إبراهيم شريف في حوار شامل مع "مرآة البحرين": على جبهة التعذيب كانت تراودني أطياف الجبهة الشعبية وتاريخها وعبدالرحمن النعيمي

أصبحنا معاً الآن: لاغرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل
أصبحنا معاً الآن: لاغرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل

2015-06-23 - 8:30 ص

لتحميل الحوار بصيغة PDF

مرآة البحرين (خاص): ساعة ونصف في غرفة إبراهيم شريف. قبل أيام كانت هذه أمنية مستحيلة. لكننا معه الآن، وجهاً لوجه نلقي عليه الأسئلة ونحاور. قياديّ "وعد" اليساري الملهم وسجين العنبر رقم "7" في سجن "جو" المركزي صار بإمكانه أن يتحدث خارج القيود.

في وقت ما من السنوات السابقة سعينا وكدنا أن نحظى بفرصة لإجراء حوار معه. نقول كدنا لأن الفرصة تبخرت فجأة مع تعديل فجائي أدخلته سلطات السجن على نظام الزيارة. لكن الآن، فليالي السجن الطويلة أصبحت من الماضي. على الأقل منذ يوم الجمعة 19 يونيو/ حزيران الحالي لغاية الآن.

أشياء كثيرة أردنا معرفتها: عن الأربع سنوات التي أمضاها في السجن. عن الرّفقة التي جمعته مع قياديي الحركة الإسلامية الشيعية. عن نقاشاتهم وتقييمهم لإفرازات العام 2011. عن المرّة الوحيدة التي بكى فيها. عن لقاء المحقق الدولي بسيوني في كافتيريا سجن "القرين". عن استقبال الشيخ علي سلمان أمين عام "الوفاق" داخل السجن. عن بيت عبدالوهاب حسين أمين عام "الوفاء" الذي اختار أن يكون أول مكان يزوره بعد خروجه. عن الكتب التي قرأها. عن الممكن في هذه الفترة. عن النظام ومستقبل التسوية معه. عن الأمل، وما إذا كان ثمّة أمل. وعن الحل: ما هو الحل الآن بعد أن كرّت سبحة الأيام. سنة في إثر سنة سال فيها الدم عبيطاً مثلما عُمّدت بالألم والجراح. وفي كل ذلك، كان إبراهيم شريف كريماً؛ بل كريماً جداً. أرخى العنان لذاكرته وراح يبوح بكل ما استلهمه من حكمة التجربة. انتهينا تقريباً لكنّ برنامجاً آخر كان في انتظار شريف. طلب من زوجته فريدة غلام الاتصال بعائلة أحد رفاقه في السجن الشيخ عبدالهادي المخوضر لزيارتهم في منزلهم. قالت ضاحكة "كنتُ سكرتيرته وهو في السجن وحتى حين خرج أصبحت سكرتيرته". فيما يلي مقتطفات من الحوار معه:

مرآة البحرين: كيف رأيت الناس بعد خمس سنوات؟

إبراهيم شريف: الناس معنوياتها عالية، نحن لسنا منقطعين عن العالم. كنا مجموعة من ثلاثة عشر سجينا وتصلنا الأخبار. تصلنا الصحف الرسمية ما عدا "الوسط"، وعندما سألنا قالوا لنا "صحيفة فتنة". قلنا لهم وماذا عن "الوطن"؟ من يومها تم إيقاف "الوطن" أيضاً. نطّلع يومياً على ثلاث صحف محلية بالإضافة إلى (GDN) الإنجليزية؛ نفرز فيها أحياناً ما لا نجده في الصحف الأخرى. بشكل عام كنّا نعرف الروح الموجودة بين الناس وتصلنا الأخبار.

كثير من الأخبار تصلنا من الموجودين خارج السجن عندما يتصلون بأهاليهم. "مرآة البحرين" كانت مصدراً هاما للأخبار لدينا. وللأمانة كانت أهم مصدر للمعلومات بالنسبة لنا. من خلال عناوينها تستطيع أنت كسياسي أن تفهم ما يتضمنه الخبر لوحدك. العناوين تستوعب الأحداث الموجودة بسقف عال، بينما سقف الصحف المحلية محدود حتى لو كانت مستقلة.

إبراهيم شريف

المرآة: هل لديك تفاؤل بحجم صمود الناس؟

شريف: هذه أطول انتفاضة في تاريخ البحرين. لم تحدث انتفاضة بهذا الطول وهذا الشكل، والناس حتى بعد القمع الشديد معنوياتهم عالية. أعتقد أنه من المهم تقييم المواضيع من هذه الزاوية. فالقوة الأمنية للنظام هائلة، مستمدة من قدرات مالية كبيرة والدعم الخليجي القوي. النظام الدولي في البداية اهتم بقضية البحرين، أما الآن فقد أصبحت البحرين موجودة على المستوى الحقوقي فقط فيما تراجع الضغط الدولي. إن المستوى الحقوقي ليس له أهمية ما دام ليس لديك نضال في الداخل. الاهتمام الحقوقي يكون موجوداً ما دام هناك عشرات المناضلين يدخلون السجن باستمرار، وما دام هناك عشرات القصص الحقوقية كل شهر.

أنا متفائل جداً، لأن حاجز الخوف لم تستطع الدولة أن تبنيه من جديد، وأهم شيء بالنسبة للنضال الطويل، هو أن لا تتمكن الحكومة من أن ترجعك إلى المربع الأول الذي يكون فيه حاجز الخوف مرتفعاً. صحيح  أن الناس الآن لا يستطيعون التظاهر بأعداد كبيرة نتيجة للاعتقالات، وصحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي مقيدة للغاية ويتم استخدامها لإدانة الأشخاص، لكن هذا ظاهر الأمور، أما باطن الأمور فرفض الناس للتهميش والقمع ما يزال جيدا.

المرآة: هل هذه الأجواء تساعد المعارضة على أن تتمسك أكثر بالمطالب التي عرضتها في "وثيقة المنامة"  أم أنها بحاجة إلى نوع من المراجعة لهذه المطالب؟

شريف: التغيير على الأرض لا يمكن أن يحدث بدون وجود موازين قوى. ما يحدث على الأرض هو الذي يحدد ما تستطيع أن تحققه في أية لحظة. المعارضة في أي بلد إذا استطاعت أن تحقق شيئاً جيداً ذا مغزى للمواطنين ولو بسقف أقل من الذي تطرحه، فإن عليها أن تسعى إليه، من دون أن تتنازل عن مطالب الشعب الأساسية. ليس من حق المعارضة أن تتنازل عن حقوق المواطنين. المعارضة إذا كانت مخولة من الناس، فهي مخولة في كيف تحصل للناس على حقوقها مع الوقت، لكن ليس لديها تفويض للتنازل عن الحقوق.

النقاط الموجودة في "وثيقة المنامة" هي نقاط الحد الأدنى التي يمكن أن تتلاقى عليها أغلبية قوى المعارضة. لدينا مطالب واضحة في "وثيقة المنامة"، وهي مطالب وطنية بامتياز وجمعت المعارضة تحت مظلة واحدة. لكن التفاوض يكون على الجداول الزمنية في تحقيقها. إن أي جداول بعيدة جداً تجهض عملية الحل، وأي جداول قريبة جداً لن تسمح لك موازين القوى بتحقيقها. لذلك أنت يجب أن يكون لديك التوازن بين هذين الشيئين.

المعارضة في البحرين عميقة الجذور وليست نخبوية. لهذا لا يوجد انفصال بين المعارضة والنخبة. لم يعد الوضع القديم قائماً، بأنك إذا ضربت النخبة انتهت المعارضة في البحرين. الجذور عميقة جداً، وأعتقد أن أحد الأسباب الحقيقية لعمق الجذور هو عملية التهميش الواسعة التي تمت لطائفة من المواطنين خلال الخمسة وثلاثين سنة الماضية، منذ بداية الثمانينات إلى الآن. إن هذا يجعل المواطن ليس لديه خيار آخر إلا أن يكون معارضاً. الحكومة لم تترك خياراً آخر للمواطنين المهمشين. تستطيع الحكومة أن تقول سأعتقل قيادات المعارضة، وبعدها تقول سأعتقل صف النشطاء المحركين في الشارع، ثم تعتقل الشباب الأقل من ثمانية عشر سنة، لكن تبقى المعارضة قوية وموجودة.

لدينا ثلاثة آلاف معتقل، أي بمعدل معتقل لكل مائة ذكر في البحرين. لا يوجد في العالم مثل هذا العدد من المعتقلين مقارنة مع عدد السكان. وهذا يثبت أن المجتمع ولاّد للمعارضة. صفوف المعارضة دائماً عريضة. حتى الناس عندما لا تستطيع أن تناضل كما فعلت في 2011 على سبيل المثال، فهي لا تحتاج إلى أكثر من هبّة ريح تبعثر الرماد وينكشف الجمر المشتعل. لذلك السلطة ليس لديها خيار غير أن تصل إلى اتفاق على المدى البعيد.

المرآة: هل تعتقد أن البحرينيين يمكن أن يحققوا جزءا كبيراً من أحلامهم من خلال هذه الانتفاضة؟

شريف: مع الاستمرار ممكن، لكن لا ننسى أن الحكومة خلال ثلاثة عقود حققت إنجازاً كبيراً في قضية الشرخ الطائفي، لا يمكننا إنكار هذا. استطاعت أن تقسم المجتمع إلى مجتمعين. واحدة من إخفاقات المعارضة أنها لم تستطع حتى الآن أن تبني جسوراً مع الشق الآخر من المجتمع ومن لديهم مخاوف. بعض المخاوف مبالغ فيها للغاية وغير صحيحة، لكن بعض المخاوف صحيحة. والمعارضة حتى الآن أخفقت في أن تتواصل مع الآخر، أن تبني هذا الجسر مع الآخرين. هذه الهوة تغذيها مع الأسف النزاعات الإقليمية، كل نزاع إقليمي ينعكس علينا سلباً. ينبغي ألا يتصور أحد بأن انتصار أي طرف على طرف آخر سيفيدنا. مع كل انتصار لأي طرف ضد الآخر لدينا أزمة تشتعل. الحلول السلمية في أي من الدول التي تشتعل فيها الحروب تساعد وضعنا. نحن بلد صغير موجود في إقليم ممتلىء بالحرائق.

المرآة: قلت إن وثيقة المنامة هي ما ستحمله للتوفيق بين التيارات المختلفة للمعارضة. هل عملت على ذلك أثناء وجودك أربع سنوات في السجن؟

شريف: أعتقد أن ما نجحنا فيه هو أن كل واحد صار يفهم الآخر بشكل جيد. هناك البعض في داخل السجن يعتقد أن "وثيقة المنامة" هي أفضل ما أخرجته المعارضة حتى الآن، وهناك من يعتقد أنها جيدة لكن لا تصل إلى حد المطالب التي ينادي بها، نحن نحترم بعضنا البعض. أنا أحترم من يدعو إلى نظام الجمهورية. 90 في المائة من دول العالم نظامها جمهوري، وهذا مطلب غير شاذ ومن حق الناس أن يختاروا نظامهم.

المختلفون معنا في السقف أيضاً يحترمون أن إبراهيم شريف أو شيخ علي طالبون بملكية دستورية. أنا أفهم ما يقولونه بأنه لو كانت الملكية الدستورية متاحة لما رفضناها. لقد أُعطيت السلطة فرصة عشر سنوات لكي تطبق الملكية الدستورية ولم تفعل. لذلك اتجه الناس إلى المطالبة بإنهاء النظام وفتح صفحة جديدة مختلفة عن الصفحات السابقة، بعيداً عن "الحمل الكاذب" المتكرر في موضوع الإصلاح.

أنا أتفهم وجهة النظر هذه، في المقابل أنا أطرح وجهة نظر أخرى، بأنك لا تستطيع أن تقفز هذه القفزة الشاسعة في تغيير النظام بدون أن تدخل حرباً أهلية، أو انشقاقات كبيرة في المجتمع نحن نعيشها أصلاً. لذلك أرى الموضوع من ناحية الكُلف، أنا لا أرى فرقاً كبيراً بين النظام الجمهوري أو الدستوري، هذه قضية شكلية، لكن أنظر إلى الكُلف. إن أي حل ليس به شكل من أشكال التوافق بين السلطة والمعارضة، فذلك معناه أنه لن يكون هناك توافق بين الطوائف، هذه حقيقة. وإذا لا يوجد هذا التوافق فمعناه أن طرفاً سيفرض رأيه على الطرف الآخر. وهذا سينتج عنه إما انتفاضة مستمرة كما هي الآن، أو حرباً أهلية وهو الوضع الأسوأ. الخياران سيئان ولا نستطيع الاستمرار فيهما. السلطة مخطئة إذا استمرت أكثر. الحل الأمني يخنق أنفاس الناس، هو يضيق عليهم مساحات الحرية فقط، لكن الناس دائماً تجد لها منافذ تتحرك من خلالها.

نحن الثلاثة عشر شخصاً في داخل السجن، يفهم كل منا الآخر. وجود شيخ علي الآن داخل السجن مفيد من جهة أن يسمع الإخوة ما حدث خلال الأربع سنوات الماضية. إبراهيم شريف كان معهم ليخبرهم ما تم قبل هذا التاريخ من لقاءات ومفاوضات مع الوفود الحكومية وغيرها. والآن الشيخ علي سلمان هو أفضل من يخبرهم عن ما دار بعد 2011.

المرآة: حاولت السلطة ضرب "وثيقة المنامة" من خلال "وثيقة الأعيان"، واستبدال التمثيل السياسي للقوى السياسية المعارضة بتمثيل الأعيان. كيف يستطيع ابراهيم شريف أن يصيغ صوت "وثيقة المنامة" التي خفت صوتها  في ظل هذه التحديات؟

شريف: دوري هو جزء من دور المعارضة. الأعيان تجربة اتبعت في السابق، حتى في التسعينات استخدموا الأعيان كوساطات لإخراج معتقلين، النظام عندما يكون لديه مشروع سياسي يعرف من أين يدخل بيت المعارضة، يدخل من الباب. الأعيان ليسوا باباً ولا نافذة للمعارضة. وكما ذكرت فإن المعارضة متجذرة في المجتمع بحيث أنه لا يمكن لأي طرف أن يدخل بيت المعارضة (الشعب) عن طريق الأعيان. حتى النواب، بدون وجود منافسين، لم يستطيعوا أن يحصلوا حتى على 10 في المائة من أصوات نواب المعارضة. ليس لديهم أي ثقل حقيقي في المجتمع.

الحماقة الموجودة عند السلطة أنها لم تعط للمعارضة شيئاً يجعلها تنقسم. لو كانت الحكومة ذكية لكان من الممكن أن تقسم المعارضة وتستفيد من هذا التقسيم. بحيث تطرح سقفاً مقبولاً عند البعض وغير مقبول عند البعض الآخر فتستطيع أن تفصل بعض المعارضة عن بعضها الآخر. لكن النظام مع الأسف، وربما هذا ناشيء من تعدد مصادر القرار في النظام، لم يستطع أن يقدم شيئاً مقبولاً حتى لجزء من المعارضة.

المرآة: هناك من يبدي تخوفاً من إضعاف التحالف بين "وعد" و"الوفاق" وتمكن بعض الليبراليين المقربين من السلطة من إقناع المعارضة أو بعض أطيافها بسقف أقل من "وثيقة المنامة". ما رأيك في هذه المخاوف؟

شريف: أعتقد بأنه لا يوجد سقف أقل من "وثيقة المنامة". لقد طرحت الوثيقة المبادئ الأساسية التي تعمل عليها المعارضة، وهي المطالب الأساسية الموجودة.

إن وجود سقف أقل من "وثيقة المنامة" يستلزم أن يكون هناك جناح في "وعد" يتنبى هذه الفكرة. وعلى حد علمي هذا غير موجود. قد يكون هناك أفراد؛ لكن لا يوجد جناح يمكن أن يتم اختراق "وعد" من خلاله.

"وعد" من التنظيمات القليلة التي تحتوي على أعضاء من الطائفتين ولم يحصل انشقاق فيها على أساس طائفي. ما كان يقلقني داخل السجن أنني كنت قد شهدت انقساماً طائفياً في المجتمع قبل أن أسجن، وكنت أخشى أن هذا الانقسام ينعكس علينا. أنا أتواجد ضمن مجتمع سنّي في نهاية المطاف، وعندما كنت أذهب إلى المجتمع السني في شهر مارس/ آذار 2011 بالذات كنت أرى الحصار الذي تتعرض له المعارضة. المخاوف الكبيرة الموجودة في الوسط السني والشكوك تجاه المعارضة كبيرة. هذا أدى إلى ضغط اجتماعي مخيف. كانت السنة الأولى هي الخطيرة، وما دمنا مررنا منها فلن يحدث انشقاق على أساس طائفي. التنظيم تماسك.

المرآة: هل هذا التماسك يشمل السقف السياسي أيضاً؟

شريف: في السقف السياسي لا يوجد هناك خلاف على ما هو مطروح في "وثيقة المنامة". الاختلاف في ما هو ممكن تحقيقه من وثيقة المنامة انطلاقاً من ديناميكية للتغيير. عندما نقول للسلطة إن هذه "وثيقة المنامة"، فإما أن تحققوها اليوم بالكامل أو لا تحققوها، هذا ليس عملاً سياسياً. العمل السياسي أن ما تطلبه يمكن تحقيقه دون أن يجهض المشروع الأساسي في "وثيقة المنامة". بمعنى أن ما يمكن تحقيقه الآن سيكون أقل من "وثيقة المنامة"، لكن سيطلق ديناميكيات تغيير للوصول إلى الأهداف الموجودة فيها. إذا لم يتمكن الحل من إطلاق هذه الديناميكيات سيكون هدنة وليس حلاً.

الهدنة بين المعارضة والنظام ممكنة، بمعنى تبريد الأجواء. نحن نحتاج فترة من الزمن تستغرق أشهراً يبني فيها الطرفان ثقة بينهما. وهذه الثقة تعتمد في الجانب الأساسي على إطلاق سراح المعتقلين السياسيين بدءاً من القيادات وحتى آخر معتقل. مقابل تهدئة من قبل المعارضة، تتلوها عملية مفاوضات حقيقية تشمل جميع أطراف المعارضة وليست الجمعيات فقط.

المرآة: هل تفكر في طرح هذا المشروع الآن؟

شريف: ما أقوله ليس جديداً في العمل السياسي، وقد يكون مطروحاً الآن. أحياناً لا تستطيع أن تصل إلى حل سياسي لأن الأجواء في البلد محمومة. الثقة غير موجودة بين الأطراف. إذا كنا لا نستطيع أن نصل إلى تحقيق "وثيقة المنامة"، يجب أن نبني جسراً كي نصل. الجسر هو إطلاق عملية مصالحة وطنية، تبدأ بقضايا محددة وعلى فترة زمنية. الجسر الذي نحتاجه لكي نصل إلى المصالحة هو أن نبني الثقة. وبناء الثقة لا يتطلب أن يكون لديك اتفاق سياسي شامل، إنما يتطلب أن تكون لديك تهدئة من الطرفين. كل طرف يقدم تنازلاً. التنازل الذي على الحكومة تقديمه هو سحب كل التعزيزات الأمنية الموجودة في القرى وكل الحصار الموجود وإطلاق سراح كل المعتقلين.  

هناك وجهة نظر أنا أحترمها وأتفهمها جداً، وهي موجودة داخل السجن، أن القيادات يجب أن لا تأخذ قرارها وهي في السجن. فالسجين قد يتعرض إلى ضغط بحيث يقدم تنازلات يفترض أن لا يقدمها. لهذا أنا أعتقد أن وجهة النظر هذه يجب أن تكون محترمة.

المرآة: هل هناك صفقة تم عرضها على إبراهيم شريف داخل السجن؟

شريف: لا إبراهيم شريف ولا أي أحد من الموجودين معي في ذات السجن. نحن نمزح فيما بيننا أحياناً ونتوقع أن السلطة ستأتي لتعرض علينا شيئا ما، لكن ذلك لم يحدث. الحكومة خلال أربع سنوات قامت بعزلنا.

تم عزلنا في سجن رقم 6 ثم رقم 7. لماذا يعزلونا؟ هناك سببان محتملان في العادة؛ إما أننا وباء سياسي والمطلوب بألا نكون قريبين من أي سجين. إذ يمكن أن نكون عامل تعبئة أو تحريض أو أي شيء آخر. وإما أن الحكومة تحتاج لأن نكون في مكان واحد بحيث يكون ذلك أسهل لها في التفاوض، ونكون معزولين عن الآخرين لكي لا تخرج أخبار المفاوضات. الهدف الأول تم تحقيقه "العزلة عن الآخرين"، أما الهدف الثاني فلم نر منه شيئاً على مدى السنوات الأربع.

المرآة: أهم الشخصيات التي زارتكم في السجن هو رئيس لجنة تقصي الحقائق محمود شريف بسيوني. كيف كانت لقاءاتكم مع بسيوني وكيف رأيتم أداء اللجنة؟

شريف: كانت المخاوف كبيرة لأننا لم نكن نعرف بسيوني، لكن عندما وضعوا السير نايجل رودلي، وهو ذو سمعة جيدة ومعروف خفف حدة المخاوف. وهي بالمناسبة تشبه مخاوف الجمعيات في الخارج. بعد اللقاء خرجنا بانطباع جيد عن اللجنة فيما عدا أحدهم وضع جميعنا عليه علامة استفهام. شعرنا براحة في لقائنا مع بسيوني وكنا صريحين جداً، وقيل لنا من قبل بسيوني نفسه، ومن قبل رئيس فريق المحققين في اللجنة خالد محيي الدين، بأن الإخوة الذين طالبوا بالنظام الجمهوري هذا حق مشروع لهم، وأنه يندرج في إطار حرية الرأي، وفي أي مكان في العالم ليس عليه أية عقوبة. قالها بالكلام الواضح والصريح.

جلسنا معه جلسة واحدة قرابة ساعة كاملة كنا حينها في كافتريا سجن القرين. أما بخصوص  التقرير النهائي للجنة بسيوني، فإن أحسن توصيف له هو "أقل مما نريد أكثر مما توقعنا".

الأغلبية أعطوه علامات بين جيد وجيد جداً. يقدم التقرير لأول مرة في تاريخ البحرين ثلاث روايات حول حدث تاريخي هناك خلاف عليه. هناك رواية المعارضة، رواية الحكومة، ورواية الطرف الثالث. يمكن أن نشير إلى رواية خاطئة بعض الشيء في رواية السلمانية، رواية خاطئة في موضوع جامعة البحرين. دور قوة الدفاع حاولوا تجنبه. لكن نحن نتكلم عن الصياغة العامة والنتائج العامة وبالذات في النتائج النهائية والتوصيات، وإن كانت افتقدت لآليات متابعة تنفيذ التوصيات. الآليات تركت محلية، وبالتالي الحكومة استطاعت أن تلتف عليها.

المرآة: لماذا اختار إبراهيم شريف زيارة عائلة أمين عام "الوفاء" عبد الوهاب حسين كأول خطوة بعد خروجه من السجن ومن ثمة بقية عوائل الرموز المعتقلين؟

شريف: عوائل كل الرموز على القائمة لدي. عبد الوهاب حسين علاقتي به خاصة جداً. كان لدي معه خلال الثلاث سنوات الماضية برنامج مشي ساعة كاملة. يعني هذا أن لدينا 365 ساعة في العام كنا فيها معاً بشكل خاص. لكن علاقتي به قوية قبل 2011. كنت جسراً بين الجمعيات وبينه.

في أول تظاهرة خرجت في يوم 14 فبراير/ شباط 2011، بعد صلاة الفجر في نويدرات وتم ضربها من قبل الأمن، كنت أول واحد من المعارضة يزوره في بيته للاطمئنان عليه. وطيلة فترة الانتفاضة كنت حلقة الوصل بين الجمعيات وتيار الممانعة، أو بالأحرى بين الجمعيات وبين عبدالوهاب حسين بالدرجة الأولى. العلاقة توطدت به أكثر داخل السجن.

أحد الأمور التي أنا ملتزم بأن أكرس وقتي لها هي قضية المعتقلين، وهذه هي الحلقة الواسعة، وداخلها حلقة أضيق هي قضية المعتقلين الذين كانوا معي طوال مدة أربع سنوات وربع. نعم الرفقاء في السجن. فإضافة إلى الالتزام العام بالقضية العامة، يوجد لدي التزام عاطفي ونفسي تجاههم.

هؤلاء أصدقائي ورفقائي وعائلتي خلال أربع سنوات وربع. أنا عشت مع الأخوة أكثر مما عشت مع أي واحد في حياتي غير زوجتي وأولادي وأهلي عندما كنت صغيراً. من الجامعة حتى الآن لم أعش مع مجموعة من الناس أقضي معهم طوال وقتي، نأكل معاً، ننام معاً، نُضرب معاً، نهان معاً، نُشتم معاً، نحاكم معاً، نوضع جميعنا في قضية واحدة ونحن لا علاقة تنظيمية بيننا. نتهم جميعنا بتهمة واحدة، وننال جميعنا أحكاماً بين 5 سنوات إلى 25 سنة، ونعاني جميعنا في السجن، ونقوم معاً بتنفيذ اضرابات.

حاولنا أن نجعل السجن استمرارا للنضال في الخارج، هو ليس محل تمضية الوقت، جزء من نضالك أن تستمر في عملية الاحتجاج.

إبراهيم شريف 1

المرآة: كيف مارستم احتجاجاتكم داخل السجن؟

شريف: أصدرنا مواقف وبيانات وكنا على تواصل مع المنظمات الحقوقية والمنظمات التي كانت تدخل البحرين. استمر ذلك لآخر شهر مارس/ آذار وأبريل/ نيسان الماضيين فترة ما أطلقنا عليه "السلامة الوطنية المصغرة" مع نشوب أحداث سجن جو. قمع شديد في السجن، السجن الوحيد الذي لم يصله الضرب هو سجن رقم 7 الذي كنا نتواجد فيه؛ إذ كنا معزولين أصلاً. كنا نسمع تأوهات السجناء الآخرين ومعاناتهم، ولكن لا نراهم.

المرآة: ما سر النبرة الإيجابية في حديثك عن المجموعة التي قضيت معها أربع سنوات كاملة رغم الاختلاف الفكري. عادة في السجن تنشأ الخلافات في حين أنك تتحدث بإيجابية كبيرة عن رفقاء السجن؟

شريف: يجب أن تعرف أن متوسط العمر لدينا هو في الخمسينات، ليس بيننا صغار في السن متحمسون أو متعصبون. الخلاف الذي يمكن أن يحدث بيننا هو الاحتداد في النقاش فقط. وبناء عليه يحدث سوء فهم فقط بدون تطاول من أي طرف على الآخر. أي سوء فهم يمكن حله بسهوله. عامل السن له دور، النضج السياسي له دور، الجميع يعرف تبعات الخلافات على العمل السياسي، وليس فقط على العلاقات. العدد أيضاً مهم. سكنت في فترة الدراسة الجامعية مع طلبة أقرب لي أيديولوجياً لكن كانت خلافاتنا أكثر بكثير من خلافاتنا وسط هذه المجموعة. رغم الخلافات الأيديولوجية، خصوصاً بالنسبة لي، إلا أنني كنت أتناول معهم بالطرح كثيراً من القضايا الجدلية خاصة ما يتعلق بالتيار الإسلامي.

المرآة: تحدثت عن أجنحة السلطة وأن هناك جناحاً يريد الاصلاح لكنه ضعيف. هل يمكن التوسع في هذه النقطة؟

شريف: كنت جزءاً من المفاوضات التي تمت في 2011، والتقيت مع الشيخ علي سلمان بمساعد وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيفري فيلتمان وآخرين. كان هناك طرف في السلطة ممثلاً في ولي العهد يريد أن يصل إلى حل سياسي إلى الأزمة، وكان هناك أطراف أخرى داخل السلطة وجدت فرصة في بناء رصيدها الذي تآكل خلال العشر سنوات الأخيرة لغاية 2011 من خلال اتخاذ موقف متطرف، أعني بالرصيد هنا موقع الاطراف التي لا تريد الوصول لحل سياسي داخل الأسرة الحاكمة ومستوى القبول لها في بعض الأوساط الشعبية المحدودة.

كنا نتحدث منذ 2001 عن الحرس القديم والحرس الجديد. الحرس الجديد تمكن من كنس الحرس القديم، لكن الحرس الجديد نفسه قد تحول مع الوقت إلى حرس قديم.

الصراع تجدد في 2011، فالجماعات التي رُكنت قبل هذا التاريخ بدأت تخرج من جديد، وكان لها دور كبير جداً في إحباط التوصل إلى تسوية. هذا لا يعني أن الطرف الآخر في النظام السياسي كان مستعداً لتقديم تنازلات واسعة، أنا أعتقد بأن الطرف الآخر أيضاً لم يكن مستعداً لتقديم تنازلات تصل إلى إطلاق الديناميكية التي تحدثنا عنها. إن كل ما استلمناه من السلطة في تلك الفترة هي عناوين عامة بأنها مستعدة أن تناقش موضوعا ما، لكن لا يوجد عرض محدد لهذه الموضوعات.

برأيي مثلاً إن تغيير منصب رئيس الوزراء لا يحل مشكلة، لأن تغيير رئيس الوزراء هو تغيير شكلي. عندما تغير تركيبة النظام السياسي يجب أن تغير الوجوه القديمة المسؤولة عن الحقبة السابقة وتأتي بوجوه جديدة. فتغيير رئيس الوزراء سيكون تحصيل حاصل. لم نرد أن تتحول مطالبنا إلى تغيير رئيس الوزراء. نحن نتحدث عن انتخاب رئيس وزراء. إذا تمت الموافقة على مبدأ انتخاب رئيس الوزراء نتحدث بعدها عن مواعيد ونتحدث عن فترة انتقالية. شهرين أو أربعة أشهر ليست مشكلة مادام تم الاتفاق على المبدأ.

المبدأ الأول هو الانتخاب. القضية الثانية هي المواعيد. الثالثة هي الشكليات الصغيرة. هذه هي الديناميكية التي أتحدث عنها. لا بد أن يكون هناك من يتحمل ما حدث في 17 فبراير/ شباط 2011 منذ الهجوم على دوار اللؤلؤة في المرة الأولى. ليس من المعقول تستمر نفس الحكومة ويتم تحميل المسؤولية لموظفين صغار في وزارة الداخلية.

المرآة: هل ترى أن  الجمعيات أخطأت في التعامل مع مبادرة ولي العهد؟

شريف: ما شهدته شخصياً هو أنه لم تكن هناك خطة واضحة المعالم من الحكومة. الحكم قدّم رؤوس أقلام هي أقرب لعناوين مفاوضات منها إلى تنازلات محددة. يقول مثلاً: تعديل الدوائر الانتخابية بما يمكن أن يكون أكثر عدالة. ماذا أفعل في هذا العنوان؟ أين أصرف هذا الشيء؟ فلتأت لي بمؤسسة دولية هي التي تحدد إذا كان هذا الشيك يمكن أن يصرف أو لا. وإذا اتضح أنه  لا يمكن صرف هذا الشيك، يجب أن يكون لدي مؤسسة دولية أستطيع أن أشتكي فيها بأنه قد تم إعطائي شيكاً بدون رصيد.

المرآة: حدثنا عن ليلة اعتقالك وكيف تستذكر الآن هذه اللحظات؟

شريف: كنت متوقعاً الاعتقال. كان لدي توقع بأن موازين القوى ستُضرب. كانت لي محاضرة في الدوار قبل أيام من اعتقالي وتحديداً في 3 مارس 2011. تكلمت أن السقف العالي لن يوصلنا إلى مكان. وحددت الأسباب: مجتمع منقسم طائفياً، دعم إقليمي غير محدود للنظام وقوة عسكرية هائلة لنظام غير مفكك. نحن لسنا في مصر، حيث القوة العسكرية انفصلت عن السلطة. هنا المؤسسة العسكرية جزء من السلطة. العائلة هي التي تمسك المؤسسة العسكرية. لقد أعطيت أسباباً لضرب الحركة وكانت الأمور واضحة جداً بالنسبة لي. كنت أعلم بأننا سنعتقل وسيكون هناك ضحايا وشهداء. لكن في المقابل لم تكن لدينا خيارات، لم يكن ممكناً التراجع عن الموضوع. الناس مقدمة على التضحية ونحن أمام عمل سياسي، إذا كانت الناس مقدمة على التضحية يجب أن تمضي للأخير وتأمل الأفضل في هذا الموضوع. الأفضل ليس بالضرورة سيأتي في يوم الضربة. يوم الضربة سيكون أسوأ أيامك. لكنه سيأتي بعد ذلك، وهذا كان الرهان الموجود. وأعتقد أن جزءاً من المعارضة كان مستوعباً لذلك. لم يكن لدينا أي شك، خصوصاً نحن الجمعيات السياسية.

ربما الآخرين كان لديهم أن النظام ساقط، لكن هذا لم يكن مطروحاً عند الجمعيات ولم أسمعه من أحد. سمعته في تيار الممانعة منذ ذلك الوقت، وحاولت إقناعهم قدر الإمكان بأن ما يفكرون فيه خاطيء. وأن الخيارات الممكنة هي الموجودة على الأرض. النظام ليس ساقطاً. النظام في الأسرة متماسك. الخلافات بينهم هي في كيف يقمعون المعارضة لا في شيء آخر. النظام الإقليمي داعم للنظام المحلي لأقصى درجة، وهو الأمر الذي يمكنه من الذهاب إلى أقصى درجة في قمعنا. الضغوطات الدولية ليست كافية لتغيير الموازين. لم يكن هناك نظام إقليمي داعم. كان بالإمكان تقديم تنازلات كبيرة في البحرين من قبل السلطة، لأنها لا تستطيع أن تتحمل ضغطاً بهذا الحجم لوحدها. لكن البحرين مع دول الخليج تستطيع أن تتحمل. وهذا التحليل أثبت صحته في نهاية الأمر.

كنت أتوقع الاعتقال، لم أخبر أم شريف بتوقعي هذا كي لا أتسبب لها بالإحباط لكنني كنت مهيئاً. ما لم أتوقعه هو التهمة التي وجهت لي. أن تركّب لي تهمة بأنني دعيت لإقامة نظام جمهوري إسلامي، وأنني من أتباع الولي الفقيه، ومثل هذه الخزعبلات. بعد أربعة وخمسين يوماً من الاعتقال والتعذيب أروني لائحة الاتهام في السجن. كنا أربعة معتقلين في زنازين انفرادية. كانت زنازيننا مخصصة للعزل الانفرادي وهي مغلقة من كل الجهات ما عدا باب فيها مغلق على الدوام. لم يكن بوسعنا رؤية أحد. الآخرون لم تكن زنازينهم مخصصة للعزل لكنهم وضعوا فيها منفردين. مطلوب منك ألا تتكلم مع أي أحد. حتى الجدار إذا تكلمت معه تُضرب. حتى إذا أقمت الصلاة بصوت مسموع تُضرب. إذا أردت الصيام تطوعاً تُضرب.

عندما جاؤوني فجر يوم 17 مارس/ آذار 2011 دقوا جرس الباب. قالوا لي نريدك، لم أفتح الباب. كنت حينها قد أخذت جولة أستطلع فيها الخارج بعد أن تمّ ضرب الدوار وقد عدت متأخراً. قبلها بليلة تم حرق جمعية "وعد" أيضاً. نزلت وكانت معي أم شريف. قال لي ضابط: افتح الباب. قلت له: لا أفتح، هل لديك أمر قبض؟ قال: سلامة وطنية ليست هناك حاجة لأمر قبض. في المحكمة لم يقولوا هذا، بل قالوا كان لدينا أمر قبض عليه. فتحنا الباب، كان الملثمون قد قفزوا من السور ودخلوا البيت وتم اعتقالي. تم أخذي إلى سافرة.

من القصص الطريفة أنه تم أخذي إلى الفحص الطبي فضحكت. سألني الضابط لما تضحك؟ فقلت له: لأن الجماعة الذين قمتم باعتقالهم في أغسطس/ آب الماضي مثل الدكتور عبدالجليل السنكيس قالوا لي إنه قبل التعذيب يتم أخذك إلى فحص طبي. فضحك الضابط وقال: لا يا إبراهيم أنت لن يصيبك تعذيب. لم نكمل ربع ساعة حتى بدأ التعذيب. في البداية كان خفيفاً، دفعا بالأيدي وسبا ولعنا مع التصوير، ثم تصاعد التعذيب في السجن.

المرآة: ما هي أصعب اللحظات التي قضيتها في السجن؟

شريف: الأيام الأولى في التعذيب كانت صعبة، لكن بعد أشهر أصبحت الأمور سهلة. التعذيب صعب، الإهانة صعبة، لكن ما يزيد صعوبتها أنه ليس لديك أحد تشكو له أو تشاركه همّك. ممنوع علينا أن يكلم أحدنا الآخر. بعض اللحظات كنا نعرف أن الحرس لا يكونون موجودين فنحاول استغلالها، ومع هذا اكتشفونا ذات مرة. نتكلّم بصوت منخفض بالكاد يسمعك من يجاور زنزانتك. كنت أنا في الوسط، على يميني الشيخ عبدالهادي المخوضر، وعلى يساري المعتقل الحر الصميخ، وفي الطرف الآخر الدكتور عبدالجليل السنكيس. كان السنكيس يتكلّم بصوت منخفض جداً كي لا يسمعوه في الخارج لأنه الأقرب إلى الخارج. كنت بالكاد أميّز ما يقول. وكان الحر كل حين يسأل: "مخوضر.. ويش يقول أبو حسين؟" فكنا نضحك.

هذه اللحظات التي كنا نتكلّم فيها لمدة دقيقة أو دقيقتين كانت تعمل فينا عمل الشاحن للبطارية. في هذا الوضع تكفي دقيقة أو دقيقتين لكي ترفع معنويات الجماعة. تشعر أنك لست وحدك وأن هناك من يشاركك وضعك وهمّك.

أحياناً ترفع معنوياتك عندما تسمع أحدهم يصلي وهو يرفع صوته قبل سورة الفاتحة. "بسم الله الرحمن الرحيم" كانت تشعرنا بالحياة. كان ممنوعاً أن يخرج أي أحد صوتاً حتى في الصلاة.

كان الشيخ عبد الجليل المقداد فرض الأمر الواقع وتعودوا عليه، هو من عادته في الصلاة أن تسمع صوته، فكنا في هذه اللحظات نسمع صوت سجين فنشعر بالراحة.

كانت هناك نوبات عمل بعينها نعرف بأنها الأسوأ في الضرب والإهانة والبذاءة. لقد سمعت منهم أكثر الكلمات بذاءة التي لم أسمعها في حياتي قط. أصعب شيء في السجن الحبس الانفرادي.

المرآة: ما هي أهم الكتب التي قرأتها في السجن؟

شريف: من أوائل الكتب التي دخلت "مذكرات مانديلا" باللغة الإنجليزية، بعدها وصلتني بالعربية لكي أسلمها الأخوة فقرأوها. أول كتاب قرأته في السجن كان عبارة عن رواية عن تجربة "سجن تزمامارت" في المغرب خلال عهد الملك السابق الحسن الثاني. تصور أن هذا الكتاب تقرأه في الوضع الطبيعي خارج السجن سوف يشعرك بالغم، لكنه في داخل السجن جعلنا نشعر أن ما نعيشه هو لا شيء بالنسبة لما عاشه آخرون. هؤلاء تم دفنهم وهم أحياء. لقد كانت هذه القراءات ملهمة ومسكنة. جزء منها كان ملهماً عاطفياً كما كانت مذكرات مانديلا.

لقد تكونت عندي مكتبة مدنية، وكان عند الإخوة مكتبة دينية. كوّنا مكتبة جيدة للسجن. خصوصاً أن السجن يجب أن يحتوي مكتبة، ولم يكن لدينا مكتبة لأننا معزولون عن الآخرين. طلبنا في 2011 إنشاء مكتبة خاصة لنا، وكانت تلك إحدى مكتسبات فترة لجنة بسيوني؛ حيث سمح بها لنا في نهاية نوفمير/ تشرين الثاني بعد أيام من صدور تقرير لجنة تقصي الحقائق. كان الوضع السياسي حينها يأخذ شكل الانفراج. وقد حاولنا كسب بعض الحقوق في تلك الفترة والحفاظ عليها.  

المرآة: هل استثمرتم فترة السجن في التعلم أو التدريب؟

شريف: في سجن القرين عملنا برنامجاً غنياً يمتد من ساعات الصباح إلى المساء، كل واحد في مجال تخصصه. عبد الهادي الخواجة قدّم لنا دورة في حقوق الإنسان. أنا قدمت دورة في إدارة الشؤون المالية، كيف تستثمر وأنواع الأسهم وأنواع السندات. الشيخ سعيد النوري أعطانا دروساً في اللغة الفارسية. كما أنشأ الشيخ عبد الجليل المقداد حوزة علمية، ربما هي الأولى من نوعها في العالم أن تكون هناك حوزة دينية في السجن. طبعاً أنا لم أكن مشاركآً في الحوزة، حضرت على نحو الاستماع عدداً من الدروس فقط في البداية. كان يدرسهم بحث الخارج. هذا الرجل من أكثر شيوخ الدين تواضعاً وهو رجل محبوب، يصادقك ولو اختلف معك في الرأي ويخبرك باختلافه معك. وهو الوحيد الذي كان معي في كل مراحل سجني ورفيق غرفتي. وبشكل عام، كل الأخوة رائعون. وكل ما يمكن أن أفعله بشأن قضيتهم سأكون مقصراً في حقهم.

للأمانة كنت الوحيد بينهم الذي أنتمي لتيار مختلف، لكني وجدت نفسي بين أهلي وأحبائي. الخلافات التي تحدث في لحظة نقاش ما، إذا وجدنا بعد النقاش أنه ما تزال هناك أي بوادر للتوتر نتعانق، وينتهي الموضوع.

المرآة: هل هناك لحظة بكيت فيها؟

شريف: نعم بكيت لحظة إصدار بيان جمعية "وعد" للاعتذار من الجيش في يونيو/ حزيران 2011. كان مؤلماً جداً. وصلني الخبر عن هذا البيان عن طريق الدكتور عبد الخالق العريبي، كنت ذاهباً إلى محكمة السلامة الوطنية، وكانوا قد أحضروا الأطباء أيضاً، التقاني العريبي وقال لي: صار انقلاب في "وعد". كان قبلها قيل لي كلام، لكن لم أسمعه بهذا الشكل. تم إيصال الكلام لي بطريقة مخففة بحيث أنني لم أفهمه حتى. لم أستوعب الموضوع مباشرة بقيت مشككاً في البداية حتى تأكدت. أصبت بخجل شديد وبكيت. كانت هذه هي اللحظة الوحيدة التي بكيت فيها داخل السجن.

المرآة: كيف كانت ردة فعلك تجاه الجمعية بعدها؟

شريف: في العمل السياسي الخطأ وارد. من لا يرتكب خطأ غير موجود في وسطنا. أنا أعرف الأسباب، وهي ليست مبرراً كافياً بالنسبة لي. لكن أستطيع أن أفهم الضغوطات الموجودة في فترة السلامة الوطنية. بالنسبة لي انتهى الموضوع عندما تدارك الأخوة الخطأ. وربما تكون هذه من الدروس الضرورية التي يجب أن يمر فيها الناس لكي يتعلّموا. لدي تجربة أنني لم أمرّ بسقطة كبيرة في حياتي إلا وخرجت منها أكبر. هناك عناية إلهية موجودة للإنسان الذي يثابر.

هناك لحظات في السجن يشعر فيها الإنسان بالضعف الشديد، خاصة لحظات التعذيب. لكن حجم الأمانة التي يشعر بها الإنسان على عاتقه ترغمه على ألا يضعف. فأنا لم أكن أمثل نفسي، لو كنت أمثّل نفسي فقط لكان ممكناً أن أسمح لنفسي بالضعف، أنا أمين عام جمعية، وليست أي جمعية، هي الجبهة الشعبية، هي عبد الرحمن النعيمي، لا تستطيع أن تسمح لنفسك بالضعف. لن يكون لك بعدها شرف. الإنسان ليس لديه شيء بعد شرفه. تقول لنفسك لن يبقى لي وجه أقابل به الناس إذا أنا ضعفت.

المرآة: كيف رأيت شيخ علي سلمان في أول لقاء بينكم بعد كل هذه المدّة؟

شريف: والله إنه عظيم شيخ علي. شيخ علي متقدّم على الجميع في التيار الإسلامي من ناحية انفتاحه على الآخر، سواء بالنسبة للمشايخ أو الأفندية. هناك الكثير من الأشخاص في التيار الإسلامي متميزون في أمور كثيرة، لكن فيما يتعلّق بفهم سلمان لموضوع كيف تتعامل المعارضة الشيعية مع المكوّن السنّي، وفي فهمه لما هو ممكن أن ينجز، وفي فهمه لنتائج عدم مراعاة المكوّن الآخر والحساسيات الموجودة، هو متقدم جداً.

المرآة: كيف استقبلتموه في السجن؟

شريف: لقد كنا نضرب أخماساً في أسداس بشأن الحكم الذي سيصدر على شيخ علي. أنا توقعت أن يحكم عليه بين 5 و10 سنوات. الاتجاه العام أن شيخ علي سيحصل على حكم مشدّد. تم إحضار شيخ علي عند الساعة الثالثة والنصف ظهراً. كنا جميعاً نغط في النوم حيث كنا صائمين. كنت أول من استيقظ. قبل أن أغسل وجهي سمعت أن الشيخ وصل فهبّ الجميع لاستقباله. الجميع لم يكن مصدّقاً قدوم الشيخ علي سلمان معنا، الكل التقاه بالأحضان وبسعادة غامرة. لا ننسى أن شيخ علي كان في عزلة لمدة خمسة أشهر كاملة أيضاً. كان إحضاره معنا انفراجة بالنسبة إليه كما هي بالنسبة إلينا.  في ذلك اليوم منعونا من الاتصال بعوائلنا كي لا نخبر أحداً أنه وصل. أعتقد أن وجود شيخ علي سلمان الآن في السجن مع جماعة الممانعة هو مهم جداً وسيشكل بمعيتهم وضعاً ثرياً جداً للجميع.

 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus