شوكة الأطباء - الحلقة الثانية

2011-06-29 - 10:31 ص





مرآة البحرين (خاص):
"هل انتهى صبح 17 فبراير؟ كم كان طويلاً وكارثياً، ظننا أنه لن ينتهي لفرط الأحداث المرعبة التي عشناها فيه" أحد أفراد الكادر الطبي.
الهجوم المباغت لقوات الأمن على الآمنين في دوار اللؤلؤة هزّ الجميع. لم يجد حتى الموالين للسلطة تبريراً، يجعل فعل السلطة منطقياً أو مقبولاً.

الرواية الرسمية التي عرضتها الداخلية في تلفزيون البحرين، بعد صمت رسمي تجاوز 12 ساعة، لم تنفع في اللعب على مشاعر الرأي العام العالمي. تعمد الحكومة في روايتها  إظهار مقاطع دموية بشعة لمن قيل إنهم ضحايا من رجال الأمن الذين تمّ الاشتباك معهم من قبل المعتصمين. الرأي العام العالمي، وجدها محاولة هشة لتبرير الهجوم الذي هز مشاعر العالم.

"أدركنا منذ شاهدنا الرواية الرسمية التي عرضها تلفزيون البحرين، أن الساعات التي منعت فيها الكوادر الطبية من الوصول إلى الدوار بين السادسة والنصف والحادية عشرة والنصف صباحاً، هي الوقت التي نفذت فيه مشاهد هذه الرواية، بالتعاون بين الداخلية وتلفزيون البحرين، فعندما وصلنا الدوار بعد ساعات المنع، كان كل شيء قد جرى مسح أثره بنحو غريب، وكانوا يقولون لنا بسخرية: هل رأيتم؟ لا يوجد شيء كل ما سمعتموه مجرد تهويل".

أخرى من أفراد الطاقم الطبي الذين وصلوا الدوار بعد السماح للإسعافات بالتحرك تقول: "وصلنا في عدد من سيارات الإسعاف، كان رجال مكافحة الشغب يتعمدون الطرق على الإسعاف بقطع حديدية بينما السيارة تسير  من أجل إخافتنا، يقومون بإيقافنا بين مسافة وأخرى، يفتحون سيارة الإسعاف ويفتشون داخلها، يسألونا باستهزاء: أين المصابون؟ وكانو يحققون في هوياتنا بطريقة يتعمدون فيها إذلالنا".

صدمة الجيش

الصدمة الأخرى التي لم يستوعبها الشارع في ذلك اليوم، كانت نزول قوات الجيش إلى الشارع. القيادة العامة لقوة دفاع البحرين أصدرت بياناً أسمته "رقم 1" أعلنت فيه انتشار قوات عسكرية في محافظة العاصمة "بدواعي اتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على أمن المواطنين والمقيمين وسلامتهم" وشددت "على اتخاذ كافة التدابير الصارمة والرادعة لبسط الأمن والنظام العام".

تستنكر إحدى الطبيبات: "للمرة الأولى نشاهد مدرعات الجيش تجوب شوارع البحرين، الهدف لم يكن محاربة عدو خارجي، بل معتصمين عزل نائمين في الدوار"مالم يفهمه أحد حينها، لماذا الجيش؟ ولماذ الهجوم الوحشي المباغت بعد أقل من 48 ساعة من إعلان الملك أسفه لسقوط قتلى،وإعلان يوم حداد رسمي، وتشكيل لجنة تحقيق؟  
الصدمة فاقت استيعاب الجميع، كانوا في ذهول الحدث: سياسيون، حقوقيون، مهنيون، معلمون، إعلاميون، مثقفون، مؤسسات مجتمع مدني، لكن الطاقم الطبي في ذهول مضاعف، بالإضافة إلى صدمة الحدث، فهم في الحالات التي تفد إليهم، يعايشون صرخات الآلام التي تخرج من حناجر المصابين "وجد الأطباء أنفسهم أكثر من غيرهم في قلب الحدث، وجودهم في الحدث بهذه الكثافة كان أمراً طبيعياً لاتصاله بدورهم المهني، فكيف بالجانب الإنساني" يقول أحد المراقبين.

مستشفى السلمانية التي غادرها الحدث بعد ظهر 15 فبراير، عادت لتصبح في واجتهه من جديد في 17 فبراير، باحة الطوارئ تحولت إلى ساحة هيجان شعبي، إدارة المستشفى لم تكن قادرة على السيطرة على الجماهير الغاضبة المتجمهرة هناك.

اليوم الطويل انتهى بسقوط 4 ضحايا، سقط محمود أحمد مكي (23 عاماً)، وعلي منصور خضير (53 عاماً) بقذائف انشطارية االشوزنب. وسقط عيسى عبدالحسن (60 عاماً) بطلق رصاص انشطاري قريب ومباشر أدى إلى انفجار في جمجمة الرأس (وهو الحادث الشهير الذي رأته وروته الصحافية نزيهة سعيد). والشاب علي المؤمن (22 عاماً) سقط بقذيفة انشطارية في الفخد عند الحوض تسببت في تهتك الأوعية الدموية، لم تفلح محاولة الطبيب الاستشاري  صادق عبدالله لإنقاذه، ولم يسعفه الـ 30 كيساً من الدم لاستعادة نضبه.

أيضاً، انتهى اليوم بعشرات الجرحى من الرجال والنساء والشباب والأطفال، اختلفت إصابتهم بين المتوسطة والخطيرة، منهم 3 حالات لمسعفين تم إخراجهم لاحقاً.
 
مسيرة الأطباء
 

صباح الجمعة 18 فبراير، كان مجمع السلمانية الطبي شاهداً على تسليم جثثالضحايا الأربع. الأهالي المفجوعون يأتون لاستلام جثث أبنائهم ويغادرون نحو التشييع.
عدد من الأطباء يجتمعون في بيت أحدهم، الهدف تنظيم اعتصامفي موقف سيارات السلمانية عصراً، وإصدار بيان باسم منتسبي الحقل الصحي. البيان تنديد لتعرض الكوادر الطبية للاعتداء من قبل رجال الأمن أثناء ممارسة دورهم الإنساني، والمطالبة بمحاسبة وإسقاط وزير الصحة فيصل الحمر والطاقم الإداري التابع له على خلفية هذا الموضوع.

عصراً، ينفذ الاعتصام، العدد يتجاوز2000 مشارك من منتسبي وزارة الصحة، حسب قول أحد المشاركين. العدد الكبير من المشاركين والحماس الشديد الذي كان مسيطراً عليهم، يحول الاعتصام إلى مسيرة. ثلاث دورات في موقف السيارات الخاص بطوارئ السلمانية وينتهي الاعتصام ويقرأ البيان الختامي. لكن الأمر لا ينتهي هنا أيضاً.

الدكتور علي العكري يطلب من أفراد الطاقم الطبي العودة إلى مواقعهم دون أن يُعطي تفاصيل أخرى. تتذكر إحدى الطبيبات "بينما كنا في دورتنا الأخيرة في المسيرة الاحتجاجية في باحة طوارئ مجمع السلمانية، سمعنا صوت طلقات نارية تأتي من بعيد". ما الذي يحدث؟

صدور ومدرعات

في هذه الأثناء التي كانت مسيرة الأطباء توشك تنهي بيانها، على الجنبة الأخرى القريبة من المستشفى، مسرح حدث جديد، كانت منطقة الديه القريبة من (دوار اللؤلؤة)، وغير البعيدة عن مستشفى السلمانية، تشهد ختام مجلس عزاء علي مشيمع (21 عاماً)، الضحية الأولى لأحداث 14فبراير. المعزون خرجوا في مسيرة عزاء ضمت الآلاف، اتجهت نحو الدوار المحاصر بقوات الأمن والجيش. عدد من الشباب يحملون أعلام البحرين، يتحركون قريباً من المدرعات العسكرية. يقفون على مسافة 100 متر منها، يلوحون بأيدً عزلاء إلا من إعلام ترفرف على صدورهم العارية. لم تمض غير دقائق، حتى كان المشهد الذي رآه العالم مصوراً بالفيديو، سيل لا يتوقف من الرصاص الحي المباشر، والغازات المسيلة للدموع، ينكشف الدخان عن عدد من الشباب مضرجين على الأرض في بركة من دمائهم.
 
الطلقات سمعها الكادر الطبي الذي كان معتصماً في باحة مجمع السلمانية، عدد من الكادر الطبي خاف وغادر، الباقون دخلوا فوراً استعداداً لتقديم المساعدة للإصابات التي بدأ الإسعاف بنقلها، بدأ استنفار طبي آخر.

الشباب المشاركون في مسيرة العزاء، أخذوا في التدافع إلى مستشفى السلمانية يحملون المصابين في سياراتهم، أحد الشهود يقول: "كنت هناك عندما شاهدت عشرات الشباب يتوافدون إلى المستشفى في حالة من الرعب والذهول، وينظمون المرور لتسهيل مرور سيارات الإسعاف عند مدخل السلمانية. استفهمت، فأخبروني أن رصاصاً حياً أطلق على المعزين الخارجين من عزاء الشهيد مشيمع نحو دوار اللؤلؤة، وأن هناك عددا كبيرا من الإصابات ملقاة على الأرض في الطريق".
شاهدة أخرى تقول "كان عدد من الشباب يخرجون من بوابة الطوارئ يحملون أسرة لنقل المصابين من السيارات الخاصة التي أحضرتهم".

رصاصة عبدالرضا

الغريب، أنه في الوقت الذي كانت برك الدم تسيل في الشارع المؤدي للدوار، كان ولي العهد يفاجئ الجميع بزيارة غير متوقعة لتلفزيون البحرين، وجّه خطاباً وَجِلاً ومرتجلاً للجميع: "أقدم التعازي لكل شعب البحرين على هذه الأيام الأليمة التي نعيشها، وأريد أن أوجه رسالة للجميع للتهدئة، نحتاج فترة أن نقيم ما صار ونلم الشمل ونستعيد إنسانيتنا وحضارتنا ومستقبلنا. نحن اليوم على مفترق طريق، أبناء يخرجون وهم يعتقدون أن ليس لهم مستقبل في البلد، وآخرون يخرجون من محبة ومن حرص على مكتسبات الوطن، لكن هذا الوطن للجميع ليس لفئة على فئة، لا هو للسنة ولا هو للشيعة هو للبحرين وللبحرينيين، وفي هذه اللحظات يجب من كل إنسان مخلص أن يقول كفاية ما خسرناه في هذه الأيام، صعب استعادته، لكن أنا مقتنع بعمل المخلصين".

في السلمانية، لم يكن ثمة مكان للهدوء أو التهدئة، لم يكن غير فوضى عارمة وهيجان ناقم. مشهد الرصاص والدم يأتي محمولاً على أسرة تشي بالموت وآلاف تحتشد في حالة هستيرية تصرخ بسقوط النظام. المذياع الداخلي لمستشفى السلمانية يعلن استدعاء جميع الاطباء إلى غرف العمليات والطواريء "كان الوضع أشد كارثية هذه المرة، نحن أمام رصاص حي، لم نصدق أن الأمر يمكن أن يصل إلى هذا الحد، كانت تجربة مرعبة لم نتعامل معها من قبل، ولا ندري ما إذا كنا قادرين على التعامل مع هذه الحالات أم لا" يقول أحد أفراد الطاقم الطبي.
 
صورة من الأشعة للشهيد عبدالرضا بوحميد... رصاصة قاتلة

الحالة الأشد صعوبة هي حالة عبدالرضا بوحميد (38 عاماً)، أصيب رصاصة حية في الجمجمة، الاستشاري نبيل حميد يحاول إنقاذه، عملية جراحية تستمر ثلاث ساعات، دون أن تتمكن من إخراج الرصاصة من رأس عبد الرضا. الاستشارية نهاد الشيراوي تعمل على متابعة حالته. يبقى فيما يشبه الموت السريري ليومين، قبل أن يفارق الحياة في 21 فبراير، وقبل أن تنهار الشيراوي باكية أمام عدسات التصوير، ولتدفع بعدها، في المحاكم العسكرية، ثمن هذا البكاء من أجل حياة إنسان.
عدد كبير آخر من الإصابات بلغت 96 إصابة، بعضها إصابات بالرصاص الحي. 6 منها أدخلت غرفة العمليات حسب ما أعلنت مصادر طبية حينها.
 
"تفاجئنا من الحالات التي كانت تصلنا. رصاص في أماكن قاتلة في الصدر والرأس. ضربات مباشرة باستخدام الرصاص المطاطي والانشطاري، تتعمد إصابة مناطق حيوية مثل العين والصدر، ستون حالة منذ بداية الأحداث حتى الآن، إصابات فقد فيها البعض  عينيه أو عين واحدة" تقول أخرى.
الأطباء انتشروا في أرجاء المستشفى، هناك من يعالج إصابات مسيلات الدموع، وآخر في غرفة الإنعاش، وثالث في العمليات.
 
الاستشاري باسم ضيف يعمل على 3 حالات، اثنتين إصابات في عظام الفخذ، والثالثة إصابة بليغة في الكاحل. يشاهده الطاقم الطبي متأثرا كثيراً، يبكى، يسأله طاقم العمليات: لأول مرة نراك تبكي، يجيب: لم يقدر لي من قبل  أن أرى هذا القدر من العنف في البحرين.
 
الاستشارية بدرية توراني تعالج حالة رصاصة موجودة في أعلى الفخد قريباً من الحوض، يساعدها الطبيب باسم ميرزا، تلتقط أشعة للرصاصة. كان وفد من الإعلاميين وصلوا المستشفى، طلبوا معاينة الحالات في غرفة الإنعاش. باسم ضيف يريهم الأشعة التي تثبت وجود الرصاصة التي تم إخراجها. لكنه يوضح " لست أنا من عملت على هذه الحالة". الإعلاميون يطلبون الرصاصة من أجل تصويرها. يتم إخبارهم أنها وضعت في كيس وتم التحفظ عليها، لكن أين ذهبت؟ ليس هناك تأكيد بخصوص الرصاصة، البعض يقول "أعطوها منظمة حقوق الإنسان بعد وضعها في كيس".

الوزير يكذب

في باحة الطوارئ، الآلاف يتجمهرون حتى وقت متأخر من الليل، يرددون هتافات الغضب. شبكات التواصل الاجتماعي تنقل مقاطع فيديو تظهر آلاف المتجمهرين الغاضبين يطالبون بإسقاط النظام. كذلك تفعل وسائل الإعلام العالمية التي كانت حاضرة وشاهدة على الحدث، وقد بدأت تبث المشاهد عبر قنواتها. وزارة الصحة متمثلة في وزيرها فيصل الحمر وإدارة السلمانية يقفون مكتوفي الأيدي، كل شيء خارج عن السيطرة.

لم ينقل الوزير فيصل الحمر هذا الوضع، عبر لقائه في تلفزيون البحرين في المساء ذاته، بل قال أن الوضع في مجمع السلمانية الطبي مستقر، وأن عدد من يحتاجون إلى الرعاية الصحية أصبح أقل، وأنه بعد التدقيق في نوعية وأعداد الإصابات الموجودة اتضح أن هناك سبعة مصابين بإصابات طفيفة، يجري التعامل معها الآن بطريقة طبية صحيحة لرعايتهم، وسيغادرون المستشفى في وقت قريب، وأن هناك بعض المواطنين موجودون في الساحة الخارجية لمجمع السلمانية الطبي، وهم أهالي بعض المصابين المتواجدين داخل المستشفى، مؤكداً أن الأمن مستتب وأن الوضع هادئ.
 

هذا التصريح أغضب الأطباء، ووجدوه  غير كفء ليحمل أمانة المهنة وشرفها الإنساني. قرروا أن يصدوا بياناً عن جمعية الأطباء البحرينية وجمعية أطباء الفم والأسنان البحرينية، يدين استخدام العنف المفرط ضد المواطنين المتظاهرين سلمياً، ويستنكر "تصريح وزير الصحة عبر وسائل الإعلام بالأمس في حصر عدد حالات الإصابة بسبع حالات فقط ووصفه بأنها حالات طفيفة وهذا مغاير للواقع حيث إن عدد الجرحى ليوم أمس فقط فاق المائة بينهم سبع حالات بإصابات بليغة منهم حالة إصابة خطرة بالرأس والدماغ وحالة إصابة خطرة بالصدر والحالات ناتجة عن رصاص حي و شوزن وضرب قاسي بالهراوات وليس كما وصف الوزير. ونأمل أن تكون تصريحات وزارة الصحة دقيقة دون لبس"، طالبوا باستقالة وزير الصحة.

ظهر السبت 19 فبراير. يأمر ولي العهد سلمان بن حمد ال خليفة بسحب جميع القوات العسكرية من شوارع البحرين وذلك بأثر فوري. تنسحب القوات المحاصرة للدوار. تعود الجماهير لتجدد اعتصامها هناك مرة أخرى، وهنا تبدأ مرحلة ثالثة من المراحل التي عايشها الأطباء. نكملها في الحلقة التالية.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus