مرآة البحرين في بيت عبد الرحمن النعيمي: أبو أمل.. غرفة المرض، غرفة العزاء

2011-09-02 - 11:24 ص




"اكتبوا، فكل شيء منكم، يعزيني بأبي، فأنتم أصدقاء محنتي"
أمل النعيمي

اليوم 1 سبتمبر، الغرفة ذاتها التي احتضنت سرير مرضه طوال 4 أعوام، وكانت ملاذاً آمناً لجسده المنهك، وملاذاً آمنا لمريم رفيقة دربه، التي كلما استجد في الوطن خبر، حملته إليه، وراحت تحكي له عن أيام لم يعشها، وأيام ما كان يظن أحد أن نعشها، تقول له: قم يا (أبو أمل)، فدونك وطن جريح ينتظرك، تنقل له تفاصيل ما يحدث، وتفاصيل ما لا يقال، وكأنها تريده حين يعود من غيابه الطويل، أن لا يكون قد فاته من الحدث شيئاً، ألا يكون بحاجة لأن يسأل ما الذي استجد في غيابي، أن يقوم ليكمل مباشرة ما لم يفته. لكنه اليوم قرر ألا يقوم، لماذا اتخذ هذا القرار في هذا الوقت المثقل بأوجاع الوطن، ترى، هل غلبه يأس ما صار الوطن إليه؟

الغرفة المكونة من سرير مرض، وكرسي متحرك، وجهاز تغذية، وخزانة للأدوية، خلت اليوم ممن كان يملأها بأنفاسه المقاومة للموت، وبتنهداته التي تعلن لمريم والجميع أنني ما زلت هنا، أسمع وأرى، وإن كنت غير قادر على الكلام. الغرفة اليوم أخليت من سرير المرض، ومن الكرسي المتحرك، ومن جهاز التغذية، لتتحول إلى مكان لعزاء السيدات، فيما تركت الصالة التي يفصل بينهما باب جرار كبير، لعزاء الرجال، قبل أن ينتقل العزاء في المسجد غداً.

حين دخلت واحتضنت ابنتيه عائشة وسلوى، أشارت سلوى إلى هذه الغرفة للدخول، ترددت أن أدخل هناك، فطالما كنت أتردد الدخول إليها وهو فيها، والدخول إليها خالية منه أصعب، لست ممن يجيدون الكلام عند رأسه، بل الصمت. لا أتمكن من فعل شيء غير وضع يدي فوق يديه والشد عليهما بتأن، أطالع في عينيه اللتين غالباً ما تكونان مستيقظتين، وأبث عبرهما ما لا يسعفني عليه لساني من البوح. في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها هناك، كانت عيناي تخاطبه بحزن عميق: نعيش الآن ربيع الشعوب العربية وخريف الحكومات المستبدة يا أبو (أمل)، لكننا هنا ندفع الثمن غالياً غالياً جداً، لم نعش إذلالاً أعنف مما نعيشه اليوم، كم نحن بحاجة إليك في هذا المفترق الذي أصر أعداء الحرية على تحويله تطهيراً طائفياً. لكن كيف ستكون لو لم تكن هنا؟ ستكون المتهم رقم 22 في قضية ما يعرف بتهمة الانقلاب، لا أعرف ما إذا مرّ على تاريخك إذلال يشبه الإذلال الذي يعيشه الشعب على يد حكومته اليوم.

 
بورتريه النعيمي: ترسمه حفيدته
في المرة الأخيرة لزيارتي أيضاً، تفاجأت باللوحة الكبيرة التي وضعت في صدر صالة البيت، تحوي صوراً لأبو أمل في مراحل عمرية مختلفة، هدية من شباب وعد في زيارة جماعية، لفتني أنها قد اختفت، واستبدلت بلوحة أخرى عادية، سألت أم أمل متعجبة: أين لوحة أبو أمل؟ قالت: سقطت وتهشمت بدون سبب وبشكل مفاجئ. تأثرت كثيراً فقد كانت قطعة من تواريخ نضالية. اليوم تذكرت هذا هناك، سألت نفسي: هل كان غيابها عن صدر البيت، إشارة إلى غيابة عن صدر الوطن؟

كنت مترددة في دخول تلك الغرفة، لكن لم يكن ثمة خيار آخر، دخلت، احتضنت أم أمل، بكينا، نعيت أنفسنا والوطن، قالت بصوتها المتهدج: قرر أن يغادر، قرر أن يرتاح، لقد تعب كثيراً.

كانت الغرفة قد تحولت إلى صفوف من الكراسي للمعزيات، جلست وانقباضتها تأخذني، تلفت جهة مكان السرير، كان فارغاً، الغرفة فارغة من كل شيء، لكن نفسه لا يزال حاضراً فيها، ثمة شيء آخر لم يتم إزالته، خزانة الأودية الزجاجية الواجهة، برفوفها المصفوف عليها بعض الأدوات والمعقمات والأدوية.

في بيت  أبو أمل، سيبقى يلازمك شعور فخرك أنك جالس في وطن الجميع، هذا الوطن المفتقد، الوطن الذي نحلم به دون أن نعشه، هذا البيت لا يشبه وطننا الكبير، لا يشبه وطن القبيلة والطائفة. الفتنة الساذجة الجاهلة، تندحر عند عتبة باب هذا البيت. في هذا الوطن الصغير لا تميز بين سني يدخل ولا شيعي يخرج، بين متدين يجلس وليبرالي يقوم، ستدخل المرأة المنقبة والمحجبة والسافرة كلهن بالحفاوة ذاتها، وستشعر كل واحدة من هؤلاء أنها تدخل مكانها، بيتها، وأن لها في خصوصية هذا البيت ما للأخريات من المكان والمكانة. لا أحد يشعر بالغربة أو الغرابة. لا أحد يشعر بأنه مختلف لأن الاختلاف هو ميزة المكان، وحين يكون الاختلاف ميزة المكان يصير اللون الواحد هو الشذوذ. هناك تلمس كم جميل أن يعيش الجميع حلم الوطن أولاً، لا الطائفة ولا المصلحة ولا القبيلة..


مريم الجالسة بهدوئها الوقور في طرف الغرفة، تبكي بلا صوت تارة، وبصوت خفيت تارة أخرى  "لم أكن أرغب أن يبات جسد عبد الرحمن في ثلاجة الموتى، كنت أريد جسده أن يدفن طرياً، لكن الرفاق ارتأوا التأخير للغد، وأمل التي لن تصل قبل مساء اليوم، سيكون صعباً عليها ألا تدرك جثمان أبيها " قالت مريم بصوت أجش، ثم تمتمت "أحاتي وصول أمل، فتعلقها بأبيها يتعبها جداً".

جلسنا ننتظر أمل طويلاً، أمل القادمة من الشارقة عبر طريق البر، لم تنجح في الحصول على حجز عن طريق الطيران، تأتي ضمن قافلة حزن في الطريق.الطريق الوعرة مدرسة النعيمي التي وجدت أمل نفسها فيها منذ وعت درس طريق ظفار الوعرة. كنت ومجموعة من الأصدقاء نسلي طريقها الطويل عبر رسائل الواتس آب، نصف لها صمود مريم وقوتها لنجعلها تستمد من قوة مريم صمودها، كتبت لها صديقة:" بها من القوة والعزم ما يهزم حزننا ودموعنا، نشعر أمامها أننا صغارا، نريد فقط أن نسقط في حضنها وأن نبكي على صدرها، هي مريم القلب ومرهمه، هي قلب يفيض بالجمال والقوة". كانت تتحرق لتطوي المسافة المزدحمة في أيام العيد، فالطريق إلى الحزن حزن آخر. كتب لها صديق "لم تكن الغربة قاسية علي كاليوم، يا أمل، لن أعزيك فأنا مَن يعزيني؟".

أخيراً دخلت أمل، تجر قدميها اللتين لم تكونا قادرتين على حملها، تناوشتها النسوة عند الباب، احتضنها، ووقفت مريم في وقارها المهيب تنتظر دخول ابنتها، دخلت الأمل، وصلت إلى أمها، تعانقتا طويلاً، وبكتا، وصارت الدموع لغة المكان..

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus