العسكري محمود العلوي يسرد حكاية المعتقل: اعترف أنك ذراع مشيمع... هكذا صرخ في وجهي مدير الأمن الوقائي «2 - 3»

قاعة المحكمة العسكرية
قاعة المحكمة العسكرية

2014-04-06 - 12:17 ص

مرآة البحرين (خاص): انتهت الحلقة السابقة باعتقال عميد العسكريين محمود العلوي في 29 ابريل 2011، أُركب سيارة مدنية متبوعة بالعشرات من سيارات الأمن بعد اعتقاله من بيت أحد أصدقائه. في هذه الحلقة يكمل محمود رواية ما حدث له منذ أُركب السيارة حتى أخذه إلى مبنى الأمن الوقائي في القلعة وتعذيبه هناك، ثم نقله إلى سجن الحوض الجاف مع باقي زملائه العسكريين، ومواقفهم الجمعية هناك، ومحاكمته العسكرية، وتفاصيل أخرى..

أن أُبقي عقلي متيقظاً

"كنت في حالة روع حقيقية وأمامي صورة قاتمة للمجهول الذي ينتظرني، لكني حاولت أن أبقي هذا (يشير إلى دماغه) يقظاً. عقلك مفتاح قوتك. الجسد أول من ينهار تحت التعذيب والعقل آخرها. حين يفقد عقلك قدرته على التعامل مع اللحظة بالشكل الصحيح فإنك تُهزم. كان هذا هو التحدي الذي حاولت أن أبقي نفسي عليه، لا خلال فترة التحقيق والتعذيب فقط، بل طوال فترة سجني التي قضيتها 3 سنوات كاملة: كيف تتعامل مع اللحظة، كيف تهزمها بدلاً من أن تهزمك، أو لا أقل من أن تخففها عليك بقدر الممكن. حاولت دوماً أن أبقي عقلي متيقظاً لمعرفة أين أنا؟ وأمام من أقف؟ وكيف أتصرّف؟ وماذا أقول؟ وكيف أكسر أمامهم حاجز خوفي منذ البداية، وأن أساومهم لنيل بعض حقوقي. لقد ساعدني ذلك في إدارة معظم المواقف التي مررت بها داخل المعتقل. ولأني عسكري، فقد كنت أعرف معظم من تعاملت معهم، بعضهم كانوا ضباطي في العمل".

وديتهم الدوار للمتعة؟

كان اعتقالي عند الساعة العاشرة مساء، تم إنزالي عند 3 أماكن لم أميزها، في كل مكان أبقى حوالي ساعة كاملة أحصل على وجبة دسمة من الضرب والإهانات والسبّ، ثم يتم جري مرة أخرى إلى السيارة والمغادرة بي نحو مكان آخر. كان وجهي مغطى والهافكري يقيد يدي للخلف.   استطعت أن أميز أن المكان الأخير الذي أخذوني له هو الأمن الوقائي في القلعة بسبب صوت طيارات الهوليكبتر التي كانت تحط داخلها. ما إن أدخلوني حتى سمعت أصواتاً تصرخ مبتهجة: ولد العلوي صدناااااه. في أقل من لحظة وجدت نفسي ملقى على الأرض تحت أقدامهم وركلاتهم وضرباتهم التي لم يسلم منها جانب من جسدي. 

أوقفوني بعدها مقابلاً للجدار، تمكنت أن أرى من خلال قميصي القطني الذي أرتديه أنه جدار قديم مخرم. بدأ التفتيش، أخرج أحدهم -عرفت أن اسمه أحمد- محفظتي، حذرته: لا يجوز لك، فيها صورة أختي بدون حجاب. قال: إحنا ما عندنا غيرة. ثم أخرج صورتها وصورة طفلتي وقال لي: وديتهم الدوار للمتعة؟ تجاهلته وقلت: أريد ماء. استرسل في الضرب. 

كان شريط صور الأشخاص القريبين مني يمر أمامي: أخي الذي أعرف أنه سيعاقب بجريرتي، الشباب الذين كنت في بيتهم لحظة اعتقالي وتم أخذهم بسببي، زوجتي، أطفالي، والداي، أي مصير مجهول ينتظر كل هؤلاء بسببي؟ أنكسر إلى حد ما، ثم تعود صورة صديقي الشهيد فاضل المتروك تمر بطيفي، وصورة الشيخ علي النكاس، فلا تلبث حماستي أن تعود. أخاطب عقلي: أنا الأقوى هنا، لا بحريني حولي، أنظر إلى هذا النظام المهزوز من الداخل، لا يثق في شعبه لا سنّة ولا شيعة، لذلك هو يستورد من يدافعون عن بقائه من الخارج، لأنه يعلم أنه ساقط في عيون شعبه.

محمود العلوي 2

محمود يرفع الجينز الذي كان يرتديه ساعة اعتقاله

ماءٌ حارقٌ في فمي

يتابع محمود: جاء أحدهم من الخلف، وضع يده على كتفي، قال: لماذا فعلت ذلك؟ أجبت: أريد ماء. قال: أحضروا له ماء. أحضر لي الشرطي أحمد ماء في قنينة، قال لي ارفع رأسك وافتح فمك، فعلت. سكب ماء حارق يغلي داخل فمي، اشتعل وجهي كلهيب ولفظت الماء في وجهه. انهال علي بالضرب الهستيري مرة أخرى.  

قال لي بعدها: سأدخلك مكان فيه (عتبة)، عندما أقول لك ارفع، ترفع رجل، وعندما أقول لك أنزل، تنزلها. أدخلني المكان وقال لي: ارفع، فعلت، ثم قال: أنزل: فعلت. لم تكن هناك عتبة من الأصل فوقعت على وجهي مباشرة. 

أدخلني مكتب فيه عدد من الضباط، رفع الغطاء عن وجهي. أعرفهم: تركي الماجد، أحمد الدلهان (مدير الأمن الوقائي)، غسان السيب، وملازم لا أعرفه، وآخر بحريني يرتدي ثياباً عربية، كان من الواضح أن له رتبة متقدمة. كان كل من تركي الماجد وأحمد الدلهان ضابطان أعمل تحتهما في مركز الوسطى. ولا يجوز قانوناً أن يحقّق معك مسؤولك في العمل، هذا يبطل القضية. 

طالعني البحريني باللباس العربي وقال: ماذا تلبس في رقبتك؟ قلت: حرز (كان حرز السيدة خديجة عمله لي معتقل). أشار لهم لينزعوه من رقبتي، حاولوا فلم يستطيعوا، ثم أحضروا الولاعة وحرقوا الخيط، ثم سلموه الحرز، فتحه وأخرج الورقة التي في داخلة وداس عليها.

اعترف أنك ذراع مشيمع

صرخ فيّ الدلهان: أنت اعترفت أنك ذراع مشيمع اليمين. قلت له: "أنا لم أقل ذلك، ثم أن مشيمع ذراع لوحده ولا يحتاج ذراع مثلي". استفزه كلامي وصفعني على وجهي بطفاية السجائر التي كانت على الطاولة. شعرت الدنيا تدور حولي وأني سأقع من طولي.

يقول محمود: عبارة "أنت ذراع مشيمع" ظلت تردد علي كتهمة تستوجب الضرب والركل والصفعات منذ إدخالي السيارة فور اعتقالي. أما أصل هذه العبارة فهي اتصال هاتفي كنت تلقيته أيام الدوار من وزارة الداخلية، كان ذلك في اليوم نفسه الذي وصل فيه الاستاذ حسن مشيمع البحرين، وقبل وصوله إلى الدوار بوقت قصير. المتصل من جهة العمل هو مسؤول التوقيف اليمني الأصل اسمه علوي، لم أرد على هاتفي لكن أحد أصدقائي فعل. سأله علوي: لماذا يترك محمود عمله ويأتي إلى الدوار؟ قال له صديقي على نحو السخرية: هو يعمل هنا أيضاً، الآن سيصل الاستاذ حسن مشيمع إلى الدوار وسيقوم بحمايته وهذا عمل أمني أيضاً. دفعت ثمن هذه المزحة ضرباً مبرحاً في كل مكان أخذوني إليه. بعدها قام أحمد الدلهان بالاتصال بمسؤول التوقيف علوي أمامي لكي يواجهني، لكن الأخير قال له: لم يكن محمود هو من قال هذا، بل متحدث آخر. أغلق الهاتف مستشاطاً.

وما أدراك ما صعق الكهرباء؟

يكمل: بدأت الأسئلة تنهال علي من كل صوب حول أسماء زملائي الذين كانوا في الدوار، كان جسدي بدأ ينهار. دخلوا بجهاز الصعق الكهربائي، ما إن رأيته حتى قلت في نفسي: "آآآآآآه جاك الموت". أعرف قوة هذا الجهاز الذي تعادل الكهرباء فيه قوة بيت كامل. تشعر أن جسدك يتفتّق ودماغك تنفجر وتحترق كل أجزائك من الداخل وأنك تموت فعلاً.

بدأت الكهرباء ترقص على جسدي ورأيت الموت بعيني. بعد وجبة من الصعق ظننتها دهرا، أجلسوني على كرسي، وأوصلوني بأسلاك كهربائية مفتوحة، وضعوا بعضها خلف أذني مباشرة، ثم غطوا وجهي، وسكبوا علي الماء. جعلوني أعيش لحظة الإعدام بالصعق الكهربائي بالفعل. لحظة لا يمكن تخيلها أبداً، وجاءني الصوت: اعتررررف!!

- بماذا أعترف؟

- أين شاكر أبو تاكي؟ -أين علي الغانمي؟ -أين فلان وفلان وفلان....

الضربات تتابع من كل مكان، فقدت شعوري بيدي الموثقة بالهافكري وراء ظهري، وبدأت أصرخ بصوت عال، ورحت استبق ضربهم بصراخي، أفزعت المكان بالصراخ، فكفوا.

سحبوني بعدها إلى مكان خارج المكتب، مع استمرار مسلسل الضرب الثقيل، قال لي أحدهم: نزّل راسك. كان صوت نبيل بهزاد الذي أعرفه معرفة شخصية. كان الضرب ينال مني، رفعت رأسي في الأثناء فكان في وجهي الضابط غسان السيب. قلت له: أنت ضابط وتسمح أن يضربوني أمامك!!

أفقت على صفعات الطبيب وسبابه

ثم بدأت مرحلة التهديد بعائلتي، على بعد مسافة، أشاروا لي إلى سيدة ترتدي عباءة رأس ويديها موثقتين إلى الخلف بالهافكري، قيل لي هذه أختك أحضرناها وسنرى تعترف أم لا. ثم قالوا: هذه زوجتك. كنت أعلم أن زوجتي لا ترتدي عباءة الرأس، والهيئة ليست لجسد أختي، لكن الموقف يجعلك تلتبس في كل شيء، وقفت في حيرة لبرهة: كيف أتصرف؟ ماذا أفعل؟ أستحضرت في ذهني السيدة زينب في كربلاء، والشهيدة بنت الهدى، قلت في داخلي: أهلي ليسوا أفضل منهم. ومع أني كدت أنفجر من الداخل لكن ذلك التفكير جعلني ذلك أحتمل الموقف كي لا أنهار أكثر. 

أخذوني بعدها، وأسمعوني محادثة في البالتولك بيني وبين أحدهم، لم يكن في المحادثة ما يهم، كان يخبرني فيها أنه لن يتمكن من زيارتي لأن الوضع غير ملائم. سألوني من هذا، أعطيتهم اسم أحدهم من الكويت.

أخرجوني في مساحة مفتوحة خارج المكاتب، علقوني بالهافكري من يدي في اسطوانة، كان جسدي في قمة انهياره، لا أعرف كم بقيت على هذا الوضع، فقدت كامل وعيي، وأفقت على ضربات الطبيب وسبابه وصفعاته على وجهي في مستشفى القلعة. 

أنا الحالة رقم 37 في تقرير لجنة تقصي الحقائق. ما أزال أعاني من مشاكل صحية في رجلي اليمنى أتعالج عنها. عندما أخذتني لجنة بسيوني للفحص في مستشفى القلعة في شهر رمضان، رأيت الطبيب العراقي الأصل الذي ضربني، اسمه إلياس، ما إن رآني حتى بالغ في الترحيب وقدّم لي الحلوى، لكني طالعته ثم قلت للسيد بسيوني هذا الطبيب ضربني وعذبني عندما أحضروني له في حالة يرثى لها.

العلوي

مع بعض مشغولاته في السجن

تهمة خطف الشرطة

بقيت في الأمن الوقائي بالقلعة ليومين من التعذيب المستمر والمتواصل. وفي هذه الفترة عملت على كسر حواجز معينة مع رجال الشرطة هناك، كأن أصرخ مثلاً: جوعااان، أو: أريد سيجارة أثناء التحقيق، أو أطلب شاي وما شابه، لا تكن ضعيفاً أو متردداً فيهزموك، فالحق سلطان. 

ساعدني في بعض الأحيان أني كنت شاركت في دورات سابقة في التحقيق، من بين هذه الأحيان عندما أدخلوني على النقيب محمد التميمي. واجهني بدون مقدمات: أنت متهم بخطف الشرطة. قلت: كيف خطف؟ قال: أنتم أردتم خطف شرطة. قلت: نوينا أم فعلنا؟ قال: لا تسأل، تكلّم عن خطف الشرطة. في الحقيقة لم أكن مستوعباً، أنكرت بالكامل. كان وقت صلاة العصر. قال لي سأعطيك بعض الوقت لتفكّر وأعود لك لأسمع اعترافك. أخرجوني من المكتب وأوقفوني مقابل الجدار. ظللت أعصر ذهني، هذه العبارة قيلت على سبيل المزاح في جلسة خاصة جداً. كنت مع 4 من خاصة أصدقائي، بينهما أخوان تم اعتقالهما، وأخوان آخران هما (تتحفّظ المرآة من نشر أسميهما)، أي أن ثمة مخبر منهما أوصل هذه المزحة الساخرة على هيئة مخطط ليوقع بي. 

كان جسدي منهاراً ودماغي غير قادر على التركيز، لكن علي أن أفكّر جيداً كيف أتعامل مع الموقف، فأنا أمام تهمة كيدية خطيرة جداً إذا لم أحسن التعامل معها. قررت أن أستخدم استراتيجية تجعلني أحصل منهم على معلومات أولاً ثم أستخدمها لصالحي. عاد النقيب وهو يقول لي: "طالع شسويت في روحك.. المهم الآن قل لي ما قصة اختطاف الشرطة؟". استهبلت وقلت له: "كنت قد شاهدت تقريراً عن القراصنة الصوماليين الذين يختطفون السفن المحمّلة بالبضائع في البحر، فقلت لنقلدهم ونفعل مثلهم". 

لم أكن أعرف أية ردة فعل ستأتيني بعد هذا الكلام لكني أريد الحصول على أية معلومة ترشدني. لم يطل الوضع معه كثيراً، وكأنه أراد أن يحسم التهمة ويجعلني أمامها مباشرة، فأخرج لي إفادة مكتوبة وقال: هل ستنكر بعد الآن أنك قلت هذا الكلام؟ كانت الإفادة وشاية ضدي أني أخطط لخطف شرطة، الموقّع هو (فلان) من يفترض أن يكون صديقي، وهو وأخوه كانا معنا في تلك الجلسة. تأكدت الآن أن شكوكي صحيحة، وحان الوقت لضربتي. 

صديقي المخبر الذي وشى بي

قلت للنقيب: نعم أنا قلتها على نحو المزح مع أصدقائي، في المكان الفلاني، وقد أعطاني (فلان) قائمة بأسماء الشرطة الذين سيعمل هو على استدراجهم لاختطافهم، وأعطاني أخوه (فلان) قائمة أخرى بأسماء شرطة آخرين. صمت النقيب لا يدري ما يقول.

سألني بعدها: هل سبق وذهبت لدورة تحقيق. نفيت. كرر سؤاله وكررت نفيي. أخرجني وأرجعني بعدها وكان أمامه ملفي في العمل، قال: تنفي أنك دخلت دورات تحقيق ها؟ قلت له: معلوماتي كلها عندكم. استمر التحقيق معي إلى الفجر. ثم جعلوني أوقع على أوراق لم أقرأها. وتم توثيقي بالهافكري مرة أخرى وأوقفوني مقابل الطوف حتى قرابة الساعة 8 صباحاً.

أخذوني بعدها إلى الحوض الجاف، واستمر التحقيق معي لمدة أسبوعين أتنقل بين السجن والقلعة. طوال فترة التحقيق لم أسمع تهمة اختطاف الشرطة مرة أخرى، وقد دعاني فضولي إلى السؤال عنها ذات تحقيق: وين صارت تهمة اختطاف الشرطة؟ قال المحقق: لم تثبت عليك. كنت أضحك في داخلي وأعلم أنهم أغلقوها لأن المتورط فيها سيكون مخبريهم. قلت له: وماذا عن شهادة مصدركم السرّي فلان. قال: كيف عرفت أنه فلان؟ قلت: رأيت إفادته التي وشي فيها ضدي بنفسي. ضحك وقال: هل رأيت الفيديو أيضاً؟ سألت: أي فيديو؟ ضحك ثم أراني فيديو يتم فيه تسليم المخبرين الأخوين (اللذان كانا من أعزّ أصدقائي) مبلغ من المال ثمن الوشاية علي، كان التسليم في مقهى (ستاربكس)، وعلمت فيما بعد أن المبلغ الذي وعدا به كان 800 دينار لكل منهما، لكنهما سلّما 150 فقط!

الزيارة الأولى: أقرعٌ ولا أسمع

في اليوم الأخير قلت للمحقق بلهجة حازمة، لن أكمل التحقيق حتى تعطيني اتصالاً لعائلتي وزيارة. وعدني المحقق بذلك وبالفعل اتصلت بعائلتي فور الانتهاء من التحقيق وتم تحديد زيارة لاحقة لي. في الزيارة الأولى كانت المشاعر طاغية وبي جوع محموم إلى الكلام. كنت حليق الرأس أرتدي ثياباً طويلة لاخفاء آثار التعذيب التي صبغت كل جسمي. حضرت أمي وأبي وزوجتي. اللقاء نهر دموع. لم تسكت أمي وزوجتي، أما أبي، فكانت تلك هي المرة الرابعة التي أرى فيها دموعه تهطل في غير مجلس الحسين: المرة الأولى عندما توفت أختى عام 2006، والثانية عندما توفى أخي 2010، والثالثة في 2011 عندما كنت مختفياً وتفاجأ بي وسط البيت، وهذه هي المرة الرابعة. أبي جلمود قوة لكن توالي المصائب لا ترحم. الضرب على أذني أثر على سمعي، لم أكن أسمع ما يقولون وكنت أطلب منهم تكراره مرات ومرات. أتكلم بصوت مرتفع لأني أظن أن الجميع لا يسمع مثلي. تصفني زوجتي حينها: لم تكن تسمع شيئاً مما نقول، وكنت تتكلّم طوال الوقت دون توقف وكأنك تريد أن تقول كل شيء في هذا الوقت القصير جداً.

في سجن الحوض الجاف كانت المعاملة قاسية وغير إنسانية. لم نر الشمس لمدة 6 شهور كاملة ولم يتوقف مسلسل ضربنا وتسفيه عقيدتنا والنيل من أمهاتنا ونسائنا. كانوا يأخذوننا من زنازيننا ويستعرض كل منهم قوته أمام الآخر على أجسادنا. بعضنا كانوا يخلعون ملابسه كاملاً ثم ضربه مع السب والقذف. لكن الأكثر سخرية وإهانة، هو أن بعض وكلاء نيابة الذين يتعنون إلينا ليغرقونا بوجبات من الضرب والإهانة، ثم هم ذاتهم من يأتون إلينا لاحقاً في لجان التحقيق ليسألونا: من الذي ضربكم وأهانكم؟

قاضي المحكمة العسكرية: اطلع براااااااا

كان يوم 5 يونيو هو تاريخ بدء محاكمتي العسكرية، لم تطل الجلسات، منذ الجلسة الثالثة تم إصدار الحكم علي بالسجن لمدة 12 عاما بتهمة التجمهر وحيازة أو إحراز مطبوعات وتسجيل أناشيد تحبّذ على قلب أو تغيير النظام السياسي في الدولة. في الحقيقة لم أتفاجأ بالحكم، وقد توقعت ما هو أكثر من هذا بكثير. عندما قرأ القاضي عليّ لائحة التهم متبوعة بالحكم، رفعت رأسي أرى الآية المكتوبة فوق رأس القاضي"وإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا". قال القاضي: شفيك تطالع؟ قلت له: أطالع الآية التي فوق رأسك، فأنت لم تحكم بالعدل، وأضفت "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ". صرخ القاضي من قمّة رأسه: اطلع برا اطلع برااااااااااا

كنت في سجن الحوض الجاف عنبر 8، زنزانتي هي رقم 12، وعددنا داخلها 12 معقتلاً عسكرياً، وعدد سنوات حكمي 12 (يضحك محمود). يعدّد بعض رفقاء زنزانته: بينهم شاكر أبو تاكي وحسين فيصل وحسن الجردابي وياسر الحبيب وأبوجعفر الحايكي ومحمد مدن وفيصل جواد أبو الشهيد ساجدة. 

يكمل: دخلت بعد عودتي من المحكمة رافعاً علامة الصمود بشكل احتفالي. الشباب كانوا في قمّة قلقهم علي، تراكضوا نحوي، قلت لهم: "12عاما، عام لكل إمام، لا تساوي شيئا أبداً". تكيفك مع ما أنت فيه من وضع   يعتمد على الرسائل التي توردها إلى عقلك. عندما لقّنت نفسي عبارة "عام لكل إمام"، وجدتها حسبة تافهة جداً. 

كتلة العسكريين: قلب واحد قرار واحد

يتوزع المعتقلون العسكريون في سجن الحوض الجاف على عنبرين كاملين. كان عددنا حينها 198 معتقلاً على خلفية سياسية. شكّلنا كتلة استثنائية من القوة والإرداة والعزيمة المشتركة، لم أر أوفى من العسكريين لبعضهم ولقراراتهم داخل السجن. كنّا شخصيات مختلفة وعقول مختلفة وأعمار مختلفة أيضاً لكن بقلب واحد. منحنا ذلك الترابط قوّة وقدرة على فرض مطالبنا التي لم تكن أكثر من حقوق طبيعية، لكن لم نكن لنأخذها لولا أننا قلب واحد وقرار واحد وموقف واحد. 

يكمل محمد: نفذنا معاً 4 إضرابات عن الطعام لتحقيق مطالب نجحت جميعها في تعديل أوضاع معينة. حين نقوم بالاضراب يلتزم الجميع. إنه شرف العسكري في الامتثال والالتزام والانضباط. لك أن تتخيل قرابة 200 معتقل في سجن واحد جميعهم مضربون عن الطعام. تضج إدارة السجن بكاملها. خلال إضرابنا الأخير في شهر رمضان سقط 80 معتقلاً في اليوم الرابع. الأمر الذي جعلهم يأتون للتفاوض معنا وانتهينا إلى فك الإضراب.

في الإضراب الأول طالبنا بتسريع محاكمات الاستئناف أو الإفراج الفوري. أضرب الجميع لمدة 10 أيام حتى جاء المفتش العام والتقانا، وبالفعل في اليوم نفسه أُفرج عن 20 معتقلاً عسكرياً.

وعندما نفذ أهالي العسكريين المعتقلين وقفة تضامنية خارج السجن، تم إنزال قوات الأمن لهم والهوليكوبتر وأقفلوا علينا الزنازن مع إحضار فرق شرطة إضافية. وقف جميع المعتقلين العسكريين وقفة واحدة وقلنا لهم: "إذا سمعنا طلقة واحدة على أهالينا سنقلب لكم السجن بالكامل". هم يعلمون أنا عندما نقول كلمة فإننا نمتلك الجرأة والقوة لتنفيذها مهما كانت النتيجة. مرت الوقفة بسلام. 

كانوا يحاولون تهديدنا بأننا عسكريون ويجب أن نمتثل للأوامر، نجبهم: لم نعد عسكريين ولن ننادي أحد منكم سيدي. لقد تركنا الخدمة العسكرية منذ وجهتم سلاحكم باتجاه الشعب.

في محكمة الاستئناف تم تخفيف الحكم الصادر في حقي بالسجن 3 سنوات. قال لي القاضي: سيد أنت ملفك نظيف، وانتو أولاد الديرة والوطن محتاجكم. رفعت يدي الموثقّة بالهافكري وقلت: الوطن محتاج لنا ونحن هكذا؟ أي وطن هذا؟ كان جوابه طردي من قاعة المحكمة.

قضينا قرابة عام كامل مع المعتقلين العسكريين، تنقلنا بين سجن الحوض الجاف وبين سجن أسري، ثم نقلنا بعدها إلى سجن جو الذي قضيت فيه عام وتسعة أشهر، وهناك اختطلنا مع باقي السجناء السياسيين، و بدأت مرحلة جديدة أضافت الكثير إلى وعيي وشخصيتي..

 

 

  • ترقبوا الحلقة القادمة..

 

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus