شوكة الأطباء: خارج السجن، لكنها مازلت داخل حلق السلطة

2011-09-08 - 9:12 ص


مرآة البحرين (خاص):
هكذا فجأة، أتى الفرح الذي غاب عن الناس، حتى ظنوا أنهم قد نسوه، أو أنه سيبقى مؤجلاً كثيراً جداً. لم يمر العيد من هنا، بل مرّ قربان العيد الفتى على جواد، ومر إضراب الأطباء الذي تبعه إضراب أطفالهم تضامناً مع آبائهم، ومر انهيار صحتهم وسقوطهم واحداً وراء الآخر، مرت الدموع في يوم العيد، لكن لم يمر الفرح في العيد.

اليوم فقط خرج الفرح دفعة كبيرة، وبزخم ثقيل، بثقل ما تواجه هذه الدفعة من اتهامات خطيرة، وبثقل ما تعرضت له من انتهاكات، وبثقل ما عانت من شهور توقيف طويلة، وبقدر ما عاشت من ضغوطات نفسية وعصبية وجسدية مروعة، كان الفرح كبيراً بهذا القدر من الثقل الذي حمله هؤلاء فوق ظهورهم، وكان الفرح كبيراً بقدر انتظار الناس لهذا اليوم، وترقبهم له، وعلمهم من أجله، وتحركاتهم وما نظموا من حملات ضغط داخلي وخارجي من أجل الإفراج عن أياديهم البيضاء التي لم ترحمها السجون. اليوم عيد.

إنه عيد خروج الشوكة. شوكة الأطباء؛ السمكة التي أرادت السلطة أن تبلع بها حقيقة ضحاياها، فابتلعتها سريعاً في قضمة واحدة، ونست أن الشوكة أخطر ما في السمكة. اليوم خرجت الشوكة، لكن ليس من حلق السلطة، بل من سجن السلطة، خرجت لترتدي بياضها، تعانق الحرية، وإن كانت حرية مقيدة حتى الآن. لم يلبث الخبر أن صار زغاريد في شبكات التواصل الاجتماعي. ودعوات لاستقبال غير مسبوق للشرفاء الخارجين، كل عند باب بيته.

 
الأهالي بانتظار الأطباء المعتقلين
خارج سجن الحوض الجاف، وقفت عوائل الأطباء تهنئ بعضها بعضاً، يحتضن كل منهم الآخر بدموع فرح كأنهم لا يصدقونه، قالت زوجة أحد الأطباء لزوجة طبيب آخر بعد أن احتضنتا: اصفعيني على وجهى لأتأكد أنني لا أحلم. قبلتها الأخيرة وبللتها بدموعها، كانت كافية لتقول لها صدقي دموع الفرح.

سمح لعوائل الأطباء فقط بالدخول بداية، وبقى في الخارج عشرات ممن حضروا ليشهدوا هذا الخروج الجماعي للبياض المشرّف، وليشهدوا أول نفس حرية لهم. كان في الخارج عدد من الأطباء والطبيبات الذين جاءوا يستقبلون زملاء بياضهم، بعضهم زاملوهم مرتين، مرة في العمل، وأخرى في المعتقل، صارت الزمالة ملحمة تُحكى، لا وظيفة تجمع.

عائلة المناضل الراحل عبد الرحمن النعيمي أيضاً، حرصت أن تكون حاضرة في هذا الاحتفاء، أتت عند سجن الحوض الجاف لتقول للأطباء أن عبد الرحمن النعيمي إن منعه عنكم جسده بسبب الموت، فإن روحه أتت لتقول لكم إنه حاضر عند بياضكم، وأنه من حيث بياضه هناك، يشد على يد بياضكم هنا. حرصت أمل عبد الرحمن النعيمي أن توصل هذا للأطباء المفرج عنهم، واحداً واحداً.

بوابة سجن الحوض الجاف ما تزال مغلقة، عند حوالي الثامنة، خرج من البوابة الجانبية رجل في زي مدني، سمح للجميع بالدخول، تراكضنا غير مصدقين، دخلنا جميعاً، وقفنا ننتظر، ما يزال الجميع يحتضن الجميع في الداخل في الفناء الخارجي للمبنى، ما تزال القلوب ترتجف فرحاً، تبحث عن الجهة التي سيخرجون منها.


د. باسم ضيف يحتضن أطفاله
 
أخيراً، يصرخ أحدهم: باسم ضيف! يلتفت الجميع، يركضون لتلقف باسم، يتبعه مباشرة أخوه غسان، النساء زغاريد صاخبة، الرجال أحضان كثيرة، يمشى كل منهما في حضن زوجته وأبنائه المبللين بالدموع والفرح، وفي دهشة الحفاوة والناس. أحدهم يصرخ: أين الزغاريد يا نساء؟ ترتفع أصوات النساء أكثر، يضج بها المكان، الدموع، الأحضان الساخنة، الهتافات: شكراً لكم.. شكراً لكم، الكاميرات التي تلتقط ما تقدر عليه في وسط هذا الزحام، يتوجهون إلى البوابة من أجل تنظيم الخروج، يلاحقهم الناس حتى البوابة. عند طرف قريب من البوابة، توقفهما أمل عبد الرحمن النعيمي، تعرِّف نفسها، وقبل أن تقول رسالة عائلتها، يبادرها غسان بالتعزية، يقول لها سنكون عند حسن ظن والدك الكبير، سنسير على طريقه، ولن نحيد عن هذا الطريق. يكمل كل من غسان وباسم طريقهما نحو البوابة في لمة عوائلهما، يقابلان جهة الفضاء.

 
د. العكري على باب سجنه
يصرخ آخر: دكتور علي العكري! تعود الجموع من عند البوابة ناحية الداخل مرة أخرى، لتزف بطلها الثالث، الزغاريد الصاخبة ذاتها، الهتافات ذاتها، الأحضان الساخنة، تصير الأحضان أشد سخونة والتهاباً حين يرى على العكري أحد زملائه من رفقاء السجن الذين سبقوه بالخروج، يصير الحضن بكاء يهتز، كأن كل واحد منهما يريد أن يتأكد أن كل ما في الآخر معافى، وأنه بكل قوته وصموده. النسوة تشق لنفسها مكاناً بين الرجال لتهنئ العكري بنفسها، واحدة واحدة، قبل أن ينسحب للبوابة تدريجياً، وليعانق بدوره الهواء.


المفرج عنهم رولا الصفار ود.ندى ضيف ود.نبيل تمام
يستقبلون ابراهيم الدمستاني

 
يتبعهم بالخروج كل من الدكتور محمود أصغر وحسن التوبلاني وإبراهيم الدمستاني، تستقبلهم الزغاريد والورود والعناقات والأحضان والهتافات ذاتها. أنتم فخرنا وفوق رؤوسنا: تقول لهم النسوة. يتواضعون أكثر كلما زاد الناس في الاحتفاء بهم أكثر. الفرحة تعانق وجوههم بانتعاشة الحياة، وكأنهم لم يكونوا يعانقون الموت قبلها بساعات، أجسادهم التي أنهكها الإضراب عن الطعام والدواء، وجعلها نحيفة بالهم والصبر، استعادت قوتها مرة واحدة الآن، دفعة واحدة، إنها قوة الفرح، قوة العودة، فاليوم عيد البياض.






التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus