» رأي
تنويعات على مقام البلاهة
علي داوود - 2011-10-05 - 2:19 م
علي داوود
لن يمر يوم دون أن تقرأ في الصحف الرسمية في البحرين تحليلاً أو تقريراً أو مقالاً يمطر الناس بالإهانات، والإهانة هنا ليس مصدرها الشتائم والسباب، وإن كان في حبر هذا الصحف ما يغرق بلداً بأكمله منها، لكن مصدره الاستخفاف بعقول الناس، والتشكيك في قدرتهم على الفهم والاستيعاب، فالكذب المكشوف وتزييف الحقائق تبدو علامة تجارية ينافح البعض على احتكارها والاستزادة منها، إلى الحد الذي سيتجرأون فيه على حواس الناس وهم يفترضون رؤية أشياء لا يراها سواهم، ويدعون غياب أشياء كانت أظهر من الشمس في رابعة النهار.
نفهم أن الكراهية في هذه الخصومة السياسية تكفي لتروية آلاف الهكتارات من مزارع الكذب والنميمة، لكن ليس إلى مستوى افتراض تلاشي الذوق السليم في هذا العالم، كمحاولة البرهنة على أن المحتجين كائنات تحلم بالتوابيت، وتعيش اللذة في انصرافها الدائم إلى لحظة مازوشية تمارس فيها تعذيب الذات، لتصبح كل حالة عقاب جماعية مرت بهذه الجموع ليس أكثر من رغبة مؤجلة عند هؤلاء للشعور بالظلم والإهانة والاكتواء بالألم..يصح أن تقرأ تحليلاً كهذا لأسماء شاردة في النت، مجهولة العلاقة بالعلم والمعرفة، فهي تمرر المكبوت من غرائز الكراهية البهيمية التي يلجمها الفضاء العام، فلا تجد مصرفاً ميسوراً ومأموناً إلا في فضاءات النت، فضاء تنكشف فيه كل العقد التي ملّ فرويد وتابعوه بإحسان من توصيفها، وتسرح فيه بلا حساب ولا عقاب.
نفهم أيضاً أن يكون للناس هواجس متباينة، فرضتها ظروف المرحلة وأحداثها، نفهم جيداً ما يتولد من قلق عند رجل بسيط لا يعرف إلا صواعق الإعلام الرسمي سبيلاً للوصول إلى المعلومة، ومثله الذي تعلم أن يشبك أصابعه ويتوارى عن الأنظار حين يسمع باضطرابات سياسية، كل هذا يمكن التعاطي معه وفهم دوافعه وأسبابه، لكن الذي نعجز عن فهمه هو هذا التنافس في فريق من كتاب الموالاة على التذاكي باستغباء الناس، والتدليس، والتكتم على خطايا النظام، والاستخفاف حتى بقدرة الناس على الجمع والطرح!!..نفهم أن يتباكى المأزومون أخلاقياً على قطع وردة من شارع بالمنامة أثناء الأحداث والتغاضي عن كل قطرة دم بريئة سالت في تلك الشوارع، لكن لا نفهم أن يصمت الكتبة الحافظون في بلاط السلطان عن كل صور التنكيل والعقاب الجماعي التي طالت الناس في جولات الغاز المسيل للدموع المستمرة، بينما تنتفض فيهم الحواس فقط لحساب عدد البكسلات في صورة النسوة اللواتي شوهدن في منظر مهين على أرض المواقف في مجمع سيتي سنتر، والتباري في أمر التشكيك في صدقية الصورة.
لن نفهم حتماً حصافة الكاتب الذي يعالج هواجسه الميتة كل صباح، وهو يذكرنا بين حين وآخر بأن الوفاق وأخواتها تذهب إلى الشارع بحثاً عن شهيد تبتز به السلطة، وأن الخارجين عن أمر السلطان سيورطون الشرطة المساكين بدمائهم، هؤلاء المساكين الذين قدرهم أن يجدوا أناساً يستحقون القتل في طريقهم!!، وكان آخر اجتهاداته محاولته الغمز بأن مشهد ركل الشاب والتعدي على النسوة في المقطع الفيديو الذي تسيد الأخبار في الإعلام الفضائي ليس أكثر من مشهد استعادي لمخيال شيعي يحاول تمثل صورة كربلاء بخزينها التنكبي الذي تتحول فيه النسوة إلى حرائر تدافع عن جسد الشهيد!، ويسعى في هذا التحليل إلى صرف النظر عن الظلم والحيف البين في المشهد باتجاه ما يراه اسثتماراً لذاكرة الناس وهو يحاول جاهداً أن يساوي بين توظيف الناس لمفرداتهم الثقافية وبين تهمة الطائفية التي تعرض يومياً في مقالاته بأرخص الأثمان، في حين يظل العقاب الجماعي على الهوية الذي تمارسه الدولة أمراً لا يستحق أن يذكر بالنسبة له.
هذا النمط من البلاهة هو ما يسبغ كتابات الكثيرين من المحسوبين على السلطة، من أولئك الذين انتقلوا من التحليل الرياضي إلى كتابة البحوث الانثروبولوجية، ومن الكتابة المسرحية إلى التنظير السياسي، ومن صناعة الشعر الشعبي إلى نقد التفكير الديني، ومن شعارات اليسار ومناصرة العمال إلى تلميع الجوخ، وسواهم ممن يحضرون لنيل شهادات دكتورة فخرية في تبليط البحر، وتسقيف السماء، فلا شيء يتعذر اليوم على جوقة الإعلام الرسمي، طالما اختاروا خوض ما يحسبونه معركة شرف من أجل حراسة نظام آيل للسقوط.
والحاصل أننا لم نجد البلاهة تكتيكاً سياسياً إلا في البحرين، فكل الملفات المفتوحة ضد المعارضة، ابتداءً بملف الأطباء وانتهاءً بمحاكمة الأطفال بتهم التجمهر، تذكرنا بأن قدر الناس في هذا البلد الذي يفاخر أبناءه بارتفاع معدل المتعلمين فيه أن يواجه خصماً لا يعرف مواجهة العجز الذي هو فيه إلا بصناعة الكثير من التأويلات والتفاسير وحتى الأساطير التي تنم عن حماقة مستحكمة، حماقة تحسب أن الخلاص من هذا التعب النفسي الذي ينال السلطة في مواجهة إرادة الناس هو بخلق جدار عازل من البلاهة، لتكون الجواب المفقود عن سؤال أحد المتحدثين في مؤتمر هيئة شئون الإعلام الأخير حول أحداث مستشفى السلمانية، حين قال إنه لا يعرف السبب الذي يجعل وكالات الأنباء تعتمد في تقاريرها أقوالاً مخالفة لتصريحاتنا!.