تقرير المصير (7): شوكة الدير

2011-08-27 - 8:49 ص

 
مرآة البحرين (خاص):
الدير، بيت يتعبد فيه الرهبان، وعادة ما يكون الدير في الأماكن المنقطعة عن الناس كالصحاري والبراري وغيرها. أما البارحة، فقد كانت الدير بيتاً ل 14فبراير، بيتاً ينشد فيه الثوار ترانيم الحرية، لم تكن منقطعة عن الناس كما فرضت عليها الجغرافيا والتاريخ، كانت قريبة من قرى البحرين المشتعلة، متصلة بها اتصال الراهب بديره. تقاسموا معها حصتها من القمع، كما تقاسمت معهم حصتها من ضيافة تقرير المصير.
 
 
"مهما فعلتم ضدنا.. حق المصير حقنا" شعار رفع في "ساحة الصمود" التي اختير لها أن تكون في قرية الدير، هذه المرة. إنها النسخة (7) من تقرير المصير. استعد أهالي قرية الدير صغاراً وكباراً، شيبا وشبابا رجالا ونساء، لليلة تقرير المصير (7) التي بادر بطرحها شباب القرية كفكرة على شباب 14فبراير، فجاءهم الجواب سريعا بالموافقة. ‭ ‬يسبقهم‭ ‬تاريخهم‭ ‬الاحتجاجي‭ ‬العنيد،‭ ‬وهوستهم (واويلاه) (1) التي‭ ‬صارت‭ ‬علامة‭ ‬من‭ ‬علامتهم،‭ ‬وإضافة‭ ‬من‭ ‬إضافاتهم‭ ‬الشعبية‭.‬

هذه القرية الواقعة في ظهر جزيرة المحرق، تحتل موقعا استراتيجيا، لقرب مطار البحرين الدولي منها وهو يمثل منفذا رئيسيا للحركة العسكرية للقاعدة الأمريكية، ولأنها تقع على خط يشمل بعض القرى الموالية، وفي قلب مدينة عرفت بالولاء المطلق للنظام.

لموقعها الحساس، مثّلت هذه القرية شوكة يغص بها الأمن في أي أزمة سياسية تعصف بالبلاد، يكفي أنها تفقد أبناءها كشهداء نظير موقفها الصامد من أي ثورة تطالب بالإصلاح، فلا أحد ينساها في أزمة التسعينيات، ولا أحد يمكن أن يغض الطرف عنها في الأزمة الحالية، وهي الأكثر نشاطا في تحركاتها وسط هذه الجزيرة ذات الخصوصية.

لم تكن هذه المقدمات وحدها كافية لتكون ليلة تقرير المصير البارحة ليلة استثنائية في الدير، فالجغرافيا وحدها لا تعطي الاستثناء، لكن أهل الجغرافيا هم من يصنعون الفرق. وقد صنعه البارحة الديريون أو "الديراويون" كما جرت عادتهم في تدليل نسبتهم لقريتهم. ليلة البارحة، كانت استثنائية في كل شيء، وحازت على دهشة الجميع من حيث التنظيم المتقن وتوفير اللوجستيات الشاملة، لم يفقه تنظيم مشابه من قبل، هذا ما قاله ضيوف القرية.

 
استعد الشباب قبل أسبوع وأكثر لهذا الحدث، بادروا بجمع كل أنواع التبرعات من الأهالي سواء كانت مالية أو عينية كالأدوات الطبية وغيرها، والأهم من كل ذلك، كان تطوع كادر طبي متكامل مكون من أطباء وممرضين ومسعفين. بل وتبرع بعض الديرين بتوفير أماكن مجهزة بالكامل لتكون بمثابة مستشفى لأي مصاب من الشباب. استعد الكادر الطبي منذ لحظة الإفطار لاستقبال أي نوع من الإصابات، بالذات تلك التي تستدعي دخول المريض إلى طوارئ السلمانية، ليحكم عليه بالإعدام أو المؤبد.

 
يعد هذا الانجاز عظيما إذا ما عرفنا أن عدد المتطوعين من الكادر الطبي بلغ 20 كادرا، مع توفير أماكن مشابهة لغرف المستشفيات، وإن كانت بصورة لا ترقى لطوارئ مستشفى السلمانية المختطف من قبل العسكر ووزيرة الكذب غير الإنساني (فاطمة البلوشي)(2)، وقد شملت التجهيزات على جميع الأدوات الطبية اللازمة التي لا تتوافر عادة إلا في مستشفى أو مركز طبي.

كما تفننت الدير في الأفكار المبتكرة لصنع الكمائن التي استطاع بها الشباب حصر الجبهة التي يتم خلالها مواجهتهم مع قوات الأمن، وقد فرضوا بهذه التكتيكات تراجع قوات الأمن في أماكن عدة وساعدتهم على ذلك الأزقة الضيقة التي طالما اشتكى منها الأهالي،  وباتت اليوم لهم  مكاناً آمناً للكر والفر.

الملفت هو خروج النساء كباراً وصغارا شابات وسيدات إلى الشارع، يحملن معهن كل ما يمكنهن أن يقرعن به النغمة التي تستفز الدرك والتي تسمى في العرف الثوري البحريني بنغمة (تن تن تتن) أو (T10 10 10) . كن يضربن على الأواني المعدنية، فتعلو النغمة حماساً في نفوس الشباب وغضبا في بنادق الشغب. على الرغم من كثافة الطلق، إلا أن الديريات لم يتركن الساحة وبقين صامدات بإيقاعهن.

لم تكن الأجواء احتفالية طبعا على الرغم من إدارتها الاحتفائية، لقد فرض طوق أمني صارم منذ صباح الجمعة على القرية، لمنع دخول أي غريب إليها، ولكن ما لم يخطر في حسبان الأمن أن هناك من الثوار الشباب من القرى الأخرى من تسلل إلى القرية قبلها بليلة وبعضهم قبلها بليلتين والآخر قبلها بثلاث، كانوا يتقاسمون مع أشقائهم الديريين اللقمة والفراش وشغف الانتظار.

 
فتح الأهالي بيوتهم وقلوبهم للثوار كلهم، وشاركوا بكل جهدهم وطاقتهم لإنجاح مصير هذه الليلة، لم يُُرى الأهالي هكذا من قبل، كان هناك في أزمة التسعينيات من يتذمر لقسوة الألم فيلوم الشباب كثيراً ويحملهم مسؤلية الفوضى. هذه المرة لم توفر السلطة أحداً من عقابها الجماعي، فلم يوفرها أحد من الاحتجاج الجماعي.
تفننت سيدات القرية في أطباق الضيافة، فطوراً وسحوراً، وسجلن بذلك سبقاً آخر في الضيافة والكرم،   والتغطيات الإعلامية التي نقلت الإصابات والمواجهات ولحظات الاحتدام الخطيرة، لم تنس أن تنقل  الموائد العامرة والأطباق المنوعة.

سجل الشباب عدد من حالات الإرهاق والإنهاك الجسدي لرجال الأمن، منهم من أصابته حالة من الإغماء بسبب مسيلات الدموع السامة، لكثافتها، وقد كانت تشاهد كسحابة من الدخان، ترتد أحياناً عليهم فيختنقوا بها. كما شوهدت إصابات إثر انزلاق بعض رجال الأمن بسبب الزيت والديزل المسكوب على أرضية أجزاء من الشوارع التي امتلأت بعبوات مسيلات الدموع وبقايا القنابل الصوتية.

لم تسلم بعض البيوت من التكسير المتعمد، كما لم يكن حال السيارات أفضل من بيوت أصحابها. مع ذلك يشعر الديريون بنجاح ليلتهم المصيرية، وسيظلون يحكون عنها، وسيروي الشباب بطولاتهم لأبناء عصر الديمقراطية القادمة حتماً.

  1. هوسة : أهزوجة شعبية. مقطع يوتيوب
     
  2. عن الوزيرة فاطمة البلوشي،  قالت (مرآة البحرين):
     

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus