عميد العسكريين محمود العلوي يفتتح ملف العسكريين: لقد اخترت سبيل الوطن وتهيأت لحكم الإعدام بتهمة الخيانة العظمى

محمود العلوي
محمود العلوي

2014-03-29 - 10:18 م

مرآة البحرين (خاص): "أوقفني وراء المواقف وقال لي: الكون موقف، وكل جزئية من الكون، موقف".

النفري

الموقف هو اللحظة التي تختار فيها صيغة أناك التي تعرّف بها نفسك، تحسم موضع قدمك الذي تقبله لضميرك وإنسانك، ثم لا تبالي بعد ذلك بما يكون عليك.

***

عندما تجلس إلى محمود (مواليد 1982)، سيلفتك بيقظته وفطنته وحماسه وحرارته أيضاً. وإذا لم تكن تعرفه من قبل، فلن تحتاج وقتاً طويلاً لتميز جرأته على المواجهة والكلام والموقف، وأن الموقف عنده ليس منطقة تردد، بل إمضاء. 

أطلق عليه زملاؤه العسكريون من رفاق المحنة لقب «عميد العسكريين»، وذلك بعد أن تمت ملاحقته واستهدافه خلال فترة ما عرف بالسلامة الوطنية، ثم اعتقاله والحكم عليه بالسجن لمدة 12 عاما، قبل أن يتم تخفيف الحكم إلى 3 أعوام بعد الاستئناف. "العميد" هي من الرتب العسكرية المتقدمة، وعميد القوم سيدهم الذي يعتمد عليه في ضبط وتنظيم الأمور. صار هذا اللقب لازمة له، ومقدّمة لاسمه عند الجميع. 

في فبراير 2011، كان العسكريون البحرينيون أمام محنة صعبة، وخيار أصعب، يقول محمود "في الأحداث التاريخية المصيرية، وبينما أنت تمضي لحسم خيارك، عليك أن تلقن نفسك شيئين اثنين بعناية: الصورة التي لن تقبل لنفسك غيرها، والأقصى الذي سيقع عليك نتيجة قرارك هذا، فإذا تهيأت لهما وتأكدت أن لا رجعة لك ولا ندم، احسم بشجاعة".

لماذا ذهبت إلى هذا السبيل؟

محمود واحد من 142 عسكريا بحرينيا (حسب الأعداد الموثقة في دائرة الرصد والمتابعة في جمعية الوفاق)، تعرضوا للاعتقال على خلفية الأحداث السياسية في البحرين منذ 2011، صدرت في حق عدد كبير منهم أحكاماً بالسجن، وصل بعضها إلى 12 عاما، وهو أيضا ضمن أكثر من 180 عسكرياً تعرضوا للتوقيف أو الطرد من الخدمة، "كلّهم من خيرة الشرطة في البحرين وأكثرهم إخلاصاً في عملهم" كما يصفهم محمود بجزم. لكن يحزّ في قلب محمود أن ملف العسكريين "بقى مظلوماً إعلامياً وحقوقياً، رغم أنه واحد من أكثرها خطورة وحساسية". 

عمل محمود في السلك العسكري قرابة 15 عاما، تنقل بين عدّة إدارات قبل أن يستقر به عمله الأخير (قبل ثورة 2011) في إدارة مركز شرطة الوسطى قسم المتابعة، يعمل ضمن دوريات مدنية مهمتها متابعة القضايا الجنائية. لمحمود سجل عمل حافل ومتميز، والكثير من التكريمات التي نالها لكفاءته وتمكنه وفريق عمله من كشف الجناة والوصول إليهم في وقت قياسي. القاضي في المحاكمة العسكرية قال له متعجباً بعد اطلاعه على ملفه: "ملفك كله تكريمات، لماذا ذهبت إلى هذا السبيل؟".

السبيل هنا ليس شيئاً آخر غير الموقف. ربما لا يعرف القاضي الذي سلّم سبيله بيد ولاة أمره يديرون مواقفه وأحكامه، أن للإنسان الحر سبيلا يقرره بضميره الحي. 

ما هو السبيل الذي ذهب إليه محمود؟ ولماذا اختاره على سبيل الاستقرار الوظيفي والتكريمات والمكافآت؟ وهل كان يمكن له أن يختار غير هذا؟ في هذا التقرير المكوّن من جزئين، يفتح العسكري محمود وجع ذاكرته ولحظاتها الأصعب، ويروي تفاصيل تمرّده على الزي العسكري والمؤسسة العسكرية. وبلا ندم، يروي تفاصيل تجربة سجنه واعتقال وتعذيبه.

الخميس الدامي 2

سبيل فجر الخميس الدامي

لا شيء يأتي بانفعال محض، خاصة إذا كان الأمر يرتبط بقرار تتوقف عليه حياتك ومستقبلك لا بموقف عابر، هي تراكمات وتجارب ممتلئة بالمعاناة، وثمة لحظة أخيرة تكون هي المفجّرة. يقول محمود: " سقوط شهيدين خلال يومي 14 و15 فبراير هزّني كثيراً وعبأني بالغضب، لكن فجر 17 فبراير كان هو نقطة الحسم بالنسبة لي". يضيف: "كنت مناوباً في مقر عملي حين نشرت صورة أولى للهجوم على الدوار وبدأ الخبر ينتشر عن طريق الهاتف. أول من تبادر إلى ذهني صديقاي اللذان أعلم أنهما متواجدان هناك، اتصلت فوراً للاطمئنان عليهما لكن أحداً لم يجب. قبل الساعة الرابعة بقليل رد صديقي جابر، كان بخير لكنه في ذهول شديد من فرط صدمة ما رأى. لم انتظر نهاية وقت دوامي. قلت لمن معي: أنا طالع. وركبت سيارتي متجهاً إلى المنامة. كانت الشوارع مغلقة بالكامل وقوات الأمن والجيش على مد الشارع. جيش في الشارع؟ كان الوضع مرعباً وصادماً حتى بالنسبة لنا نحن العسكريين. ذهبت إلى شقتي وكانت زوجتي ما تزال نائمة ولا تدري بما حدث، وبلا شعور صرخت فيها: أنت نائمة والناس تموت هناك. استيقظت مذعورة، ما زلت أعتذر لها عن فعلي ذلك اليوم، كنت منفعلاً وعاجزاً".

يكمل محمود: "فتحت التلفزيون، كانت قناة الـbbc قد نقلت الخبر والإصابات التي وصلت إلى مستشفى السلمانية، لم أستطع التحمل أكثر، قرابة الخامسة والنصف خرجت من البيت إلى مستشفى السلمانية، وهناك رأيت الناس محتشدة في حالة هستيرية والجميع في حالة ذهول: لماذا الهجوم المباغت فجراً والمعتصمون نيام؟ كيف تصل البشاعة بالسلطة إلى مهاجمة نيام؟ كيف يمكن لرجل أمن أن يقتل مسالماً بهذه الوحشية؟ كانت الهتافات هائجة والغضب عارم. كان الصوت في داخلي يتردد بحرقة: إنهم يشترون الأسلحة بأموال الشعب لحماية الشعب، فكيف يقتلون الشعب؟!! وكيف تنزل قوات الجيش التي وظيفتها محاربة العدو الخارجي لتحارب الشعب؟!! كانت قوات الجيش قد انتشرت في الشوارع. والقيادة العامة لقوة دفاع البحرين أصدرت بياناً أعلنت فيه انتشار قوات عسكرية في محافظة العاصمة "بدواعي اتخاذ الإجراءات اللازمة للحفاظ على أمن المواطنين والمقيمين وسلامتهم" وشددت "على اتخاذ كافة التدابير الصارمة والرادعة لبسط الأمن والنظام العام". لم كل هذا؟ ولأني عسكري، بدأت أشعر أني جزء من الجريمة التي وقعت على الشعب.

حينها قررت: لا عودة.. لقد انتهى

الإسعافات اختفت، ولا أحد يعلم عنها شيئاً، عند الساعة الثامنة صباحاً خرجت مجموعة من المحتشدين في محاولة للوصول إلى الدوار للعثور على المصابين وإحضارهم، كان محمود بينهم: "عندما وصلنا بالقرب من إشارات (محلات الحواج) وجدنا الشوارع مغلقة بقوات الأمن والجيش، وانهالت علينا طلقات الشوزن ومسيلات الدموع بالقرب من (محلات الكوهجي للسيارات) تحديداً. قريباً مني كانت تقف طبيبة، كانت إلى جانب سيارة، لا أعرف من هي، اختنقت من مسيلات   الدموع وسقطت، وفي الوقت نفسه ألقيت قنبلة صوتية في اتجاهها مباشرة، وبلا شعور رفستها بقدمي كي أبعدها وأحميها، وقعت القنبلة عند السيارة تماماً وتحطم زجاجها. إصابات كثيرة وقعت في الأثناء".

يكمل: "عدنا إلى مستشفى السلمانية، وشهدنا سيارات الإسعاف التي تم التعرض لها ومهاجمة من فيها، كنا في حالة غضب عارم ولا ندري ما إذا كان هناك ضحايا لم يتم الوصول لهم في الدوار، الكادر الطبي في حالة هستيرية لشعوره بالعجز عن إنقاذ المصابين. قبل أذان الظهر أحضرت جثث الضحايا إلى المشرحة. دخلنا. كان مشهد الجثث الذي قلب كياني كلّه. رأيت قبح فعل مؤسسة الجيش والمؤسسة التي أنتمي لها، هذه ليست مؤسسات لحفظ أمن الشعب وحماية الوطن بل حماية الحكم وفرض سيطرته على الشعب".

"لقد زلزل كياني رأس الحاج عيسى عبد الحسن، والجسد المخرّم برصاصات الشوزن للشاب محمود أبو تاكي والحاج علي منصور خضير، والجزء السفلي المتهتك برصاص الجيش للشاب علي المؤمن. كانت رؤية هذه الجثث كافية لأحسم موقفي الأخلاقي وواجبي الإنساني: "لا عودة.. لقد انتهى كل شيء"، قلت في نفسي، لم يعد بيني وبين هذه المؤسسة سوى عداء ثمنه وطن وشعب"

يكمل محمود: "في اليوم ذاته ليلاً، قلت لأحد الشباب العسكريين: ما دامت الثورة قد اشتعلت، ما رأيك أن نخرج بزينا العسكري ونعلن تضامننا مع الشعب؟ اتصلت بالاستاذ عبد الوهاب حسين طالبين مشورته، رحّب بالفكرة وشعرت بنبرة صوته تخنقها العبرة. قررنا أن نجمع أكبر عدد من الشباب العسكريين ونخرج. كان العسكري علي الغانمي قد سبقنا بالخروج بزيه العسكري وحده بمستشفى السلمانية في الليلة نفسها. 

"كنت أقود سيارتي عندما اتصلت بالعسكري شاكر أبو تاكي (أخ الشهيد محمود أبو تاكي)، لأخبره بالانضمام إلينا، ردّ علي مباشرة: "إذا كنت متصلاً لكي تعظم لي الأجر بأخي الشهيد لا تفعل، بارك لي". خنقتني كلماته. لم أستطع إكمال سياقتي وأوقفت سيارتي جانباً. بكيت بحرقة. أجبته: "على رأسي".

شعب يبحث عن الأمل لا عن الانتقام

كانت اللحظة الاستثنائية الثانية في حياة محمود هي يوم 22 فبراير، بعد أن عاد الناس للاعتصام السلمي في دوار اللؤلؤة، يصف ذلك اليوم: "وقفنا بالسيارة عند مجمع جيان، أنا وعلي الغانمي وشاكر بوتاكي، تقدّمنا بالزي العسكري وانخرطنا وسط المسيرة الجماهيرية الحاشدة التي خرجت ذلك اليوم، والتي رفع فيها علم البحرين الطويل الذي امتد طوال مقطع كبير من المسيرة. كانت لحظات مهيبة جداً ذات زخم مادي ومعنوي كبير جداً. ما إن رآنا الناس حتى ضجوا بالصراخ والهتاف والتصفيق والتعبير عن دهشتهم وتقديرهم العميق، التفتْ الجماهير حولنا بلهفة وفرح وامتنان، مثل أم عاد لها ابنها بعد سنوات طويلة ظنت معها أنها فقدته. الجميع كانوا يريدون احتضاننا وتقبيلنا ولمسنا والتأكد من أننا حقيقة لا وهم، الجميع يريد حمايتنا من أن نتعرض للسوء من أي أحد، الجميع دون استثناء، كانت لحظات غامرة ومؤثرة جداً، شعرنا بعز حقيقي وفخر استثنائي، وأن الأمل يتدفق في داخل الناس. كانت الشهادة التي لا تعادلها كل المكافآت والتكريمات والأوسمة التي حصلت عليها في عملي، هي صرخة رجل مسن قال لنا: أنتم الشرفاء، والله إنكم شرفاء، أولاد شرفاء، من ظهور شريفة". لا أحتاج أصدق ولا أطهر من هذا الوسام. الوسام الآخر الذي أهداه لنا هذا الشعب هي صرختهم المدوّية والموحّدة حينها وبكل حرارة: شكراً لكم شكراً لكم. لقد ضج بها الناس بهتاف هزّ المكان واهتزّ معها كل كياني. كانت دموعي لا تتوقف. لقد اخترت سبيل هذا الوطن وهذا الشعب".

يكمل محمود محمّل بالذكريات المكتظة: ما إن وصلنا عند الكوبري المطل على الدوار، حتى حملنا الناس على الأكتاف، وفي مشهد لا أنساه راحو يتهافتون على تقبيل أحذيتنا. هل لكم أن تتصورا هذا؟ كنت خجل جداً أني لم أستطع السيطرة على اندفاع الناس ومنعهم. ثم لمحت الرجل المسّن الذي أعطانا قبل قليل وسام الشرف، أتى ليقبّل أحذيتنا أيضاً، لقد هالني الموقف، لم أسمح له، الضخ العاطفي في المشهد أكبر من أن يوصف.

يضيف: بينما أنا محمول على الأكتاف، في هذه اللحظة تحديداً، تذكرت أهل سترة عندما حملوا سيارة الملك مطلع الألفينية، حملوه حينها لأنّه صور لهم أنه قادم بأمل جديد. هم الآن يحملوننا نحن الذين نرتدي هذا الزي الذي طالما قتل أولادهم، لأننا نصوّر لهم أملاً جديداً قادماً. هذا شعب يبحث عن الأمل لا عن الانتقام، هو شعب يقف وقفة صادقة مع من يتأمل منه الصدق، لكن الخذلان يمتحنه.

علي الغانمي

العسكري علي الغانمي

على منصّة الدوار، وبيدي علم بلادي

في اليوم نفسه، تقدّم مع العسكريين محمود العلوي والغانمي وأبوتاكي 8 آخرين، لكن الباقين لم يكونوا يرتدون الزي الرسمي، يكمل محمود: ركبنا على المنصّة، كنت أحمل في يدي اليمنى باقة ورد، وفي اليسرى علم بلدي -ما أزال أحتفظ بالورد وبالعلم في مكان خاص فهما إرثي الأغلى من أيام الدوار- وفي جيبي وضعت الكلمة التي كنت سألقيها من فوق المنصّة، لكن هيبة هذا الشعب أفقدتني كل قدرتي على الكلام. الهيبة لجام اللسان. ارتجل علي الغانمي كلمة شكر، وأعلنا من هناك موقفنا: "لسنا نحن (العسكريين) من نخرج من خدمة هذا الشعب، بل على وزير الداخلية أن يفعل".

"بعد نزولنا من المنصّة قال لنا أحد الشباب: هناك شخص يريد رؤيتكم. أخذونا إلى واحدة من الخيم، كان بداخلها الشيخ عبد الجليل المقداد. ما إن رآنا ندخل حتى خلع عمامته ووضعها على كرسي بجانبه، ووقف فاتحاً ذراعيه لنا، وعندما اقتربنا منه همّ بتقبيل رؤوسنا، لكننا لم نسمح له. أنزلت رأسه بالقوة وقبّلت أنا رأسه. احتضننا بحرارة من يريد إزاحة أي مكروه قد يعترضنا. الحرارة التي احتضننا بها وصلت صدورنا مباشرة. شعرنا باعتزاز لم نشعر به من قبل. فاضت المشاعر والعيون. قال بصوت تختلط فيه الدموع بالفخر بالعرفان: "أنتم رجال، وما فعلتموه سيكتبه التاريخ ولن تنساه لكم الأجيال".

يردف محمود: لم يتجاوز لقاءنا بالمقداد أكثر من دقائق قليلة. خرجنا بعدها وأبدلنا ثيابنا وعدنا إلى الدوار. الذين عرفوا وجوهنا كانوا ينتظرون منا الإشارة ليخدمونا بأي شيء. كم يخجلك هذا الشعب حين يصير خادمك وهو السيد. كم هو حضن هذا الشعب. هل بعد هذا الشعب من سبيل؟

تعميم الصور والفصل من الخدمة

كانت هذه الحركة التي حدثت في الدوار كافية لوضع العسكريين الثلاثة (العلوي والغانمي وبوتاكي) في القائمة السوداء المطلوبة للعقاب، "في اليوم التالي مباشرة تم تعميم صورنا في جميع منافذ البحرين وكل المعسكرات لعدم السماح لنا بالخروج أو تسلم السلاح، وأننا مطلوبون للعدالة. كنا نعلم من لحظة وقوفنا بالزي في الدوار إننا صرنا مطلوبين، وهيأنا أنفسنا لما بعد الاعتقال. كنا نعلم أنه ينتظرنا أحد أمرين: الحكم بالسجن المؤبد، أو الأقوى وهو اتهامنا بالخيانة العظمى والحكم علينا بالإعدام. لقد هيأنا أنفسنا لأية نهاية تأتي وكنت أردّد في داخلي: "لن يأتي انتصار عظيم إلا بتضحيات عظيمة".

في اليوم التالي قام العسكريون بنصب خيمة خاصة بهم، تشجعت أعداد أخرى من العسكريين وجاؤوا إلى الدوار. يقول محمود: جاء 8 عسكريين آخرين ليعلنوا انضمامهم إلى صف الشعب، جلسنا معهم في الخيمة قبل أن يخرجوا، نبهناهم إلى الأقصى الذي قد يتعرضون إليه، والنتائج الوخيمة التي قد يلاقونها، توقعنا أن ينسحب البعض أو يتردد، لكن الكل قال: نحن مستعدون للأقصى. كان العسكريون هم حسين الملكاوي، وحسين أحمد المعاميري، وحسن خليل العقش، وهاني الوطني، ونضال المنامي، ويونس مرهون، وسيد حكيم حسين، ومحمد حرم. معظمهم لا يزالون يقضون مدة عقوباتهم. خرج الـ8 بزيهم الرسمي، واعتلوا منصّة الدوار، وكان ضخاً جديداً للأمل في قلوب الناس ونفوسها، وعلت الهتافات ذاتها: شكراً لكم شكراً لكم..

بعدها عمّمت وزارة الداخلية قائمة بأسماء الـ11 عسكريا الذين نزلوا إلى الدوار بزيهم العسكري، تتضمن قرار فصلهم من العمل. يقول محمود: الطريف أن علي البنعلي رئيس نقابة ألبا والذي كان مرابطاً معنا في الدوار حينها، قال لنا بالحرف الواحد: "خل يفنشونكم، أنا سأوظفكم في ألبا سكيورتية".

لكن الموجع الذي ينقله محمود، هو أن 3 من المحامين في خيمة المحامين التقوهم حينها(تتحفظ المرآة على نشر أسمائهم)، وأعطوهم ورقة فيها أسماء 21 محاميا: "قالو لنا إن كل هؤلاء سيتطوعون بالدفاع عنا في حال تم اعتقالنا. إحدى المحاميات المعروفات قالت بالحرف الواحد: "لا أحد سيدافع عن العسكريين غيري". وبعد دخول قوات درع الجزيرة وفرض قانون الطوارئ، وبعد أن اعتقلنا اتصلنا بهم واحداً واحداً، لم يجبنا أحد. اختفى الجميع".

يكمل: كان تواجدنا شبه دائم في الدوار، وكنت أعد وجبات الإفطار يومياً: البيض والطماطم والفاصوليا، مع الشاي والقهوة على الفحم. خلال أيام الدوار بقت اتصالات تردني من الداخلية ولم أكن أرد عليها، وكان نبيل بهزاد (نائب عريف) في الأمن الوقائي يتصل بوالدي ويقول له: خل محمود يسّلم نفسه.

أخي لا يقتل أخي الآخر!!

في يوم ضرب المرفأ المالي 13 مارس. كان المحتجون الشباب يقفون وجهاً لوجه قبال قوات الأمن. الشباب بأيد عزلاء حتى من حجر، مقابل أسلحة متأهبة للطلق من قبل قوات الأمن. لم تكن المسافة بين الفريقين سوى بضع أمتار فقط. شباب يقفون بثقة المسالم، وقوات أمن تقف بتربص الخائف. توجه محمود إلى المتجمهرين في المرفأ بعد أن علم بنية ضربه، وهناك كان ينتظره موقف آخر مع واحد من أعز أصدقائه في الشرطة، يقول: "وقفت جهة الثوار، ولفتني صديق مقرب جداً لي في جهة قوات الأمن. اسمه (راشد....) وهو من أخص أصدقائي، يكفي لتبيان مدى خصوصية علاقتنا أني أنادي والدته: أمي"، يكمل: " صرنا متواجهين لكنه لم يميزني بين الشباب. لم يكن أحد يحمل في يده أي شيء، وليس في يدي غير سيجارتي التي كنت أنفثها. فطنت أن قوات الأمن تنوي الهجوم، فاتخذت وضع الاستعداد بأن ملت جانباً، ذلك أن الوقوف المستوي يتسبب (في حال تم الهجوم والمباغتة) إلى التراجع للخلف، وبالتالي التصادم والسقوط، أما الوقوف الجانبي فيسهل الجري والحركة دون اصطدام".

يكمل: "بينما أنا استدير جانباً في وضع الاستعداد، لمحت صديقي يطلق رصاصة مطاطية أصابت الواقف على يميني مباشرة وسقط على الأرض من فوره، لا أعرف المصاب ولن أعرفه لو رأيته الآن، هممت بالنزول لحمله لكن القوات هجمت وسحبته ناحيتهم. كانت صدمة قاتلة بالنسبة لي!! كيف استطاع فعل هذا؟!! إنه بحريني وهذا المصاب بحريني!!! هذا الشاب لم يهاجم ولم يفعل شيئاً!!! كيف طاوعه قلبه وإنسانه أن يفعل ذلك؟!! لم أتمالك نفسي وكنت أغلي غضباً، ذهبت ناحيتهم، وقفت على مسافة قصيرة جداً، ناديته: راااشد، التفت إلى مندهشاً، لم أنطق له كلمة واحدة، طالعته بغضب وعملت له حركة واحدة فقط: وضعت إصبعي على عيني ثم وجهتها في الهواء نحو عينه. لقد فهم ما كنت أريد قوله تماماً: لقد رأيت جريمتك بعيني فلا تحاول يوماً أن تنفيها. 

ثم التفت إلى شرطي آخر بعد أن خلعت الجاكيت الذي أرتديه، وصرخت فيه: أنا شرطي بحريني أطلق علي!! لم يطلق. لم أشعر بنفسي وأنا أصرخ، لكن الناس من حولي تفاجأت أن من كان يقف معهم هو شرطي. ناداني راشد: صديقي تعال.. صديقي تعاااال.. لن أصيبك بشيء. أجبته: إذا تريدني تعال هنا، وكانت المواجهات قد بدأت بين الطرفين.

اتصل بي راشد في اليوم نفسه، وقال لي: يا أخي.. أسكته: لا تقل لي يا أخي وأنت تقتل أخي. بهت راشد وقال: من أخوك؟ من تعني؟ قلت له: كل بحريني هو أخي. ثم صرخت فيه: أنا ذاهب باتجاه مجمع الدانة الآن وإذا رأيتني فأطلق علي. يكمل محمود: لم يحزّ في نفسي مثل هذا الموقف. لقد زارتني والدته بعد الإفراج عني وما زالت تناديني يا ولدي وما زلت أناديها يا أمي لكنه لم يعد أخي. سمعت فيما بعد أنه طلب نقله من قوات مكافحة الأمن وأنه يعمل الآن في الإعلام الأمني، لكني لا أعرف عنه شيئاً من حينها.

تطهير الدوار

مرحلة (التطهير)!!

يكمل محمود: في يوم 16 مارس 2011، كنت نائما في الدوار، شاهدت بعيني طائرة (الكوبرا) الحربية وهي تحلق فوق رؤوسنا مباشرة، لم تكن طائرة الأباتشي كما ظنهّا البعض، فهناك فرق بينهما، الأباتشي تتكون من مقعدين أماميين فقط، أما الكوبرا فيوجد خلف المقعدين فراغ مع باب جرار، يجلس العسكري فيه ويقوم بالإطلاق. كان السلاح المستخدم في الطلق على الدوار يسمى (رشاش أوال) أو (أول) ويسمى أيضاً (M 16)، وهو رشاش مضاد للدروع، لا أعرف لماذا يستخدم مثل هذا السلاح للطلق على أناس عزّل في الدوار لولا أنه تطهير انتقامي فعلاً، الرصاصة الخاصة به طولها يصل أكثر من 3 سم. هذا السلاح يستخدمه الجيش فقط ولم أره يوماً في الداخلية. كانت الطائرة ترشّ المكان بهذا الرصاص والناس تهرب على وجهها لا تدري أين تولي.

لم يقبل الشيخ عبد الجليل المقداد مغادرة الدوار قبل الاطمئنان على خلوه من المعتصمين، لكن الشباب أركبوه في إحدى السيارات وخروجوا به ونقلوه إلى مكان آمن. أما أنا فقد وجدت نفسي في منطقة النعيم، دخلنا بعض البيوت نحتمي بها، وكنا نسمع طلقات الرشاش على جدران البيوت من الخارج. ثم تأتي القوات وتطرق الأبواب مهدّده أصحاب البيوت: "لديك نصف ساعة فقط لتمسح أثر الرصاص من الجدار وإلا نجي نشيلك !!!.

بدأت مكارثية الاعتقالات والمداهمات، وتمت مداهمة بيت والدي أكثر من مرة بحثاً عني، كذلك شقتي السابقة، أما أخي العسكري فيصل المتهم حالياً بخلية جيش الإمام والمحكوم عليه بالسجن المؤبد، فقد تعرض بسببي للتوقيف والتهديد مرات عديدة كي يدلهم على مكاني، واستهدف منذ حينها".

ظننتني الأخطر في البحرين

بقى محمود مختفياً حتى تاريخ اعتقاله في 29 ابريل 2011. لكنه مع هذا حضر تشييع كل الشهداء الذين سقطوا في تلك الفترة. شارك في تشييع الشهيد أحمد فرحان والشهيدة بهية العرادي   وغيرهم. قبل ساعة من اعتقال محمود، علم أنه تم الإخبار عن مكان وجوده في بيت صديقه وأن القوات في طريقها لاعتقاله. "نزلتُ من البيت إلى الشارع، كانت المنطقة ملغّمة بالكامل ولا أمل في الفرار، صعدنا مرة أخرى وتهيأت للاعتقال، قال صديقي تعال نتناول العشاء. ليست سوى دقائق حتى صارت مهاجمة الأبواب. قفزت من فوري إلى سطح المنزل، نظرت للأسفل، كانت القوات منتشرة على مد البصر: مدرعات، كوموندوز، سيارات الكروزر، جهاز الأمن الوطني، بالإضافة إلى قوات الأمن. ظننت نفسي لوهلة المطلوب الأول والأخطر في البحرين"، يضحك ساخراً. 

"كنت سأقفز نحو سطح آخر، لكن طلقة في الهواء أوصلت لي تهديد كاف. رفعت يدي معلناً جهوزيتي للاعتقال. ثوان قليلة وإذا بالقوات تصل لي من جميع الجهات بما فيها أسطح البيوت الأخرى. مباشرة تم تقييدي بالهفكري وبدأ مسلسل الضرب والصفعات. ألقوني على الأرض التي كانت حجرية وبدأ الركل والدوس والضرب بأعقاب البنادق على رأسي وكل مكان في جسدي، انشق رأسي من قوة الضرب بأعقاب البنادق. ثم قاموا بسحبي وإلقائي من ارتفاع (13 طابوقة)، لم أعد أشعر برجلي التي خلتها انفصلت عني. ثم أنزلوني إلى الطريق جراً وهم يلقون علي شتى أنواع الإهانات الطائفية. وقبل إدخالي إلى السيارة صفعني أحدهم بكلتا يديه وبأقصى قوتهما على أذناي، شعرت بالدنيا تدور حولي وتوازني ينهار وأنني فقدت سمعي. أركبوني سيارة مدنية بعد أن غطوا وجهي بثيابي التي أرتديها. وفي الطريق بدأ الحرق بأعقاب السجائر يلعب على أنحاء جسدي..

 

  • الحلقة القادمة: العسكري محمد العلوي يروي تجربة السجن والمحاكمات

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus