصفها شاهد عيان بأنها "تُشبه عمليه إخلاء الجرحى من ميادين القتال". تم توفير سيارة خاصة لنقل أمين والطاقم، ووفّر الشباب طرقا آمنة للانتقال بهم إلى بيت أحد الأهالي.
 
     تفاجأ الطاقم بما رأواه في البيت. لقد أصبحوا محاطين بمجموعات متفرّقة من الجرحى والمصابين الذين أتوا بمهمة معالجتهم. يقول شاهد عيان "كان المنظر غير محتمل. المتظاهرون الجرحى في كل مكان. أحدهم مُصاب بطلقة شوزن في عينه والدّماء تتفجّر منها، وبجانبهم الطاقم الطبي مُصاب وغير قادر على فعْل شيء، والمسعف أمين مُلقى على الأرض والجراح تسبح في كل مكان من جسمه، ووضْعه يقترب من الخطر". يضيف "كانت الطبيبة في ذهول تام، كانت تقول بأن نبض أمين بدأ بالهبوط، وأنها تخاف على حياته. كانت تحاول أن تفعل شيئا، ولكن لا أجهزة طبية، والجرحى الآخرون حولها يملأون المكان بالدّماء وأنّات الألم".

     رغم خطورة الأوضاع، تمكّن شباب سترة مرة أخرى من تأمين سيارة خاصة لإخراج الطاقم الطبي من المنطقة. سلكت السيارة طرقا التفافية، واستطاعت تجاوز القوات المنتشرة في كلّ مكان، ووصلت إلى مستشفى السلمانية. فور وصوله، احتشد الزّملاء حول الطاقم الذي انقطعت الاتصالات عنه تماما، وتم إدخال أمين إلى غرفة الإنعاش بعد عرْضه على الأشعة المقطعيّة. أمر الطبيب المُعالج بوضع "طوق رقبي" لأمين، ولمدة ستة أسابيع. بعد معالجته من آثار الرضوض بالمسكنات، أُدخل في غرفة خاصة بجناح (42).
 
     ينقل زملاؤه أنّ أمينا بقي محافظا على معنوياته العالية، وكان يُبدي أسفه لأنه ما عاد قادرا على أداء دوره في الإسعاف بسبب الإصابة التي تعرّض لها. كان يسأل عن الأخبار، ويستفسر عن جهوزية المسعفين واستعدادهم لعلاج المصابين الذين رآهم في كل زوايا المستشفى.

الهروب من المستشفى

   في اليوم التالي، 17 مارس 2011، بدأت القوات والجيش السعودي بمحاصرة مستشفى السلمانية، وتمت السيطرة عليه كليه وفرْض الحصار عليه. وصدرت أوامر بخروج الموظفين ومغادرتهم المستشفى.

     يصف أحد الممرضين المُحاصرين الوضعَ بأنه "لا يُوصف بالكلمات. بعد يومين من الحصار نفذ الطعام. لم نكن نملك الملابس والمؤن الضرورية". يضيف "فوجئنا بما حدث. لم نكن نتوقّع أن تتم محاصرة المستشفى وتتعرّض الطواقم الطبية والمصابين لهذا الهجوم الشرس. دكتور مصري تعرّض لضرب عشوائي رأيته يجهش بالبكاء، وهو يهمس (أنا طبيب ويعلمون معي هذا؟!). داخل المستشفى كان الجنود المقنّعون في كلّ مكان، وكنا نرى أسلحة من كلّ الأنواع. أُغلقت كلّ بوابات المستشفى، ما عدا بوابة الطوارئ. في مواقف المستشفى، شاهدتُ ما لا يقلّ عن مئة سيارة تمّ الاعتداء عليها عمدا بالتكسير والتخريب. في داخل المستشفى كانت توجد ثلاث نقاط تفتيش، وفي خارجها أربع نقاط أخرى. كان التفتيش شخصياً ومُهينا بكلّ معنى الكلمة. كانوا يطلبون البطاقة الشخصية، ويتم تسجيل وقت الخروج، ويحمل كلّ جندي قائمة أسماء يتم مطابقتها مع طوابير الخارجين".

     بعد يومين من الهجوم، تمكّن المسعف أمين من الخروج بأعجوبة من المستشفى. كان الأطباء الذين تعاونوا مع الإدارة العسكرية يمتنعون عن إعطاء تراخيص المغادرة للجرحى والمصابين، وكان بعضهم يحضر في الاجتماعات الدائمة التي يعقدها العسكريون داخل المستشفى لاستلام الأوامر والتعليمات بهذ الخصوص.
     برغم حالته غير المستقرّة، إلا أن المسعف أمين قرّر مغادرة المستشفى بدون انتظار طلب الخروج الرسمي. تبيّن له أن الجيش الذي سيطر على المستشفى ينوي معاقبة كل الذين شاركوا في إسعاف المتظاهرين ومعالجتهم، ولم تكن الإدارة الجديدة تهتم بالوضع الصحي لأحد.
 
     بعد أيام من خروجه، حضرت قوّة أمنيّة إلى بيته في منطقة إسكان عالي، وعندما لم يجدوه هناك، طلبوا من والدته أن تُخبره بضرورة تسليم نفسه. مضت ساعات وقاموا بالاتصال به على هاتفه، وأمروه بتسليم نفسه حالا. كان أهله قلقين من الأمر، فهو مصاب، وحالته حرجة، وبحاجة إلى رعاية خاصة. لكنه توجّه إلى مبنى التحقيقات.
     ومنذ اعتقاله أواخر مارس الماضي وأخباره مقطوعة. لم تنفع الاتصالات اليومية التي تقوم بها زوجته وأخته للاستفسار عنه، ولكنهم لم يستطيعوا الحصول على معلومات مفيدة، أو الاتصال به. كانوا يخبرونهم أنّ "أبو رقبة" – وهي الصّفة التي يُعرَف بها أمين داخل الجهاز الأمني بسبب إصابته والطوق المحاط برقبته – بخير، ولا يعاني من مشاكل صحية.

     في الفترة الأخيرة، تأكّد أن المسعف أمين يوجد في سجن الحوض الجاف. المعتقلون الذين أُفرج عنهم من هناك يقولون بأنّه بخير، ولكن من غير تفاصيل. لم يظهر لأهله إلا حين أُحيل إلى المحاكمة ضمن مجموعة من الأطباء والممرضين والمسعفين.

     كان أمين ينام أكثر أوقاته داخل سيارة الاسعاف، وقد انقطع عن ممارسة لعبة "السنوكر"؛ هوايته المفضلة منذ اندلاع الأحداث، و"أعطى كلّ وقته وجهده وحياته للمهنة التي أحبّها". يقول لكل منْ حوله بأنه "غير نادم لحظة واحدة عن أداء واجبه الإنساني". زوجته فاطمة وولداه حسين ومحمّد ينتظراته بفارغ الشّوق والألم، ولكنهم فخورون به.   

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus