سترة عاصمة الثورة: مفي مفي... صمووود

2012-01-02 - 7:54 ص


مرآة البحرين(خاص):
قرابين مضرجة بالدماء .. شجعان لا يتعبون ولا يكلّون من مواجهة الموت .. كرامةٌ تتنفس في هواء تلك الجزيرة المسيجة ببحرٍ يتلاطم عزةً وشموخاً .. حتى أضحت أيقونة للثوّار .. فأسموها عاصمة الثورة.
 
تموضعت في السبق منذ الرابع عشر من فبراير “اليوم الأول”، حين تجمّع الآلاف في إحدى قراها السبع “الخارجية” هاتفين ومردّدين شعارات التحوّل الديمقراطي، في مظاهرة لم تشهد لها مثيلاً في مثل ذلك اليوم، ويظهر مقطع فيديو يوتيوبي صُور من أعلى، آلاف الرجال والنساء والشيوخ والأطفال محتشدين في شارع رئيسي في صورة ناصعة السلمية والتحضّر، سرعان ما تنقلب إلى سحب من الأدخنة المصحوبة بضوضاء طلقات الأعيرة النارية التي انهالت لتخرس تلك الأصوات.(1)

ولكن صوت سترة عصي على التطويع، في الخامس عشر من فبراير نصبوا خيامهم في دوّار لؤلؤة الحريّة، الدوّار الذي سيسميّه الثوّار بعد أيام بـ “ميدان الشهداء”، نسبةً إلى الشهداء الأربعة الذين سقطوا فيه دفاعاً عن كرامتهم وحريتهم وحقّهم في التظاهر السلمي، ثلاثة منهم كانوا من سترة.

ففي فجرٍ كئيبٍ أسماه البعض بـ “الخميس الدامي”، وبعد يومين من الاعتصام قلب “اللؤلؤة”، وبينما المرابطون من رجال ونساء وأطفال نائمون، باغتت قوّات المرتزقة أولئك الآمنين في خيامهم بالنار، وانهالت عليهم من الجسر المحاذي لنصب “اللؤلؤة” بطلقات مسيّل الدموع والمطّاط والقنابل الصوتية والرصاص الانشطاري، لتقدّم حينها “سترة “ ثلاثة قرابين، شيخ كبير، وشابان في عمر الزهور.

 
الحاج علي خضير
الحاج علي خضير (58 سنة)، البحار الذي عاش طوال حياته في فقر مدقع، كان نائماً في إحدى خيم الميدان، استيقظ مذعوراً من هول الطلقات والقنابل الصوتية، وخرج من خيمته ليبادره أحد المرتزقة بطلقة رصاص انشطاري “شوزن”، لم يتحمّل جسده ذلك الكمّ من الرصاصات التي اخترقت صدره وبطنه، ليسلّم روحه إلى سماء الحرية، وليكون بذلك الشهيد الأوّل في الميدان، تاركاً أربعة أبناء بلا معيل، فأكبر أبنائه “حسن” يبلغ من العمر 21 عاماً، وهو عاطل عن العمل، في حين تسكن العائلة في منزل آيل للسقوط. (2)


أبو تاكي

علي المؤمن
 
محمود أبوتاكي (23 سنة)، الشاب الهادئ، كان يركض من خيمة إلى خيمة، لمساعدة النساء والأطفال والشيوخ على الخروج وإنقاذهم من طلقات النار المتناثرة والمصوبّة نحو النائمين، إلاّ أنه لم يكمل مهمته، رصاص الشوزن مرّة أخرى اخترق جسده الطري والمفعم بالنشاط، فأحاله جثة هامدة.
لم يكن مسموحاً لأحدٍ أن تتحرّك حميته وغيرته وإنسانيته لينقذ ويساعد المروّعين والجرحى والمرميين على تراب ذلك الميدان .. بقي الكثيرون مضرجين بدمائهم وباختناقاتهم، فيما المرتزقة تضرب وتعيث الفساد والتخريب .. هنا استيقظ الشاب المهندس علي أحمد المؤمن(23 سنة)، والذي لم يبت ليلتها في الميدان، إلاّ أنه وجد نفسه بمعية العشرات من الشباب ممّن صمّموا على دخول الميدان لإنقاذ الجرحى، بعد أن كتب على صفحته في الفيس بوك “نفسي فدا وطني”، فكانت قولاً وفعلاً، إذ قدّم نفسه قرباناً ثالثاً من أجل الوطن.

شيّعت سترة المفجوعة أبطالها الثلاثة، وفي جنازة مهيبة لفهّا الحزن والغضب، وقف والد الشهيد “أبوتاكي” ليقول “هيهات منا الذلّة”، فردّ عليه أبو الشهيد “المؤمن” بالقول “سنواصل الطريق رغم ما جرى”.

وتواصل “سترة” شقّ طريقها نحو الكرامة، حضورٌ لافت في ميدان اللؤلؤة بعد أن استرجعه الثوّار بعزيمة وإصرار أبطال واجهوا رصاص الجيش، كان يتقدمهم الشهيد الأسطوري رضا بوحميد، شعارات الكرامة والعدالة والحرية والمساواة تصدح من حناجر الجميع، حتى جاء الرابع عشر من مارس، دخلت القوات السعودية تحت غطاء “قوات درع الجزيرة”، فكانت ضربة القمع الأولى في سترة.

 
أحمد فرحان
وفي الخامس عشر من مارس، كانت سترة على موعد مع هجوم بربري، هجوم استفرغ فيه مرتزقة النظام كل قيم اللاإنسانية والحقد والضغينة ضدّ الأبرياء والعزّل، فتساقط الجرحى واحدا تلو الآخر، في ملحمة قدّم فيها الستراويون أطهر وأسمى ما لديهم من صدق وإخلاص فيما رفعوه من شعارات التضحية والفداء من أجل الوطن، فسقط الشهيدان أحمد فرحان ذو الثلاثين عاماً “والذي فُضخ رأسه برصاصٍ حيّ(4)، وهو الشاب الذي تحدث   أخوه من منزلهم المتهالك في فيلم بثته قناة الـ ‪CNN‬ حول الفقر في البحرين في العام 2007، وكانت عائلة “فرحان” الستراوية إحدى نماذج الفقر المدقع التي عرضت في الفيلم (3)، أما الشهيد الآخر، فكان عيسى آل رضي ذو السبعة والأربعين عاماً، والذي لم تُسلّم جثته إلاّ في التاسع عشر من الشهر ذاته، كما سقط شهيدان من العمالة الآسيوية بالرصاص الحي، كانا يدافعان عن النساء هما ستيفي إبراهام ذو الجنسية الهندية، وأكلاس ميا ذو الجنسية البنغالية، عدا مئات الجرحى والمصابين الذين فاض بهم مركز سترة الصحّي، والذين تمّ اعتقال أغلبهم بعد أن سيطر الجيش على المركز.

لقد كان ذلك الهجوم قبل يوم واحد من الهجوم التاريخي الثاني الذي نفذته قوات الجيش البحريني ووزارة الداخلية والحرس الوطني على ميدان “اللؤلؤة”، تمهيداً لإحكام السيطرة عليه وإغلاقه (ما زال إلى اليوم مغلقاً ومحاصراً بالمدرعات وقوّات الحرس الوطني)، وقد كان الهجوم ضدّ عاصمة الثورة رسالة من النظام ببدء مرحلة جديدة من العنف الدموي ضدّ الثورة، ذلك العنف المراد له أن يسكت أصوات الحرية والكرامة.

هل تسكت سترة؟!! ... هيهات .. هيهات .. فقد كانت التكبيرات تصدح ليلياً من فوق أسطح منازلها تحدياً لحظر التجوّل الذي فرضه الجيش منذ اليوم الأوّل بعد فضّ اعتصام دوار اللؤلؤة في السادس عشر من مارس، وفي اليوم التاسع عشر صدحت حناجر ثوّار سترة في تشييع شهيدهم “آل رضي” بصرخات الرفض والغضب واللاتراجع، ولتبدأ المواجهة غير المتكافئة مع مرتزقة النظام، وهكذا دشّن الستراويون فعالياتهم اليومية الجديدة، مسيرات نسائية ورجالية تجوب أحياءهم وشوارعهم، تحمل الشموع .. وترفض الخنوع، وبالإضافة إلى الشهداء الخمسة الذين سقطوا أبان اعتصام الميدان، قدّموا 7 شهداء آخرين في مسيراتهم وفعالياتهم السلمية والتي تنتهي بطلقات مسيلات الدموع والرصاص المطاطي والانشطاري وغيرها.


من اليمين: سيدهاشم + علي الشيخ
 
واستمرّ الستراويون الأنشط والأكثر حضوراً في ميادين الاحتجاجات، وفي الفعاليات اليومية التي تفننوا في أدائها، بدءاً من احتفاليات الزفاف الرمزي للشهداء الشباب، ومسيرات الشموع الليلية، ومجالس العزاء، والمهرجانات المطعمة بأناشيد الثورة والحماس والرثاء والغضب، وفعاليات “تقرير المصير” الأسبوعية التي كانت تنظمها الحركات الشبابية، والفعاليات الأخرى المتواصلة دون كلل أو ملل، حتى في أيام الأعياد، ففي يوم عيد الفطر شهد صباحه مسيرة احتجاجية، انتهت باستشهاد الطفل علي الشيخ ذي الأربعة عشر ربيعاً، بعد أن أصيب بطلقة مسيّل دموع من موقع قريب في رقبته في الثاني من سبتمبر.

أما النظام، فاستمرّ ولا يزال في استهداف سترة، وفي الانتقام من سترة، والإصرار على إخضاع إباء وشموخ سترة، ولم يستثنِ في استهدافه لها طفلاً ولا شاباً ولا شيخاً، فالحاج الستيني حسن الستري، كان ذاهباً إلى صلاة الفجر في التاسع عشر من يونيو الماضي، حين اختطفته عصابة من مرتزقة النظام وشرعت بتصفيته ورميه في الشارع مضرجاً بدمه، في حين لقي الطفل محمد فرحان ذو الستة أعوام حتفه بعد استنشاقه كميات من الغازات الخانقة التي أطلقتها مرتزقة النظام على منزله.

ولكن ذلك الاستهداف والإمعان في الانتقام، ستواجهه سترة بمزيد من التحدّي والإصرار والعنفوان، وبمزيد من التضحيات والقرابين .. حتى أنها أبت أن تستقبل العام الجديد دون قربان جديد يشعل ضوءاً جديداً في طريق حريتها وكرامتها، ففي الساعات الأخيرة من العام 2011، سقط الشهيد سيدهاشم سعيد ذو الخمسة عشر ربيعاً، بينما كان يشارك قرب منزله بسترة في فعالية "اللحظة الحاسمة" التي دعا لها شباب الثورة، حين أصابته طلقة نارية في رقبته على يد مرتزقة النظام، ولتستقبل سترة أوّل يوم من 2012، بحمل شهيدها المغدور على الأكتاف، وبالتهليل والتكبير وصيحات الألم والغضب.

“عاصمة الثورة” تقف اليوم، أمام حصاد اثني عشر شهيداً، وآلاف الجرحى، ومئات المعتقلين، بعزيمة أكبر وأكبر، وبإرادة فولاذية، يشهد لها كل السياسيون الذين يزورونها يومياً لكي يغرفوا من معين الإصرار والحماس الستراوي، فكلمة “صمود” لا تفارق ألسن الستراويين في كل لحظة، بها يفتتحون صباحهم ليرسموا بها “الأمل والتفاؤل”، وبها يختتمون مساءهم ليتعاهدوا ويتواصوا على مواصلة المسير واللاتراجع، وقد كتب أحد قياديي جمعية الوفاق سيد هادي الموسوي (وهو من أكثر القيادات تواصلاً مع الجرحى والمعتقلين وعوائل الشهداء) في تويتره “أحلى كلمة تنسمع لما الستراوي يقول، مفي مفي صمووود”.




الهوامش:
  1.   الرابط الإلكتروني لمسيرة الرابع عشر من فبراير في سترة
     
  2. رابط قمع المسيرة
     
  3. نشرت صحيفة الوسط عن عائلة الشهيد علي خضير، الرابط الإلكتروني
     
  4. الرابط الإلكتروني لفيلم قناة الـ CNN حول الفقر في البحرين
     
  5. رابط فيديو إصابة الشهيد أحمد فرحان في الرأس

    رابط آخر

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus