اللطمية البحرانية: قراءة في قصيدة التسعينات

2014-10-31 - 10:40 م

مرآة البحرين (خاص): 

البحرين- حبيب حيدر
تحتفظ القصيدة الحسينية في مسيرتها الطويلة ومداراتها المختلفة بالكثير من الظواهر التي تمنحها الثراء، وتغري بالبحث فيها والكشف عما تحتفظ به من قوة في الحضور، وقدرة على التواصل مع جمهورها في قضاياهم المختلفة سواء الدينية أو الاجتماعية أو السياسية، فهي تتمثلهم ثقافياً، وتعبِر عنهم، وهم يتمثلونها في معيشهم اليومي، كونها السلوى التي يشحنون بها أمالهم وأحلامهم، يتمثلونها من خلال تقديمها للشخصيات العقيدية التي تتحدث عنها وترثيها، وتتمثل قيمها المختلفة التي آمنت بها وعاشتها وضحت من أجلها.

وفي هذه الأسطر أشرع في قراءة واستعراض، صفحة من ذاكرة القصيدة الحسينية، عبر قراءة في قصيدة التسعينات ذات الغرض الواحد، في مواكب السنابس في البحرين، والتي تتطرق في كل مناسبة لقضية محددة يختارها الشاعر ذاتياً أو بعد الاستشارة، أو بما افترض عليه الواقع من متابعة وتوجّه نحو تصحيح وضع أو توجيه لوجود ظاهرة ملحة تفرض نفسها على المجال العام الذي بدأ تلك الأيام يتطلع نحو نور حرية متوقعة لولا الظلمة التي ملأت الأجواء في وسط ونهاية التسعينات.

ولعل من أهم ما تحتفظ به القصيدة الحسينية هي الذاكرة التي حفظت للناس الكثير من المناسبات التي تطرّقت لها في موضوعاتها وتعالقت خلالها مع الواقع والقضايا المختلفة للناس، وذلك من خلال ما كتبه وبثه الشعراء من إشارات في قصائدهم إلى الكثير من الأحداث والموضوعات المختلفة التي تفاعل معها جمهور المتلقين من معزين ومتابعين للقصيدة الحسينية.

ويتذكر متابعو القصيدة الحسينية وجمهورها في مواكب منطقة السنابس في البحرين مع نهاية نهاية عقد الثمانينات وبداية التسعينات أنه ظهر توجه في القصيدة الحسينية إلى كتابة الموضوع الواحد، فما سر ذلك؟ وكيف تم التوجه لكتابة القصيدة بهذه الطريقة؟، ومن هم كتابها؟، وما أهم موضوعاتها؟، ومن هم أهم مقدمي هذه القصيدة؟، وكيف اختفت مثل هذه القصيدة؟، وظهرت قصيدة الموضوعات المتعددة شبه المكتملة الآن.

تتفرع القصيدة الحسينية في غرضها أساساً من قصيدة الرثاء، والتي تعرف بأنها عبارة عن قصيدة مدح وتعديد مآثر المرثي، وبطبيعة بنية القصيدة على المستوى المضموني حتى لو كانت في الرثاء فإنها كانت تحتوي إضافة إلى غرض الرثاء أغراضاً أخرى مختلفة، كما هي القصيدة العربية القديمة ذات الأغراض المتعددة والمتأولة ببنية عضوية واحدة، ولذلك سارت القصيدة الحسينية من المستوى الرثائي إلى مستوى التعدد في الغرض والموضوعات التي تتطرق لها، رغم الوحدة في الهدف.

وفي مسيرة القصيدة الحسينية في التحول من غرض الرثاء البحت إلى أغراض متعددة، مرت هذه القصيدة أولاً بموضوع الغرض الأساسي الذي انطلقت منه وهو غرض الرثاء الذي يتخذ من المناسبة الدينية فرصة للكلام حول أجواء الوفاة، وفرصة لإحياء مآثر المرثي، وأهم القيم التي تمثّلها في أقواله وأفعاله وحياته بشكل عام، ثم انطلقت القصيدة أيضاً لبثه مشاعر الفراق والشوق والحنين، والشكوى لما آلت إليه أوضاع ذويه ومحبيه من ظلم وحيف من بعده من حكومات الزمان المتعددة القريبة من زمنه أو حتى البعيدة عنه، وظلت القصيدة على هذا المنوال لا تراوحه وإن كانت فيها إشارات للواقع سياسية أو اجتماعية.

ومن الذين كانوا يكتبون القصيدة الحسينية في التسعينات في السنابس الشاعر عبد الشهيد على جاسم الثور، وهو بالإضافة إلى كونه شاعراً فهو رادود حسيني، ولعله بهذه الميزة استطاع أن يحقق لنفسه مكانة خاصة كونه يكتب ويقدم قصيدته بنفسه، ويستطيع أن يشاهد أثرها ويكتشف طبيعة تلقيها من جمهور الموكب وفي المجتمع من حوله، وقد بدأ رادوداً يقدّم القصائد في المناسبات المختلفة محتذياً الطريقة العراقية في (الشيلات) ولكن استمراره في الموكب وتوجهه نحو تطوير موهبته في الشيل والكتابة جعل له خصوصية، وبها حفر لنفسه طريقة خاصة في الأداء يكاد يميزها كل من يتابع القصيدة الحسينية.

ولعل من يتأمل إصدارات الشاعر والتي من ضمنها "ديوان الدموع الجارية في رثاء العترة الهادية" من الجزء الأول حتى الجزء السابع يلحظ الاختلاف والفرق بين أول إصدار وآخر إصدار، ومدى تطور الموهبة الشعرية شيئاً فشيئاً، ولعل الظاهرة التي نتتبعها يمكن استعراض بعض نماذجها، ورصد مضامينها من خلال هذا الديوان في جزئه السادس الصادر في 1993م كونه خلاصة جمع ما كتبه الشاعر خلال موسمين أو أكثر وما قدمه بصوته وأصوات الرواديد الآخرين.

ومن خلال متابعة واستقراء صفحات هذا الديوان نجد أن فيه القصيدة التي خصصت لمعالجة قضايا إدارات المآتم ومستهلها كان " سير على آثار الوصية من محمد، وفي المآتم خل نساهم" وفيها "يا إدارات المآتم في ديار المسلمين .." وهناك قصيدة تتحدث عن أهداف الموكب الحسيني وكان مستهلها" أهداف موكبنه اسمعها يامسلم" وقصيدة أخرى تتحدث عن أهمية الترابط الاجتماعي بين الأصدقاء والإخوان مستهلها " الحب في .." وهناك قصيدة تتحدث عن إدارة الوقت والتحضر مسهلها " للحسن آداب وتعاليم ومآثر موقف معاصر، إحنه نريد موقف جديد" ، وهناك قصيدة عن تتحدث قضية المخدرات التي شاعت في تلك الفترة في الكثير من القرى وكان مستهلها " شهر الأحزان المشهور، شهر الإصلاح عاشور" وقصيدة تتحدث عن الشورى في الإسلام وكان مستهلها " دعوى عظمى في القرآن.. قرآني عنواني" وهناك قصيدة تتحدث عن جهاد النفس وكان مستهلها "خطوات على خطوات وجهاد مع النكبات، وطريق الكفاح طويل" وهناك قصيدة عن الثوارت الشيعية على مر التاريخ كان مستهلها " احنة شيعة علي انثور ما ننولي .. راح حامينا وأملنه" وهناك قصيدة عن المنبر الحسيني ودوره وإصلاحه وكان مستهلها " واصلي دور الكفاح يا منابرنا .. كالحسن أصلحي وجهي وكافحي" وهناك قصيدة عن الوحدة الإسلامية كان مستهلها " من نهضة المختار .. إخوة ابدرب التوحيد نتعاون كلنه انريد" وفيها "ماكو شيعي واسني وماكو تفريق ألوان الدين اللي ايدني وبالتقوى والإحسان" وقد قدمت في السنابس وفي صباح يوم ذكرى وفاة النبي محمد (ص) المنامة، وهناك قصيدة تتحدث عن موضوع الإصلاح "لجل تحديد القضية إخذ من نهج الإمام.. باعث الإصلاح" هناك قصيدة تتحدث عن الصمود والثبات في الشدة البلاء وكان عنوانها مكتوب على رايات الإمام" وهذه القصيدة اشتهرت بشكل كبير وبقيت تردد زمناً حتى أنها أعيدت في فترة اعتقال الرادود بصوت أبناء سهوان، وهناك قصيدة تتحدث عن علماء الشيعة المتميزين وفيها دعوة للعلم والدراسة والتفوق والنجاح كان مستهلها "مذهبنه بركان".

وكان من أهم من قدموا مثل هذه القصائد في تلك الفترة من الرواديد الذين أولهم عبد الشهيد الثور نفسه، كونه متبني هذه الفكرة، ومبدع قصائدها، ومزودها في كل مناسبة كل مرة بموضوع جديد، يأتي بعد الاستشارة والمتابعة والتشجيع من طرف والنقد من طرف آخر، ومن الرواديد الذين قدموا مثل هذه القصيدة أيضاً الرادود حسن أحمد المعلمة، والرادود محسن العرادي، والرادود جميل العرادي، والرادود مكي جاسم، والرادود جعفر سهوان، والرادود حسين سهوان، والرادود مهدي سهوان.

دارت هذه القصائد في تلك الفترة حول ما انشغل به الناس من قضايا وكانت كمرآة تعكس اهتمامات جمهورها وتطلعاتهم حيث خصص بعضها لقضايا اجتماعية وأخرى لقضايا سياسية وأخرى لقضايا دينية، وكانت في بدايتها تلقى ترحيباً كبيراً في الموكب كون هدف الموكب الحسيني مثله مثل الشعائر الأخرى يستمد أهدافه من رؤيته لحركة وأهداف ثورة الإمام الحسين الذي يتم تمثله من خلال مقولة (إن أريد إلا الإصلاح في أمة جدي) ولهذا لم يكن مستغرباً ولا مرفوضاً التطرق إلى مثل هذه القضايا في الموكب بل كانت تمثل جانب العبرة بكسر العين بالإضافة إلى العبرة بالكسر المتمثلة في البكاء والمأساة في مناسبات التعزية، وكذلك كانت تمثل طرح مثل هذه القضايا في الموكب وتخصيص القصيدة بأكملها لموضوع واحد كان يمثل نوعاً من التوجه نحو التخصص والغوص في الموضوع الذي كان يحتاج إلى البحث والتعمق بدلاً من الإطلالات السريعة التي لا تفيد ولا تعالج شيئاً، ولعل من الطريف ما أشار له الشاعر نفسه بأنه تأثر بالخطيب الشيخ أحمد الوائلي في اختياره غالباً موضوعاً واحداً يعالجه في كل محاضرة من محاضراته التي كانت أشرطتها شائعة ومتداولة بشكل كبير وموضع استماع واحتذاء من الكثيرين، ولذلك اتجه الشاعر على طريقته ولكن على مستوى القصيدة في تخصيصها لموضوع واحد ومعالجته والتعمق فيه من خلال الشعر، وربطه بالمناسبة التي يلقى فيها، كذلك ربما يكون هذا التوجه من الشاعر هو ما كان يشاع في تلك الفترة من نقاشات كنا نقدمها حول طبيعة الفرق بين القصيدة المتعددة الأغراض في الشعر العربي القديم والقصيدة المعاصرة، من حيث وحدة الموضوع وهو ما بدأ مع مدرسة المهجر ومن سبقهم من شعراء، ولعل طبيعة مثل هذه المناقشات كان لها أثرها في الشاعر والقصيدة الحسينية وتوجهها نحو وحدة الموضوع.

ولكن الاستغراق في طرح قصيدة بهذا الشكل في مجال التداول العام خصوصاً في القضايا الاجتماعية التي كانت محل خلاف وتنازع أحياناً كما هي قضية الوحدة بين المآتم وقضية إصلاح المنبر، وغيرها من القضايا التي طرحت في الموكب آن ذاك كان له أحياناً ردة فعل مختلفة ففي مقابل الاستجابة الإيجابية والتقبّل، كانت هناك استجابات وردات فعل سلبية، تتحسس من طرح مثل هذه الموضوعات كونها تمسها بالتحديد وتتدخل في اختصاصاتها، وهي موضع أخذ ورد، أو كما طرح البعض هي قضايا اجتماعية مختلف فيها، وبحسب تعبير أحدهم مستنكراً "لماذا ننشر غسيلنا على الملأ"، أو لماذا نجعل القصيدة الحسينية محل الخلاف والمفروض أن يكون الحسين جامعاً للشمل ويلم الجميع تحت قبته ومنبره وفي مواكبه، ومن هنا بدأ يخف التوجه نحو كتابة قصيدة الوحدة الموضوعية، خصوصاً وأن الكثير من نماذجها خصص لقضايا اجتماعية، بالإضافة إلى أن بعض القصائد كانت تغفل أو يصعب عليها القدرة على الربط بين المناسبة والموضوع الذي تتطرق له مما جعلها محل نقد واستهجان من بعض التيارات الاجتماعية وحتى السياسية التي لها وجهة نظرٍ أخرى، وأدى ذلك إلى تلاشيها شيئاً فشيئاً.
حتى وصلنا من بين التجارب المتعددة في كتابة القصيدة الحسينية أن تحتوي في مضمونها على إحياء للمناسبة، وذكر للمرثي النبي وآله والأيمة الأطهار ومن استشهدوا بين يديهم، بالإضافة إلى طرح موضوعات مختلفة مع أهمية الربط بالمناسبة، وبأهداف قضية الإمام الحسين والقيم التي استشهد من أجلها، وهي القضية المحورية في موضوعات هذه القصيدة.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus