رأس الشهيد أحمد فرحان: يلاصق رأس أخته في ليلته الأخيرة، ويهدئ جزع أمه، ويرفع رأس أبيه، ويواسي بالدموع دافنيه

2014-03-17 - 4:49 ص

مرآة البحرين (خاص): كان قليل الكلام، كثير الفعل لمن حوله، بينه وبين الفعل مسافة حمية وشهامة، ودمٌ يفور. لا يحتمل أحمد أن يرى مشهداً تهان فيه كرامة إنسان، تثور غيرته وغضبه حين يشاهد صور ضحايا الحروب والمجاعات في أي مكان في العالم، يؤلمه عجزه عن فعل شيء أمام هذه المشاهد، فكيف بمشهد حي أمامه لعنجهية مفرطة تستأسد على شعب أعزل؟ أمام مشهد كهذا، لا يستطيع الشهيد أحمد فرحان (30 عاماً) أن يقف سلبياً أو مستسلماً، كان يتكلّم بطريقته الخاصة: يتقدّم. 

ربما لهذا اعتقل أحمد عندما كان في السابعة عشر من عمره خلال العقد التسعيني المر، قرابة 3 أعوام قضاها في المعتقل قبل أن يخلى سبيله ضمن الانفراجات الأمنية حينها. لم يتغيّر أحمد. السجن لا يكسر سورة السخط من نظام مستبد، بل يجعلها تنشحن أكثر، وتنتظر لحظة لتظهر، ولو كان ثمنها حياة.

الفرصة التي لا تعوّض

في يوم سترة الطويل 15 مارس 2011، كان أحمد عائداً بوالدته من المستشفى الدولي قرابة الساعة الواحدة بعد الظهر، معه والده وأخته فاطمة وطفلها الصغير. كانت أعداد مهولة من سيارات الشرطة تتوافد عند مداخل سترة، والمليشيات المدنية المسلحة (البلطجية) عاثت في مناطق البحرين. توقف أحمد بسيارته عند أحد المطاعم لشراء وجبة غذاء للعائلة، شاهد كل هذه القوات تتقدّمها نية البطش، وقف يتأمل المشهد الذي يوحي بما سيأتي بعده، حكّ يديه ببعضهما البعض حماساً وقال: "هذه هي الفرصة التي لا تعوّض". يقول والده: "لا أنسى تلك اللقطة، ولا تلك اللحظة". 

اليوم هو 15 مارس 2014، نجلس بمعية عائلة الشهيد أحمد في بيت فاطمة، الابنة البكر والمدلّلة من أخيها، كان أحمد بالنسبة لفاطمة غصن أصغر يحنو على غصن أكبر. كذلك كان غصناً ندياً لأطفالها. ينادونه "بابا" لكثرة حضوره وحنانه وإغداقه عليهم. ابنة فاطمة الكبرى (9سنوات) لا تزال حين يغضبها أحد من العائلة، تهدّد بأنها ستشكيهم إلى خالها أحمد كما كانت تفعل في السابق، لكن تهديدها الآن اختلف: "سأكتب رسالة إلى خالي أحمد أشتكي عليكم، وسأقرأها عليه عند قبره". تُكرر الطفلة السؤال في كل مرّة تريد أن تستشعر الفخر والحظوة: "كان خالي أحمد يحبني أكثر وحدة صح؟".

احمد فرحان

رأسه ملتصق برأسي

الساعة تتجاوز الثالثة ظهراً، تطالع فاطمة صورة أحمد التي تتوسط الغرفة التي نجلس فيها، تطل ناحية النافذة المطلة على الشارع وتقول لنا: "في مثل هذا الوقت في هذا اليوم استشهد أحمد". تضيف: "كان ليلتها نائماً عندي، أنام هناك في الصالة، لدي طفل رضيع وآخر تجاوز العام بقليل، وبسبب كثرة انشغال زوجي وغيابه، كان أحمد الحنون يأخذ عني طفلي من الساعة الثانية فجراً، ويعيده لي عند السابعة صباحاً ويقول لي: آن وقت نومي. في تلك الليلة جاء متأخراً وقد غفوت أنا من شدّة التعب، وضع رأسه على المخدة التي أضع رأسي عليها من الجهة الأخرى، التصقت مؤخرة رأسه بمؤخرة رأسي ونام، لم تكن هي عادته، ولم تلفتني حينها، من أين لي أن أعرف ماذا سيحدث لهذه المؤخرة بعد ساعات!!!". 

في 13 مارس، كان أحمد عند المرفأ المالي عندما تم الهجوم عليه، ثمة سيارة جيب تابعة لمليشيات الداخلية قامت بدهس شاب من المعتصمين هناك، لم يتحمّل أحمد المشهد، هجم بجسده الأعزل على السيارة وركلها برجله بقوة، التوت ساق أحمد وتورّمت. تقول فاطمة: "أتى المنزل وكانت ركبته منتفخة، قمت بمعالجته بما توافر لدي من كريمات وأدوية مهدئة، وقلت له   يجب أن تذهب إلى المستشفى، فرد عليّ: اذا زادت أكثر فسوف أذهب. وأردف: الموتة وحدة!. كنت أعلم أنه   لا بد سيتقدم ساحة الخطر، وسيتعرض لما يضطره إلى الفرار، وأن ركبته المتورمة لن تسعفه حينها".

عطر أحمد

رغم بساطة دخل أحمد كونه يعمل بحّاراً، فإن الحنان هو ثروته الكبرى التي يغدقها على عائلته صغاراً وكباراً، لديه فائض من ثروة السخاء والعطاء والاحتضان، الجلوس مع عائلته سيل لا يتوقف من الكلام عن فضائله ومواقفه واحتواءاته السخية والحنونة لكل فرد في العائلة. كنا نسأل عن فعل استشهاده فيهم، فيجيبونا بأفعال حياته فيهم، كمن يهرب من صورة لا يريد أن يراها بصور كثيرة يريد تثبيتها، كانت عائلة أحمد تثبّت صور أحمد الشديدة البهاء في حياتها وتستحضرها: "أحمد ابني كان يجهز الطعام لشهر رمضان، يقطع الفواكه والبطيخ، وفي العيد هو من يوزع العيديات على الأطفال. 

لا يقبل لنا أنا ووالده أن نتعالج في مراكز صحية عامة، يأخذنا إلى المستشفيات الخاصة، رغم حالنا المادي المتواضع، ودخله المحدود، كانت سعادته أن يدخل الفرح إلى قلوبنا بأي طريقة ممكنة، لا يقبل أن استعمل عطراً زهيد الثمن، فكان يأمرني أن أرميه ويشتري لي آخر من العطور المشهورة. ما نزال أنا وأخواته نحتفظ يزجاجات العطر الأخيرة التي اشتراها لنا، لا نريدها أن تنهي، نشم فيها ريح أحمد"، تقول والدته. هكذا يحضر أحمد في حديث عائلته بصيغة الحاضر الذي لا يغيب، لأن كل شيء حاضر فيه "لم يغادر أحمد بيتنا لحظة، ما زلنا نناديه عند كل شاردة وواردة نقول: لو كان أحمد هنا...." تقول أخته فاطمة. 

وجه أحمد

تصف فاطمة لحظات انتشار خبر سقوط أخيها: "كنا عائدين من المستشفى مع والدتي قرابة الساعة الواحدة عندما بدأت سيارات عسكرية تنزل أشخاصاً بلباس مدني، قال أحد الشباب لأحمد الذي بدأ دمه يفور، لا تنزل مع الطفل فهناك طلق رصاص في إحدى الجهات". تكمل فاطمة: "أوصلني أحمد إلى بيتي وقام بتغذية أولادي، ثم عاد لبيت والدي. كان الهجوم الشرس بدأ على سترة، لم يستطع أحمد الصبر فخرج ودعا عدد من الشباب معه، كنت أتابع الأوضاع على المنتديات. كانت الساعة حوالي الثالثة بعد الظهر عندما قرأت خبر سقوط شهيد. انقرص قلبي. ثم قرأت أن اسمه أحمد. بدأت أبكي. كان شيء يقول لي أنه أخي، في داخلي تناقضات لا يمكن وصفها. كنت أعرف تماماً أنه أحمد أخي لكني غير مستوعبة إطلاقاً. لا يمكن وصف المشاعر التي يعيشها الإنسان في اللحظة التي يترقب فيها خبر الفاجعة".

تكمل فاطمة: "اتصلت بأخي ابراهيم، سألته، قال كمن لا يدري ماذا يقول: "رأيت شهيداً ثيابه مثل ثياب أخي أحمد، رأسه مصاب لكن لا أدري هل هو أم لا". دخل بعدها زوجي وكان يصرخ بذهول: أحمد استشهد. خرجت صرخة من جوفي وركضت من فوري حافية القدمين إلى المستشفى. 

في مشرحة مستشفى السلمانية، كان الجزء الخلفي من رأس أحمد مغطى ووجهه مكشوف في كامل بهائه، عيناه مفتوحتان ووجهه ساكن في سلام غريب. من يرى كمال الوجه لا يصدق أن للصورة جانبا آخر لا يحتمل مشاهدته أصحاب القلوب الضعيفة، ولا حتى القوية. دخلت فاطمة على أخيها مخفي الرأس ومفتوح العينيين. ألقت نفسها على صدره. لعلها لم تر بعد مؤخرة رأسه التي كانت تلامس مؤخرة رأسها ليلة البارحة. اختلط كلامها بونينها باعتذارها بتوديعها بتقبيلها بتلمسها جسد أخيها بمسحها على خدّه بالكلام الذي يضيع بالصدمة التي لا تعرف كيف توجهك، انتشر الفيديو لفاطمة وهي تودع أخيها "لم أكن أبكي، لم أكن أصرخ، كنت في حالة ونين فقط" تقول.  

"كانت الدماء في كل مكان يمرّ  فيه رأس أحمد، من غرفة العلاج والمعاينة، حتى المشرحة، حين أعادوني البيت ظللت أردد لكل من يسألني عن حالة أحمد: إذا أردتم أن تعرفوا كيف كان رأس أبوالفضل العباس بعد أن ضرب بالعمود فوق رأسه، فانظروا إلى رأس أخي أحمد فرحان".

أحمد فرحان

هنا سقط أحمد

أمام مشهد رأس أحمد، لم يكن أحد يملك إلا أن يصرخ بطريقة هستيرية، أو أن يقف جامداً مصدوماً مفزوعاً، لم يكن هناك رد فعل ثالث. الصور التي انتشرت لرأس أحمد، احتاج الناس كثيراً كي يتجرأوا على النظر إليها، وطويلاً بعدها كي يستوعبوها.

عند العصر كانت طائرات الهوليكبتر تحوم على ارتفاع منخفض، وسيارات العساكر تملأ كل سترة،   لا أحد يمكنه الخروج أو الحركة، كانت سترة مستباحة بالكامل. ليلة رهيبة وموحشة بعد استشهاد أحمد. تقول فاطمة "عند الساحة الواحدة بعد منتصف الليل، لم أستطع الصبر، خرجت من المنزل وزوجي معي يرجوني أن أعود للمنزل، لكن قدمي حملتني الى حيث قتل أخي. كانت سترة مثل ساحة حرب غادرتها المعركة للتو، قادتني رجلاي إلى مكان، وقفت هناك لأجد لافتة مكتوب عليها: هنا سقط الشهيد. كانت هناك بقعة دم، وبقعة دم أخرى على بعد أمتار حيث سقطت قطعة من رأسه".

والدة أحمد

يتداخل الكلام عند والدة أحمد وهي تحاول وصف لحظات فقدها، تغيب عنها الكلمات أحياناً وتشاغبها الصور، أو تحضر دفعة واحدة، تشعر بها غارقة في أحمد وهي تردد "حنوووووون"، تروي: "اعتقدت أن حياتي انتهت، كنت لا أريد الذهاب للعزاء، ولا رؤية التلفزيون، ولا مشاهدة أي خبر يتعلق بأحمد، ولا أستطيع رؤية صورته، وفي الحقيقة ما زلت. بعد فترة من التعب النفسي، طلبت من ربي إما أن يأخد روحي مع ابني، أو أن يمنحني صبراً"، تكمل:" نمت ليلتها ورأيت في منامي أحمد أتاني عند سريري ووقف عند رأسي، يرتدي ثياباً بيضاء لكن عينيه مغمضتان، وكان معه رجل مهيب عليه رداء يظلل عينيه، جلس الأخير عند قدمي. استيقظت ولم أعرف تفسيراً لما رأيت، لكن وجدت نفسي قد هدأت. لدي حدس أن من كان مع أحمد في الحلم هو أبو الفضل العباس لأن استشهاد أحمد مشابه لاستشهاده من جهة فضخ الرأس". تكمل والدة أحمد: "ظللت أهرب من مشاهدة صورة أحمد ربما عام كامل، ذات صدفة رأيت صورة أحمد ورأسه مفضوخ، هربت من مشاهدتها فوراً، تألمت جداً، وبعدها رأيت صورة له مرة ثانية على بنر معلّق في الشارع، أهرب دائماً من هذه الصورة، لا أحتملها" تتأسف والدة أحمد أنه في كل مرة يخرج أحد لينشر صورة أحمد يزعم أنه شهيد سوري أو فلسطيني.

اللاعب الأول

طوال فترة جلوسنا مع عائلة الشهيد أحمد، كان الحاج فرحان ينشغل بأطفال ابنته تارة، وبتقطيع بعض الفاكهة لنا تارة أخرى، وبقطف بعض المشموم من حديقة البيت وإحضاره لنا تارة ثالثة، وبالتعليق على كلمة هنا وهناك على سبيل المزاح تارة رابعة. لم نكن نحتاج كثيراً من البصيرة لنفهم، أن الحاج فرحان كان يحاول القفز على مشاعره، وعدم إخراجها لحيز الكلام، وربما لم يكن يرغب أن يستعيد كل هذه الذاكرة المؤلمة. تركناه للمحطة الأخيرة، نطق أخيراً بغير ما كان يتظاهر به طوال الوقت: "أنا قلبي مألوم ولا أستطيع الحديث".

يصف الوالد ابنه أحمد: "كان اللاعب الأول في ملعب عائلتي، إذا نزل أحمد الملعب، ركن إليه الجميع واعتمدوا عليه، لم يخذلهم يوماً، كان لاعب الرمية الحرّة دائماً، وكذلك قضى بها، إنها رمية العز الحقيقي التي اختارها لنفسه ولنا، لقد أكرمنا الله به في حياته، وأكرمنا به بعد شهادته".

عين أحمد

يروي الحاج فرحان بعد أن انفتح جرح الكلام: " كنت في الشارع يوم 15 مارس 211 والمنطقة تمت محاصرتها بالكامل، من معي أصروا أن نذهب لأحد المنازل، وهناك وصلت رسالة هاتفية لأحدهم وقال على الفور: أحمد! ثم بلع الكلمة التالية بعد أن نظر نحوي". عدت من فوري إلى المنزل، واستقبلتني امرأة تصيح: أحمد استشهد. لا أذكر غير أني قلت "الحمد لله" وسقطت مغشياً علي، أفقت لأجد نفسي في مستشفى السلمانية يتحاوطني الناس، ولا أنس الدكتور المصري علاء زيدان الذي أحاطني بحنان ورعاية وقبّل رأسي، ولا أنسى قوله بعد أن فصل من عمله: إن رأس أحمد فرحان غيرني، وتمنى: إذا مت أريد أن أدفن في البحرين".

يكمل "بعد 3 أيام تم تسليمنا الجثة، كانوا يحاولون تغييب حقيقة موته، لكن الدكتور أصر على كتابة الحقيقة كما شهدها. لم يكن مسموح حينها خروج أية سيارة من المستشفى بما فيهم سيارة نقل الموتى، تبرع أحد الأهالي بشجاعة وذهب بنفسه لإحضار جثة أحمد من المشرحة إلى مقبرة سترة، ودفناه يوم 18 مارس"

يصف الحاج فرحان لحظات أحمد الأخيرة قبل دفنه "كلما حاول الشباب غلق عين أحمد لم يتمكنوا، بعض الشباب قالوا إنهم عندما كانوا يقبلونه في اللحظة الأخيرة كانوا يستشعرون دموعاً تنزل من عينه. لم يستطع أحد تفسير ذلك"، هل لهذا علاقة بحلم والدته التي رأته واقف عند رأسها مغمض العينين، ما تفسير كل هذا؟ لا أحد يعلم. ما الذي يجعل عيون أحمد تظل مفتوحة في القبر، ومغلقة في الحلم؟ 

عبد المنعم فرحان

عبدالمنعم منصور حكاية أخرى كاملة. كان حاضراً اللقاء بطلب منا. دخل مثل ولد يألف بيت أبيه.   قبّل رأس أبيه وحيا أمّه وأخته. هشّ الجميع لدخوله وخلنا أننا نرى أحمد بين عائلته. قلنا لهم: لقد فقدتم ابناً وكسبتم آخر. أخرج الحاج فرحان هاتفه الذي يحفظ فيه رقم هاتف منعم. أرانا إياه. كان مسجلاً باسم: "منعم فرحان". 

طوال وقت وجوده بقى منعم يستمع بهدوء. سألنا والد أحمد عما إذا كان رفع قضية ضد قاتل ابنه. أجاب الأب: بعثت لي إدارة الأمن الوسطى للحضور، سألوني عن سبب عدم تقدمي برفع دعوى في قضية مقتل أحمد، قلت لهم في جملة واحدة: قضيتي ليست عندكم أنتم، بل عند الله.

هنا فقط نطق منعم، قال: "بعد الإفراج عني اتصل بي من النيابة العامة وائل بوعلاي وقال لي هل تعرف من قتل أحمد فرحان؟ ولو رأيته هل ستعرفه؟ أجبته: نعم سأعرفه" 

هنا شهقت فاطمة وسألت عبدالمنعم: "هل رأيت من قتل أخي؟!" 

أحنى عبدالمنعم رأسه وسكت عن الكلام المباح!

 

  • في الجزء الثاني: عندما قرر عبد المنعم منصور الخروج من صمته بعد 3 سنوات.

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus