زيارة لجنة بسيوني: عزيمة التوثيق ومشاهدات التوجس والشك

2011-08-23 - 4:49 م


بسيوني في زيارة للأطباء في سجنهم

مرآة البحرين (خاص): في أروقة الفيلا الفخمة التي يستقبل فيها أعضاء لجنة تقصي الحقائق أصحاب الشكاوى والمواجع، الموالون والمعارضون، الصادقون ومؤلفو الوجع الوطني تختلط عليك الأوراق جميعًا، لا شيء يبدو حقيقياً هناك، تتفحص الوجوه بفراسة تتمنى لو كنت تملكها؛ لتميّز الخبيث من الطيب، أو ربما لتعرف فقط إن كان من يجلس بجانبك معك أو ضدّك، الكل يتفحص الوجوه ويتساءل: هل هو معنا أم ضدنا؟! بعد أن تبنينا جميعنا سياسة بوش الابن أبّان حربه على الإرهاب في العالم، وأصبحت حياتنا لا تعدو خيارين أحلاهما مر معنا أم ضدنا؟ ولا يوجد بينهما مع الوطن أم ضدّ الوطن.

منذ العاشرة صباحاً - وربما قبل ذلك - ازدحمت القاعة الأرضية بالكثير من أصحاب الشكاوى، حضرت عائلات بأكملها، وأفراد، رجال، ونساء، وبعض الأطفال الذين حضروا مع عائلاتهم زُجوا بالسياسة دون قصدٍ منهم ودون رغبة، وجدوا بالمكان الخطأ وفي الساعة الخطأ، فكانوا ضحايا عنف السلطة.

وحين تلقي نظرة على موظفي اللجنة لا تجد أنّ العدد كافٍ لكل ما يدور في أروقة الوطن من انتهاكات جادّة لحقوق الإنسان أو قصص جوفاء ابتدعها الفرز الطائفي، معظمهم من الجنسيات الأجنبية ذوي الأصول العربية والناطقين بها، لكن يستوقفك أيضاً الموظفون البحرينيون الذي يردون على الهاتف، ويحدّدون المواعيد، ويستقبلون أصحاب الشكاوى، شبابٌ على امتداد العشرينيات من المذهبين لا تعرف كونك صاحب شكوى إنْ كانوا ينتمون لأي تجمع سياسي، أو تحيز مذهبي، ولا تعرف إنْ كانت اللجنة قد اختارتهم لثقةٍ بقدراتهم أم أجبرتهم الحكومة على الزّجّ بهم وسط اللجنة؛ لتكون للحكومة عين ٌ على كلّ شيء، ووسط كلّ شيء، وفوق كلّ شيء.

يسمعون ولا يقولون
غرف الفيلا حولت بين ليلةٍ وضحاها إلى مكاتب للمحققين الذين يسمعون كلّ شيء ولا يقولون شيئاً، تلمح من البعض منهم نظرات التعاطف والشفقة على ما آل إليه الحال، ولكن تسترجع تصريحات رئيسهم التي يقوم بتوزيعها بالمجّان على صحف السلطة أو المعارضة على السواء، ولا يمنعه رادع مهني من امتداح هذا أو ذاك ممّن يجد الشعب أنّهم مصدر كلّ مصائبهم قديمها وحديثها، وتتذكر دعوة القيادات الحقوقية و السياسية للتعاون والتوثيق. المكاتب التي يجري فيها تلقي الشكاوى يترك بعضها الأبواب مفتوحة، تتصاعد منها أصوات شاكية، وحين تركّز في السمع أكثر تجد أنّ المتحدثة من الموالين تصرخ تارةً، وأخرى تخفض صوتها، وتبدو منفعلة، ولكنّك تجهل أسباب ذلك، وتحاول حفر ذاكرتك لتعرف إنْ كنت قد سمعت بقصص لانتهاكات حقوق الإنسان من قبل المتظاهرين، ولكن لا تسعفك ذاكرتك على ذلك أبداً.

أثناء التحقيق يهمُّ المحقق جداً أنْ يحصل على أسماء وأفعال محددة قامت بها هذه الشخوص التي سرعان ما يدونها في ورقة خُصِّصت لهذا الغرض، وفي ثوان تكون الأسماء الجديدة قد ضمّت في القائمة إلى أسماء أخرى، بعضها يتكرّر عند كثير من أصحاب الشكاوى، ويصرّ المحقق على أنْ يعرف منك كونك صاحب شكوى من تظنّ أنّه يتحمل مسئولية ما حدث لك، ويبدو ورود اسم الملك في ذلك شيئاً من عدم التركيز والدقة في تحميل المسئولية، وربما كان اختيار اسم وزير الداخلية أو غيره من الوزراء أكثر واقعية وصدقًا بالنسبة إليهم.

التذمر والتململ
تمرّ الساعات بسرعة رغم أنّك في انتظار فقط، ويبدأ شيءٌ من التململ والشكوى من المتواجدين، بعد طول انتظار يتّضح عندها أنّ معظم المحققين غير متواجدين لاستلام مواعيدهم التي قام الموظفون الإداريون بتحويلها إلى محققين آخرين، وسرعان ما تتداخل الجداول بعضها ببعض؛ ممّا يحدث الفوضى وكثيرًا من الشكوى، أحد الموالين قام متذمراً، وتوجّه للموظف، وطلب المسؤول، وقال بلهجة متعالية "ناد على مسؤول أعلى، أعلى واحد هني"، ثمّ ما تلبث دقائق حتى يتم احتواء الأمر بتحويله على المحقق الذي انتهى للتو من موعده السّابق، ويظل السؤال ذاته يتراود: ما نوع الشكوى التي يود هؤلاء تقديمها؟ وكيف أصبحت لديهم انتهاكات حقيقية يملكون من أجلها جرأة المواجهة والطرح أمام لجنة تحقيق لا تعرف الأسماء ولا المناطق بل المنطق.

خرجت من هناك عند الثانية ظهراً، آخر نظرة على المكان كانت من نصيب عائلة تجلس في إحدى زوايا القاعة، كانت السيّدة تنظر إليّ بريبة، وعين تمتلئ شكاً، وكنت أناظرها بعين ملأى بالحيرة. خرجت من هناك، وهمست في أذن صديقي: هؤلاء موالون أليس كذلك؟ فقال أبداً، كان جليًّا أنّه يعرفهم، استطردت: كانت السيدة تنظر إليّ بنظرات مريبة، فقال: ربما ظنتك من الموالين!!

اكتشفت أنّنا في ذاك المكان ممتلئين بالشك والريبة من بعض، لا نعرف إنْ كنا مع أم ضدّ، لكن بالتأكيد لن نعرف أبداً أنّنا في كلّ هذا لسنا مع الوطن.


مخابرات أردنية
يوم ٌ آخر يأتي في ضيافة السيد بسيوني، لكن المشهد مختلف، البوابة التي كانت مفتوحة على مصراعيها يحرسها رجل أمن آسيوي يجلس مختبئاً من حرارة الشمس داخل غرفته الصغيرة، قد تحوّل بعد موجة الغضب التي عصفت بالمفصولين قبالة اللجنة إلى بوابة مغلقة ومسيّجة بشبك خارجي، وتم تنحية رجل الأمن الأسيوي ليحل محله عدد من رجال المخابرات من الجنسية الأردنية بملابس مدنية،  يوجّههم ضابط بحريني بملابس مدنية أيضاً، قرابة ثلاثة رجال من المخابرات بالإضافة إلى الضابط وعدد من حراس الأمن الآسيويين، وبوابة مغلقة أمام المراجعين لأكثر من نصف ساعة، بعض المتواجدين هم من المصابين بإصابات بليغة، رصاص، شوزن، كسور وجروح عميقة، بعضهم جاء يجرّ جسده فوق عكازين، والبعض جاء بعصابة للعين، كلّما أراد أن يذكِّر أحدًا به قال أنا من كان يرتدي عصابة كالقراصنة، ولا عزاء لكلّ هؤلاء غير بعض الأمل الذي يدفعهم للتشبث بالحياة.

 وسط ضجيج المكان أصوات نسيت الشكوى، وتخطّت وجع الجسد إلى وجع الكرامة، أصوات ٌ هامسة، وأخرى عابثة ربما لفرط ما عبث بها القدر وأحالها إلى مجرد جسد يئن ويكثر الشكوى. بهدوء تبادل المراجعون أطراف شكواهم، بثوا لبعضٍ مواجعهم كان بعضهم زميل زنزانة واحدة، وشريك عذابٍ واحد، البعض الآخر سمع ولم يعرف، وكان يدرك أنّ فلانًا هو الذي يعذب على مقربةٍ منه ولكنه بقي مجهولاً بالنّسبة إليه إلا من اسم.

العدد الذي فاق ثلاثين مصاباً حضروا جميعاً بتنسيقٍ مسبق من إحدى الجمعيات الحقوقية، بقي منتظراً بهدوء أن تفتح البوابة المغلقة بعناية وحذر، والذي بقيت غير بعيدٍ عنها سيارة للمخابرات تواجد بها شخصان ربما كانوا هناك من أجل رصد أرقام السيارات المترددة على لجنة تقصي الحقائق، لم يكن الأمر بحاجة إلى كثيرٍ من التفكير لتدرك أنّ المكان الآمن الذي أُعلِنَ عنه هو الآن مجرد ثكنة لرجال مخابرات الأمن الوطني.

في كراج الفيلا - وعلى مرأى من المراجعين - دون خجل تواجدت سيارتان زرقاوان للمخابرات البحرينية من نوع GMC، ولم يخجل ضابط المخابرات من التردُّد على المكاتب الداخلية للمبنى، وصولاً إلى الطّابق الأول، الأمر الذي يثير التساؤل والدهشة من إمكانية تعرّض الوثائق الموجودة لدى المحققين للنّسخ من قبل جهاز المخابرات، وقد يعقب ذلك معاقبة المترددين أو تعقّبهم.

بعد أكثر من نصف ساعة حضر محقق من اللجنة يبدو من لهجته أنّه مصري، تحدّث باستعلاء واضح، وسلّم ورقة بأسماء أصحاب المواعيد لهذا اليوم لرجل المخابرات؛ كي يستدعيهم، وفي ذلك انتهاك صارخ لخصوصية الضحايا، وحمايتهم من الأجهزة الأمنية، وهي النقطة الرئيسية التي ارتكز عليها عمل اللجنة، ورغم الحالة الصحية والإنسانية لأصحاب الشكاوى إلا أن المحقق أصرّ على إدخال عشرة منهم فقط، وترك الباقين وسط الظروف المناخية السيئة، دون مراعاة حالتهم الصحية التي قد تتأثر في هذه الظروف، كان الخوف واضحاً على ملامح المحقق، وأكّد ذلك إصراره على عدم إدخال جميع المصابين دفعةً واحدة، وربما كان يحاول تجنّب ما حدث مسبقاً في اعتصام المفصولين، وهو ما صرح به فيما بعد. رافق هذا التصرُّف الغريب من المحقق نظرات الريبة التي كانت واضحة على وجه ضابط المخابرات، وهو يتفحّص الوجوه بعنايةٍ بوليسيّة.


محقق لطيف
لم يكن المحقق الذي تواجد في بادئ الأمر يمتلك من المقومات الأخلاقية ما يعينه على معاملة الضحايا بما يتناسب مع ما تعرضوا له من قهر واضطهاد، خاصةً أن للضحية معاملة خاصة ليس من بينها التعامل بتعال، بعد أكثر من خمس ٍ وأربعين دقيقة حضر محقق آخر، كان لطيفاً جداً ومتعاطفاً، قام بفتح البوابة، وإبعاد رجال المخابرات من هناك، وأمر بإدخال جميع المتواجدين.

أمام البوابة التي يبدأ وينتهي عندها كلّ شيء استمرت سيارات الشرطة بالدوران حول المبنى، ولم تبارح المكان على مدار ساعتين من الزّمن، كما شوهد ضابط من وزارة الداخليّة يتحدّث مع أحد أفراد المخابرات أمام مقرّ اللّجنة، وقد كان الأخير يتلقى تعليماته منه لأكثر من سبع دقائق.

اللجنة الأمميّة التي صلّى الشّعب كثيراً من أجل حضورها، تأخرت مع إعلان اللجنة الملكية لتقصي الحقائق؛ فهل تحجب الصلوات أغشية  المرسوم الملكي؟ وما زال يثير حفيظة الكثير جدوى التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في البحرين دون امتلاك القدرة على إلزام الدولة بتنفيذ ما قد يسفر عنه من نتائج، ومدى جدية هذه اللجنة وتعاون الوزارات ومؤسسات الدولة المعنية معها. ولكنه التوثيق، مقاومة مدنية.



  • وصلات مكن الاستفادة منها:


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus