مشاهدات الميدان، ما قبل خميس المجزرة

2012-01-02 - 6:19 م


مرآة البحرين: 
  •  الثلاثاء ١٥   فبراير ٢٠١١

طفلة صغيرة لا تتجاوز الخامسة، تجلس عند خيمة صغيرة فُرشت لحمايتها من البرد، تحمل لافتة مكتوب عليها "نحن أهل سلم". آخر يحمل علماً كبيراً للبحرين، يفوق طوله بكثير، تكاد لا تلحظه لولا أن ترى علماً يبدو كأنه يتحرك وحده. فتيات يلتففن حول مجموعة من الأوراق البيضاء الكبيرة، يكتبن عليها شعارات باسم الوطن. شباب يفترشون الأرض، بعد صباح طويل، يتناولون وجبة خفيفة، أسألهم: وماذا عن نظافة المكان. يقولون: الفضلات نلقيها في هذه الأكياس، لا تقلقي فالنظافة أولاً. ابتسم وأغادر. تلك بعض التفاصيل القريبة. لكن ما إن ترفع بصرك قليلاً، ستجد حولك ألوفاً، وقوفاً، يتحلقون حول شعارات وهتافات تصدح حول دوار اللؤلؤة. الدوار المركزي في العاصمة والذي صار يوصف الآن بميدان تحرير البحرين، أو ميدان اللؤلؤ.

الآن عصر ١٥ فبراير. المحتجون وصلوا قبل قليل إلى الدوار قادمين من مراسم دفن الشاب علي مشيمع. قُتل برصاص الأمن إثر خروجه في مسيرة احتجاج سلمية أمس. الصباح كان ملتهباً وغاضباً. السخط الشبابي على رجال الأمن بلغ أقصاه، انفجر بعد قتل شاب آخر هو فاضل المتروك في مسيرة تشييع الأول وتخلف جرحى. صار الأمر أكثر هيجاناً. الجميع يصر على "سلمية"، لكن الشعارات لم يكن ممكناً كبح جماح غضبها.

بعد عنف الأمن المتواصل من صباح ١٤ حتى صباح ١٥، انسحب رجال الأمن. تزامن ذلك مع خطاب الملك الذي أبدى أسفه على فقد الشابين وأمر بتشكيل لجنة تحقيق. الإنسحاب بدا مراجعة من قبل الحكومة لعنفها، أو محاولة لامتصاص الغضب الذي بلغا سقفاً عالياً جداً. تُرك للمحتجين أن يمارسوا شعاراتهم في دوار اللؤلؤة. كانت هادرة ومنفعلة. مكبرات الصوت لم تحضر الميدان بعد. جماعات كثيرة تتوزع المكان يهتف كل منها بغضب.

لا تبدو الشعارات أنها تعبر عن المطالب الأولية التي دعت إليها البيانات السابقة لـ١٤ فبراير. المطالبة "باصلاح النظام" تحولت بعد أحداث اليوم الأول إلى مطالبة "باسقاط النظام". هذا عن الهتافات المتفرقة. لكن ماذا عن البيانات التي تمثل المعتصمون؟ لا تزال الرؤية غير واضحة في ذلك الصخب.

لا شك أن الألوف التي افترشت دوار اللؤلؤة والمنطقة المحيطة، استلهمت من ثورة ميدان التحرير في مصر الكثير. سلمية الحركة هي الإلهام الاكبر. مع المساء كان ثمة تنظيم قد بدأ. مكبرات الصوت تحضر إلى الميدان. يتكشل مسرح يلتف حوله المعتصمون والمشاركون. تختفي التجمعات الصغيرة هنا وهناك، يتحول الجميع إلى مركز واحد حول نصب اللولؤة. يُعلن عن بدء تشكيل لجنان منظمة. يُدعى الجميع للمشاركة. تُنصب بعض الخيم. يُعد مسرح للخطابة. تُوظب شاشة بث مباشر. تُوفر بطانيات ووجبات طعام.

تبقى الشعارات بحاجة إلى أن تنفضّ عن ارتجالها المنفعل. أن تأتي بمقاس يسع التنوع والتعدد والاختلاف. أن تأتي محمولة على قلب وطن. ثمة من يعد (من فوق المنصة) بتوحيد الشعارات وتقنينها.

الوصول إلى الدوار يصير أكثر صعوبة. كذلك الخروج. شباب ينظمون حركة السيارات. يبدو الجميع وكأنه يتقبل الازدحام بروح مرحة. المكان يبدو أريحيا رغم سخونة الشعارات وانفلاتها. الوجوه تبدو أقل تجهماً وأكثر تبسماً. ربما شعور بأن شيء من الغضب أزاحه التعبير. ثمة ما يوحي بأن الناس هنا بدأت تتنفس. الأهم، أن لا رجال أمن يهددون الكلام. الطقس يلهم الأنفاس أن تستحضر قلب الوطن.

 

  • الأربعاء ١٦ فبراير ٢٠١١

يوم قبل المجزرة.. يصلي المعتصمون سنة وشيعة صلاة ظهر واحدة. صفاً واحداً لا صفين. اللؤلؤ يحمي ظهورهم وفي عيونهم فضاء وطن.

الشباب يعيدون طلاء نصب اللؤلؤة. بالأمس، كتبوا انفعالاتهم الهائجة بعد عودتهم من دفن   الشهيد الأول. كتبوا: الشعب يريد إسقاط النظام. كتبوا: الله خلق الإنسان ليعيش حراً. كتبوا وكتبوا.. لكنهم اليوم أكثر تعقلاً وأكثر هدوءاً. ها هم يعيدون النصب نحو البياض، بل يزيدونه نصوعاً لؤلؤياً..

تمر مسيرة مناوئة تهتف باسم النظام. تحمل أعلام البحرين. من طريق الدوار تحديداً تمر، حيث المعتصمين. إستفزازاً؟ ربما. هتافات تناقض الهتافات. تتعالى الأصوات. الشباب المعتصمون يتجهون نحو مناوئيهم: سلمية سلمية، يقولون. يمدون لهم شيئاً من الحلوى. يبتعد المناوؤن عن الطريق.

قبل المجزرة بساعات.. أرى خيمة تجلس عند بابها سيدة أجنبية. وحدها تجلس وسط كل هذه الحشود المجتمعة. ألتقط لها صورة. تبتسم. أسألها ما إذا كانت صحافية. تهز رأسها بالنفي: فقط أعيش هنا في البحرين. كيف ترين الحدث؟ أسألها. بانفعال سعيد تقول: رائع ما أرى، جميل هذا الحراك، الناس رائعين ولطفاء، أنا سعيدة بتواجدي هنا.

قبل المجزرة بساعات أيضاً.. ألتقط صورة لفتاة تحمل حاسوبها الشخصي وتستند إلى جذع شجرة. ترافق عائلتها التي تجلس في طمأنينية بسيطة. وقريباً منها، أرقب لجنة الاسعافات الأولية تعد نفسها. تنظم أدويتها وأدواتها وترتدي ما يشير إليها. تختصر لها مكاناً صغيراً، وخيمة. شباب وشابات بلباسهم الأبيض يجهزون لطارئ بسيط يأتي. هل كان أحدهم يتوقع لوهلة، أن الطارئ الذي سيأتي فجراً بعد ساعات قليلة، لن يحتمله مجمع طبي كامل (السلمانية)، وسيفزع له طاقم طبي كامل.

قبل المجزرة بساعات أيضاً.. بالكاد أستطيع الحركة داخل الدوار.أخيراً أصل المنصّة بعد جهد وزحام. كلما اقتربت من المنصة صار الزحام أشد والحركة أصعب. المنصة هي هدفي عصر ذلك اليوم. مكنني من   الوصول توقف الهتافات استعداداً للصلاة، وانفضاض الناس إلى حد ما عن المنصة. أطلب الإلتقاء بأحد المنظمين. يسألني أحدهم: أي صحيفة تمثلين. أجيب: صحافة حرة تمثل نفسها. يأتيني أحد الشباب. نأخذ طرفاً للحديث. أسأله في كثير من الأمور. أقف أكثر عند الشعارات التي تبدو منفلتة وغير مروضة. يخبرني أنهم يعملون على التقنين. يشرح لي عن صعوبة التحكم في انفعالات الغاضبين: "لأول مرة نعيش تجربة كهذه. العدد كبير. وصل بالأمس في ذروته إلى ما يقارب ٤٠ ألف. صعب أن نتحكم في كل الشعارات والهتافات الصادرة من كل هذا الجمع. نحتاج قليلاً من الوقت لنسيطر على الإنفعالات ونوجهها. نعد بذلك".

أسأله عن شعار " الشعب يريد إسقاط النظام" إلى أين تذهبون بهذا الشعار؟ يؤكد: "لا يتجاوز اسقاط الحكومة، نريد مملكة دستوية. هذا سقفنا المتفق عليه. الناس لبسها الشعار لفرط ما ثبّتته التجربة المصرية. نحن نعمل على توجيه الشعار وتعديله بما يتناسب مع مطالبنا. لا نحتاج سوى لقليل من الوقت".

لكن.. لم يدرك الصباح الشعار ليتوجه نحو التقنين، ولم يدرك الصباح الميدان ليغسل وجهه بالضوء، ولم يدرك النيام أن يوقظهم سلام الأذان، فقد كان الليل يخطط لاغتيال الفجر، ولم تستيقظ الصلاة..

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus