» رأي
د.عبدالهادي خلف: ورطة البروفيسور بسيوني (2-2)
عبدالهادي خلف - 2011-08-14 - 12:35 م
د.عبدالهادي خلف*
ورطة البروفيسور البسيوني(*) تكمن في المسافة بين توقعيْن مختلفين للمهمة التي تؤديها لجنته. أهي "لجنة مستقلة" أم هي "لجنة ملكية"؟ فمن جهة نرى واضحاً أن البروفيسور بسيوني يعتبر أن اللجنة التي يرأسها هي لجنة تحقيق "عُينت من جانب جلالة الملك لكنها لجنة دولية مستقلة وتم اختيار أعضائها بحرية تامة من جانبه اعتمادا على تاريخ وخبرة كل اعضائها المشهود لهم بالنزاهة والسمعة الدولية المرموقة فى مجال حقوق الانسان".
إلا أن للملك رأياً آخر، فهو يرى في اللجنة وسيلة غير مكلفة لتحقيق مجموعة من الأهداف، سأجمعها في ثلاثة محاور. أولها مباشر ويشمل ما يمكن أن يتحقق عبر استخدام اللجنة في مجال العلاقات العامة والإعلام. وثانيها هي جملة النتائج السياسية المأمولة على الصعيد الداخلي. وهذه تشمل حصول الملك على مزيد من الوقت لإعادة بناء تماسك العائلة الخليفية بعد جملة الشروخ التي تعرضت لها خلال الأشهر الأخيرة. ومن بين النتائج المأمولة أيضاً على الصعيد المحلي تخفيف الاحتقان الداخلي وتقليص حركة المعارضة في شارعها.
على صعيد العلاقات العامة جاء الإعلان عن تشكيل اللجنة مثل ضربة معلم. وتناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر تعيين البروفيسو وإنهالت التهاني من دول قريبة وبعيدة على الملك مشيدة بحكمته وبعد نظره. بعدها رأينا البروفيسور البسيوني بكل ما يملكه من سمعة واحترام دوليين يصف ما فعله الملك بأنها "أول بادرة تحدث من قائد عربى وفى دولة عربية" ولهذا فإنه يأمل أن يكون "نموذجاً يُحتذى فى الدول العربية والإسلامية" وهو نفس الوصف المحبب لدى الملك البحريني والذي عاش عليه لسنوات منذ وصفه به الرئيس الأميركي جورج بوش. وفي السياق نفسه نرى تصريحه الذي نقلته وكالات الأنباء عن أن "مجرد قيام الملك بتشكيل هذه اللجنة وأن وزارة الداخلية تتعاون معي يشير إلى أن الأمور (في البحرين) قد تغيرت".
و في أقل من يوم واحد حقق البروفيسور للملكِ إنجازاً مهماً في العلاقات العامة وبكلفة لا تزيد عن جزء مما تأخذه مؤسسات العلاقات العامة التي يستعين بها الملك مثل كورفيس وغيرها.
بطبيعة الحال لم تهتم االأجهزة الإعلامية الرسمية بالتدقيق في الأمر حين طيَّرت مديح البروفيسور للملك . ولم يهتم أحد بالإشارة إلى أن الدور المنوط باللجنة هو أدنى بكثير مما قامت به هيئات "التحقيق والمصالحة" في بلدان كثيرة منها المغرب (هيئة الإنصاف والمصالحة، 2004) وإندونيسيا (لجنة الحقيقة والمصالحة، 2004).
أقولُ ربما أخذ الحماس البروفيسور بعيداً حين بالغ في توصيف تاريخية لجنته "غير المسبوقة". فمعلومٌ أن لجاناً للتحقيق مختلفة الصلاحيات قد عملت في أكثر من ثلاثين بلداً خلال العقود الأخيرة لتقصي الحقائق وبغرض التحقيق في نمط من انتهاكات حقوق الإنسان. ومعلومٌ أن المجتمع الحقوقي الدولي يسعى من أجل نشر لجان التحقيق المستقلة التي تستطيع ممارسة عملها بفاعلية. فعلى سبيل المثال تتبنى منظمة العفو الدولية "نهجاً يقوم في جوهره على مصلحة الضحايا، وأن تعزز حق الضحايا في معرفة الحقيقة وإقرار العدالة والحصول على تعويض كامل" عن طريق توضيح الحقائق حول انتهاكات حقوق الإنسان ووضع الأدلة التي جمعتها تحت تصرف هيئات التحقيق القضائية الجنائية وكذلك تقديم التوصيات الفعالة فيما يتعلق بتقديم تعويضات كاملة لجميع الضحايا وأسرهم. (1)
على الصعيد الداخلي استطاع الملك عبر ضربة المعلم تلك أن يثبت للمتشددين في عائلته صواب خطته. فلقد نشرت وكالة الأنباء البحرينية بعد يوم واحد من إعلان تكليف البروفسور بسيوني وقبل أن تبدأ لجنته أعمالها رسمياً بإسبوعيْن تصريحاً للبروفيسور إثر أول لقاء علني له مع وزير الداخلية أعرب فيه عن "شكره وتقديره لمعالي وزير الداخلية وتأكيده على تجاوب الوزارة مع كل مطالب اللجنة" حسبما أعلنت وكالة أنباء البحرين. وربما ارتاح بعض المتشددين مما هو متداول عن أن أقصى ما سيصيب السلطة من مصائب هو التضحية بعدد من أكباش الفداء من بين الجنود والضباط الصغار العسكريين والأمنيين.
من جهة ثانية يأمل الملكُ أن جزءاً مهماً من جمهور المعارضة أو المتعاطفين معها سيطالبها بالانتظار على الأقل لبضعة أشهر حتى ينتهي البروفيسور بسيوني من إعداد تقريره وحتى ينتهي الملك من دراسة توصياته. في خلال فترة الانتظار هذه يتوقع الملك أن يزداد ارتباك المعارضة وربما مالت بعض أطرافها إلى الانشقاق والبحث عن مخارج خاصة.
وهنا أشير إلى الدور الهام الذي تلعبه في هذا المجال التصريحات التي يطلقها البروفيسور وتلتقطها أجهزة الإعلام الرسمي. ولقد رأينا بعض هذه التصريحات المتعجلة أحياناً والمربكة تساهم في إضعاف مصداقية البروفيسور عند جمهور يريد بعضه أن يثق به ليشتكي إليه.
ففي أول يومٍ له في الوظيفة أعلن البروفيسور إنه يعرف أن لدى الملك رزمة "إصلاحات جديدة سيتم تنفيذها بناء على نتائج وتوصيات تقرير لجنة التحقيق. ربما قصد البروفيسور شيئاً آخر غير الذي يبدو ظاهراً لمن سمع تصريحه أو قرأه. فلا يمكن أن يكون المقصود إعلان أن الملك صار يعرف قبل أن تبدأ اللجنة أعمالها ما هي النتائج التي ستتوصل إليها فقام بإعداد رزمة الإصلاحات التي يحتاجها.
علاوة على تصريحاته المتعجلة أحياناً هناك تلك التصريحات التي يقصد بها مقاصد أخرى غير التي يفهمها الناس العاديون ممن لا طاقة لهم بقراءة هذا السفر الحقوقي أو ذاك. ومن بين هذه تصريحه حول التعذيب والذي بدلاً من التراجع عنه أحال منتقديه إلى عدد من المقالات والتقارير لتوضيح ما يقصد. بل هو يلوم منتقديه حتى ولو كانوا من الداعين للتعاون مع لجنته كما فعل في رده الغاضب على أخينا نبيل رجب. لسوء الحظ لا يبدو البروفيسور بسيوني في رده الغاضب مهتماً بمخاوف الناس ومحاولتهم تنبيهه إلى أن تلك التصريحات العامة والمحدودة التي يقوم بها هي بالضبط مادة مشروع العلاقات العامة الذي دشنه الملك وغايته.
أما النتائج السياسية المأمولة على الصعيد الدولي فتبدأ باستخدام تشكيل اللجنة لتأكيد أن البحرين هي "بلد القانون والمؤسسات التي تحرص دائما على كفالة حقوق الإنسان وكرامته والتزامها بكل القوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان" حسبما قال الملك.
تعرضت السلطات البحرينية منذ الرابع عشر من فبراير 2011 إلى التنديد بسبب إنتهاكاتها لحقوق الإنسان وعلى استخدامها المفرط للقوة ضد المتظاهرين منذ اليوم الأول لإندلاع الاحتجاجات مما أدى إلى سقوط الكثير من القتلى والجرحى. فلقد توافرت أدلة كثيرة لليقين بأن تلك الأعمال شكلت انتهاكاً خطيراً لمجموعة من الحقوق المضمنة في شرعة حقوق الإنسان العالمية بما فيها الحق في الحياة والحق في الأمن الشخصي علاوة على حرية التجمع وحرية التعبير. (2).
ولقد رأينا كيف تزايدت التقارير التي أصدرتها هيئات دولية معنية ومنظمات غير حكومية عالمية حول تدهور حال حقوق الإنسان في البحرين. علاوة على ذلك توالت المناشدات من جهات رسمية عدة بما فيه أصدقاء السلطة في البحرين كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي. وبدت الجهود السعودية لفرض إستثناء البحرين من الربيع العربي في طريقها للفشل. (3)
في هذا السياق نلاحظ الحاح مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في تعبيرها عن قلقها العميق تجاه إنتهاكات حقوق الإنسان في البحرين. ففي أحد بياناتها الصادرة قبل إعلان الملك عن اختيار البروفيسور بسيوني لرئاسة لجنته. أشارت السيدة بيلاي إلى "استمرار احتجاز المئات من الناشطين في البحرين ومحاكمة العشرات من أصحاب المهن الطبية، والحكم بالإعدام على أربعة متظاهرين بعد محاكمة عسكرية مغلقة". وورد في بيان المفوضة السامية "أن مئات من الأفراد لا يزالون رهن الاعتقال لمشاركتهم المزعومة في حركة الاحتجاج، بما في ذلك المعلمون والمحامون والصحفيون والمدونون، وأصحاب المهن الطبية والفنانون والناشطون وأعضاء الهيئات السياسية".(4)
ويلفت النظر في ذلك البيان أمران، أولهما إشارة المفوضة السامية لحقوق الإنسان إلى عدم حصولها على "أية تقارير عن الملاحقات القضائية ضد قوات الأمن على أفعالهم العنيفة ضد المتظاهرين". ولهذا حثت السيدة بيلاي الحكومة البحرينية على تسريع إجراء تحقيق مستقل ونزيه، وتقديم جميع أولئك الذين كانوا مسؤولين عن الاعتداء على المتظاهرين والقتل إلى العدالة. أما الأمر الثاني فهو مطالبتها الحكومة البحرينية بالسماح لبعثة تقييم الأوضاع بالمملكة والتابعة للمفوضية السامية لحقوق الإنسان بمزاولة أعمالها. ولقد كررت المفوضة السامية هذا الطلب حين التقت في جنيف بالوزيرة فاطمة البلوشي في الرابع من يونيو. وهو طلبٌ وافقت الحكومة البحرينية عليه من حيث المبدأ حسبما أعلن الناطق باسم المفوضية السامية في السابع من الشهر نفسه.
إلا أن إعلان تكليف البروفيسور بسيوني، رغم إنشغاله بالتحقيق الليبي، استدعى أن تؤجل المفوضة السامية إرسال لجنتها الدولية للتحقيق في الأوضاع البحرينية.
علينا الآن أن ننتبه للتواريخ ولتلاحق الأحداث مابين بيان الخامس من مايو الذي أعلنت المفوضة السامية لحقوق الإنسان فيه عن رغبتها في إرسال لجنة تابعة للأمم المتحدة لتقصي الحقائق في البحرين و 29 يونيو حين أعلن الملك عن تشكيل لجنته برئاسة البروفيسور بسيوني.
أسارع لطرح سؤاليْن افتراضييْن. ماذا لو قام القذافي بخطوة استباقية واستدعى لجنة دولية خاصة لتقصي الحقائق في بلاده بدلا من لجنة الأمم المتحدة؟ هل سيشعرأعضاء اللجنة القذافية "الافتراضية" بالإهانة حين يشكك بعض الليبيين في استقلاليتهم؟ ليس في هذيْن السؤاليْن مبالغة حين نأخذ بعين الاعتبار مشاعر من تعرضوا في البحريْن للقمع وانتهاكات حقوق الإنسان على أيدي قوات مسلحة وأجهزة أمنية وشاهدوا الملك يهنئ تلك القوات والأجهزة على ما قامت به ويرفع رواتبها ويمنح المبرزين فيها عطايا وأوسمة. لم يقم القذافي بهذه الخطوة الاستباقية. ولكن ملك البحرين فعل. لهذا لا أفهم لمَ لا يأخذ البروفيسور بسيوني على محمل الجد الأسئلة المتعلقة باستقلالية اللجنة التي أصرّ الإعلام الرسمي لفترة طويلة على تسميتها باللجنة الملكية؟
لا حاجة للبروفيسور بسيوني أن يدافع عن نفسه. فهو ليس في موضع الاتهام لا في نزاهته ولا في أخلاقياته المهنية. والأمر نفسه ينطبق على بقية من نعرف من زملائه ومساعديهم.
رغم اقتناعي بهذا فلابد من أكرر خشيتي من أن البروفيسور حين قبل أن يقوم بمهمته لم يكن يعرف تلك الخصوصيات البحرينية التي تجعل لجنته تقوم بدور متعدد الأغراض في خدمة الملك. دورٌ في مشروع علاقات عامة. ودورٌ لصالح إبقاء الوضع الراهن على حاله وإرباك حركة المعارضة بـأطيافها المختلفة. ودورٌ استباقي يخفف، إن لم يمنع، الضغط الدولي على السلطة البحرينية لوقف انتهاكاتها لحقوق الإنسان. فهذا ما يريده الملك من لجنة البروفيسور بسيوني. أما ما يراه البروفيسور نفسه من دورٍ للجنته فهذا أمرٌ آخر. ففي التناقض بين رؤيته وإرادة الملك تكمن ورطة البروفيسور بسيوني. أعانه الله وأعان بقية زملائه ومساعديهم على الخروج منها بما يتوافق مع ضمائرهم.
*أستاذ علم الاجتماع في جامعة لوند - السويد
- الحلقة السابقة
- هامش