مروءة فتحية: لكي لا يسقط هناك فتى شهيد

2011-12-31 - 4:34 م



مرآة البحرين (خاص): في الساعة الثامنة تقريبا من مساء الجمعة 30 سبتمبر 2011، بدأ القمع يعم أرجاء البلاد القديم.
في كل ليلة، تقف قوات المرتزقة النظامية على مداخل القرى تحسبا لأي مظهر من الاحتجاجات السياسية. وكالعادة، خرجت التظاهرة، ووضعت الحواجز التي ما عادت تمنع مركبات القمع من اقتحام كل الطرق الداخلية في القرية وإيقاع العقاب الجماعي بأهلها. حتى لو اختفى المتظاهرون، تبقى القوات مرابطة، بين البيوت، لا تحميها، بل تقمعها وتقمع كل ما يتحرك في جوارها.

4
 
شباب كانوا خارجين من القرية بغرض أن يتناولوا عشاءهم في أحد المطاعم، تلك الليلة، تفاجأوا بحاجز أمامهم، بعد اصطدامهم به أرادوا التراجع، لكن الوقت قد فات، قوات المرتزقة تحاصرهم من الخلف، إنه وقت القمع!

نزل الأربعة سريعا من السيارة، تفرقوا ولاذوا بالفرار. تمتلئ البلاد القديم كما العديد من القرى الريفية بالمزارع المفتوحة، كان المتظاهرون قد فروا إلى إحداها، فأخذ طريقهم اثنان من الشباب الأربعة، لكن الشرطة ظلوا في أثرهما. لم يكن هناك بد من أن يحتميا بالمنزل المحاذي لهذه المزرعة، كان ذلك منزل فتحية هيات.
بحياء، دق الصبيان (16 عاما) إحدى النوافذ، كانت تلك نافذة المطبخ، وهناك كانت أم فتحية. على الفور، فتحت الباب، وعلى وقع دخول الصبيين، أخذ أسماع الجميع صوت آخر، منزلهم بات محاصرا!

شرف إخوان الوزير

عدد مهول من قوات القمع أحاط بيت فتحية في لحظات، لكن عائلتها اهتمت فقط بسلامة الصبيين. لم يكن هناك سبيل لإخراجهما من جهة أخرى، كان القرار أن يختبئا في الحمام. الأمر الوحيد الذي ظنت العائلة بأنه سيمنع اقتحام المرتزقة لمخبأهم، هو وجود امرأة فيه، على الفور أدخلوا فتحية وأخاها.

اقتحم المرتزقة منزل فتحية، انتشروا سريعا في كل أرجائه بحثا عن الصبية، ولم يجدوا أحد. ضربوا باب الحمام، أجابتهم فتحية، فأمروها بالخروج، تعذرت بأنها تستحم، مع ذلك قالو "إنهم لن يبارحوا الباب"!

كيف يمكن لامرأة أن تخرج أمام هؤلاء المغول لو كانت تستحم فعلا؟ لم يعد هذا هو السؤال. تأسفت فتحية وأخوها للصبيين، وسلم الجميع بالأمر، وحده الله يملك مصيرهم. لم تكد فتحية تفتح القفل، حتى اقتحم المكان "إخوان وزير الداخلية" بكل عنف، لا يهم أن تكون هناك امرأة في الداخل، ولا يهم أنها قالت إنها تستحم!
 خرجت فتحية بعباءتها، جرت سريعا إلى غرفة مجاورة، ولكن تحت سيل من السباب والشتائم البذيئة.

في تلك الليلة انتشرت أخبار عبر شبكات التواصل الاجتماعي تحدثت عن اعتقال عائلة بأكملها من منزلهم في البلاد القديم، لم يكن أحد ليصدق! لقد كانت تلك عائلة عبد علي هيات والد فتحية.

84 يوما في المعتقل..وحيدة

حضرت الشرطة النسائية لتعتقل كل نساء البيت، واعتقل كل الرجال. والد فتحية ووالدتها المسنين اعتقلا أيضا! استدعيت والدتها أكثر من مرة للنيابة العامة، كان ذلك لإذلالها فقط، فلم يحقق معها!

في مركز أمن الوسطى، حقق مع فتحية، كانت أسئلة الضابط تستفز فتحية، المرأة الأربعينية المتدينة، وتخدش حياءها عمدا "لماذا دخلت الحمام؟" ترد عليه "كان معي أخي، وكنا نحمي الصبية من وحشيتكم".

أفرج عن الجميع، وظل فتحية وأخوها رهن الاعتقال. بصوت هادئ منكسر، فتحت فتحية جراحها لمرآة البحرين. من رأى فتحية قبل السجن تعجب كثيرا مما صنعته في حالها 84 يوما من الظلم والتعذيب النفسي والإساءة. وجهها كان شاحبا وبدت هزيلة.

حين تستجيب يدا فتحية لانفعالها في الحديث، لا تنسى أن تمسك بكمي العباءة حتى لا يظهر من ذراعيها شيء "حبسوني في زنزانة لوحدي ولم يسمحوا لي بالنزول"، فتحية البسيطة الهادئة لم تعترض في البداية، التزمت سجادتها وقرآنها. بعد أيام، التقت صدفة بإحدى معتقلات تظاهرة مجمع "سيتي سنتر"‪[1] تفاجأت أنهن جميعا في الأسفل، في حين هي وحدها!

ساءت نفسية فتحية كثيرا، ولم تجد تفسيرا لهذا الاضطهاد. نزلت إلى الضابط، واحتجت بقوة "لا يمكن أن أبقى لوحدي" بعد يومين نقلت إلى زنزانة المعارضة النسوية. أسبوعان قضتهما فتحية في حضن الثورة من جديد، ألم المعتقلات، غطى على عذاباتها، وأعاد إليها السكينة.  تقول فتحية كانوا يمنعونهن حتى من أن يقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل. أخجل أن أقول ماذا كانوا يتلفظون عليهن في كل وقت!

انكسار فتحية

بعد تمام الأسبوعين، أفرج عن 6 من معتقلات "سيتي سنتر" وحكم على الأخريات بالسجن 6 أشهر، ليكون في القائمة 10 معتقلات سياسيات لا يزلن في سجون الاستبداد. نقلت المعتقلات إلى السجن المركزي، وعادت فتحية وحيدة، ولكن في حال أسوأ.

في 15 ديسمبر، اعتقلت زينب الخواجة ومعصومة السيد من دوار أبوصيبع في الحادثة الشهيرة التي صورت بالفيديو وتصدرت أخبار العالم يومها. في مركز أمن الوسطى، كانت زينب تعتقد بأنها ستلتقي معتقلات "سيتي سنتر"، دخلت هي ومعصومة زنزانة "البحرينيات"، دققوا النظر جيدا، كل الفتيات هناك أجنبيات، دخلوا منصدمين، ثم تفاجأوا!

بين زحام السجينات، كانت هناك امرأة تجلس في إحدى الزوايا البعيدة، تقرأ الدعاء على مصلاتها. "لم أعرف عن فتحية من قبل ولم أسمع عنها" فتحية أيضا انصدمت، كانت تعيد النظر إلى الوجوه وكأنها غير مصدقة "بحرينيات؟!"

8 أسابيع قضتها فتحية مع سجينات أجنبيات متهمات بتهم أخلاقية أو بتعاطي المخدرات أو غيرها من الجرائم. فجأة جاءت فتاتان بحرينيتان تجلسان إلى جوارها

 
على الأرض، كان في قلبها الكثير من الحديث والشكوى والألم، لم تعرف من أين تبدأ "تعبت تعبت كدت أموت وأنا لوحدي، لم يكن لدي شخص واحد أتكلم معه، كان المكان موحشا وصعبا جدا، كيف استطعت أن أبقى كل هذه المدة؟"

تقول الخواجة "تألمنا كثيرا لرؤيتها وحيدة ومنكسرة، وكنا فرحين كثيرا أننا التقينا بها" فجأة حضرت الشرطية وقالت لزينب ومعصومة أمام فتحية عمدا "أنتم مكانكم ليس هنا، بل في الأعلى!" لم ينفع جدال زينب مع الشرطية التي ادعت أن ذلك قرار من المسئولين.

بين حين وآخر، بحيلة أو برجاء، تكسر فتحية حظر التجول المفروض عليها في السجن، وتذهب لزينب ومعصومة، والعكس يحدث أيضا. كل السجينات يتنقلن بحرية عدا فتحية "كانوا ينظرون إلينا على أننا إرهابيات" تقول فتحية، كان ذلك هو الأمل والسلوى الوحيدة التي ستخرجها من سجنها النفسي القاتل.

والسجن أحب إلي

معصومة قالت لفتحية منذ اليوم الأول "من دونك نحن لن نخرج من السجن". في 21 ديسمبر، صدر أمر بالإفراج عن زينب الخواجة ومعصومة السيد، سريعا ذهبتا لحمل أغراضهما "كانت صورة أولادنا تملأ مخيلتنا" تقول زينب، تحين منهما التفاتة واستدراك وتتوقفان: ماذا عن فتحية؟

تطلب زينب ومعصومة لقاء الشرطية "هل فتحية معنا؟" ردت الشرطية "لا" ... كيف لا تكون فتحية معنا؟ قالت الشرطية "أنتم قضية وهي قضية أخرى؟" كان جواب زينب ومعصومة حاسما "لا... نحن الثلاثة نفس القضية، كلنا بريئات، وقضيتنا نحن الثلاثة سياسية، الفرق أنها عانت أكثر منا بكثير، 3 أشهر من السجن، ونحن 5 أيام فقط" كان رد الشرطية الوحيد "احملوا أغراضكم وانزلوا"

"قررنا أن لا نغادر، حضروا لنا عدة مرات وأمرونا بالنزول ونحن نرفض، جاءوا لنا بفتحية لكي تقنعنا بنفسها أن نخرج "اطلعوا، لا عليكم" ونحن رفضنا
 
وقررنا البقاء" تقول زينب

في الأخير، أنزلوهما للقاء أحد الضباط، تظن زينب أنه كان عقيدا، وكانت معهم فتحية، خاطب العقيد زينب "أنا أعرف أنك بريئة، وأن فتحية بريئة، أعرف أنكن جميعا بريئات، ولكن ماذ نفعل؟ ليس لدينا إلا الدعاء" مستغربة ردت عليه زينب "من أنت إذن؟ أ لست تمثل الحكومة هنا؟ كيف لا شيء في يديك؟ ما هي القضية التي لديكم على فتحية؟"

الضابط أقسم أنه لا يعلم، قال لزينب هي عليها محكمة، وكرر كلامه "ادعوا لها فقط"، قالت له زينب "الموضوع لا يحل بالدعاء فقط" بدأ الضابط يغير من لهجته ويحتد، وهدد بأن تزيد القضايا على فتحية إذا لم يخرجا، زينب قالت له سنعقد اجتماعا ونقرر.


عبد الهادي الخواجة..اتصال

بعد الاجتماع الذي دام 10 دقائق، توجهت فتحية لزنزاتها، وذهبت زينب ومعصومة للعقيد "قررنا أن نبقى"
"هل تتوقعين أن أباك سيرضى بهذه الحركات التي تقومين بها" يسأل العقيد زينب، فتجيب "بالطبع، لأنه هو الذي علمني ذلك" يرد عليها العقيد "أنا سأثبت لك بأن كلامك خطأ وأن رأي أبيك هو العكس" رفع العقيد الهاتف، واتصل "هلا عبد الهادي، كيف حالك، هل وضعوا لكم القنوات الرياضية التي طلبتها؟...ابنتك هنا، جننتنا، لا تريد أن تخرج...زينب تعالي كلمي أباك"

تقول زينب "كلمت أبي، سلمت عليه وسألت عنه، وعلى الفور سألني: هل فعلا ضربوكم، كيف حالكم، كيف حال الفتاة التي كانت معك؟ يقولون إنها ضربت! طمأنته عليها، وتحدثت له عن فتحية: فتحية المسكينة، تحت التعذيب النفسي هنا منذ 3 أشهر، حبسوها ظلما، إما وحيدة أو مع أجنبيات، نفسيتها منهارة، وحالتها سيئة جدا" كانت زينب تروي القصة لأبيها وجميع الشرطيات ينظرن إليها بدهشة.

سألها أبوها "كيف ستفيدونها أكثر إذا خرجتم أم إذا بقيتم؟" فأجابته زينب "بالطبع إذا بقينا" ...ابقوا إذن. تقول زينب "أغلقت الهاتف، ثم ذهبت وجلست إلى جانب معصومة، وقلت لها: يسلم عليك والدي ويقول لك: صمووود"

تحية الصمود

امتلأ العقيد بالغيظ والقهر "أنتم لا فائدة في الطيبة معكم، لماذا تحبون أن تتبهدلوا؟" جاء الشرطيات لإخراجهما بالقوة "ونحن محمولتان من الأرجل صرخت بأعلى صوتي: مع السلامة فتحية: صمووود" تقول زينب الخواجة.

سمعت فتحية تحية الصمود، تقول "لم أعرف هل أبكي أم أضحك، كنت فعلا أتمنى أن يفرج عنهما، ولكن خروجهما كان صعبا علي جدا بعد أن آنستا وحشتي ووحدتي" كانت زينب تريد أن تقول لفتحية بأنها ستظل قضيتها حتى بعد خروجها من السجن.

في حديثها مع الشرطة، اتهمتهم زينب بممارسة "التعذيب النفسي" ضد فتحية، واعتبرت ما فعلته مع زميلتها معصومة عملا دفاعيا ضد هذا الانتهاك، وليس مجرد موقف عابر. بعد خروجها مباشرة تبادر الخواجة بالمرحلة الثانية من نشاطها الدفاعي عن فتحية هيات.
 
صباح اليوم التالي، تكتب زينب في تويتر "كانت هذه الأيام القليلة الماضية صعبة، ولكن الشيء الوحيد الذي جعلني أنهار وأنكسر هو ترك السجينة السياسية فتحية...فتحية امرأة عظيمة، إنها رائعة جدا. لا أستطيع أن أصدق أنها كانت في السجن طوال هذه المدة، منسية منا جميعا" وتضيف "سأقول لكم المزيد عن فتحية وعن اعتقالنا غدا، لدي الكثير الذي أريد أن تشاركوني به جميعا"

بعد الموقف الصارم الذي أخذته زينب ومعصومة في السجن واشترك فيه عبد الهادي الخواجة من سجنه، وقبل أن تكمل زينب حديثها عن فتحية كما وعدت، تفرج السلطات بشكل مفاجئ عن فتحية هيات الخميس 22 ديسمبر.


"شهيدان بعمر الصبيين اللذين حمتهما فتحية"
 
رغم أنهما لم يكونا سائقي السيارة ولا يحملان رخصة سياقة أساسا، اتهم الشابان بمحاولة دهس الشرطة، واتهمت فتحية وأخوها بالتستر عليهما. أفرج عن أخي فتحية بعد حوالي الأسبوع، وأفرج عن الشابين كذلك.

فتحية، أطلق عليها لقب "طوعة ‪[2] البحرين" لأن مروءتها أبت أن تترك فتية في عمر الزهور يلاقون مصيرا كالذي لاقاه آخر الفتية الشهداء هاشم سعيد وقريناه الشهيدان علي بداح وعلي جواد، لكنها دفعت ثمن مروءتها غاليا.
 
فتحية، لسان حال كل هذا الشعب: سنبقى نظلل أبناءنا الثائرين من سطوة المستبد، وإن سبقتنا رصاصة الفاتكين، فسنرفع دماءهم للسماء، ثم سنمضي..إلى الحرية قاصدين
 
 

  1.  اضغط هنا
  2. ‬ نسبة إلى "طوعة" المرأة المعروفة في التراث الشيعي بأنها آوت مسلم بن عقيل في بيتها حين غدا طريدا في أزقة الكوفة

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus