من أيّام الغدر والدّماء

2012-01-05 - 12:57 م


مرآة البحرين(خاص):

الخميس الدامي.. 17 فبراير 2011

     كنت قد وصلت مع زوجي مع بدء الإطلاق. نزلنا من السياره نركض باتجاه الميدان،وكل منا في اتجاه، ودون وعي. في تلك الليلة كان الدوار ممتلئا بالعوائل والأطفال. كان الطلق بمسيلات الدموع يزداد ويصبح جنونيا. وسط  حالات الهلع والبكاء، كنت أسعى لالتقاط أي أحد. تم إخراج عدد كبير من الأطفال نحو أسواق المنتزه، قبل أن تنعدم الرؤية. رائحة الفزع أقوى من رائحة الغازات، وطعنة الغدر أمضى وأقسى من خنجر مشحوذ.

اصطدمت بشيء ما. تبين لي أنه طفل في حدود الخامسة  تقريبا. كان متخشبا من الخوف. لا يتحرك. حملته دون وعي من خلفه، ورحت أركض وأنا أضع البصل على فمه. لا يبدي أية استجابة. أركض.. وأركض.. ولا أدري! هل أركض في الاتجاه الصحيح، أم لا!؟ سقط. وتعثرت بالطفل. تمزّق جزء من عباءتي. أصطدم بالسيارات وأشياء أخرى. أنقذني والطفل، شبان كانوا خلفي. كنت على وشك السقوط، وكمية الغاز سيطرت عليّ كلية.

كنتُ خائفة على الطفل. دخلنا بيتا. "أنت بأمان يا حبيبي. لا تخف. تكلّمْ! قل أي شيء". نطقت دموعه من عينيه المتورّمتين. وكانت كافية لكي أطمئن! إمتلأت جمجمتي بأصوات صفارات الإسعاف والطلق، وفي داخل كلٍّ منا طوفان يتحرك. مرّ بعض الوقت. هدوء نسبي. أهل البيت يغامرون، ويخرجون لتوزيع الماء، وتقديم العون. أخذوني إلى مستشىفى السلمانية مع الطفل الذي لازال في الإعياء.

كان المكان في الطوارئ مليئا بالآلام والآهات. جلست على الأرض خائرة القوى. استهلكتُ من الأدرينالين في تلك الساعة ما لم أستخدمة في عقدين من عمري. أسندت رأسي للجدار. هل أقوم وأبحث عن زوجي أم إخواني؟! قمتُ أهرول بين أجنحة الطوارئ. أبحث عن أحباب قلبي والرعب على مصيرهم يبرز أمامي. لم أجد منهم أحداً!
ساعات مرّت حتى جاء الاتصال. زوجي بخير. إلا أنه مصاب، وهو الآن في إحدى البنايات بمنطقة القفول، ومعه مجموعة من الشباب. وأخوتي على الأرض في تلك الدوامه عند المدخل  لعلي أرى منهم أحدا ومرت ساعات ثقيله بين اتصالات أهلي وأهل زوجي للاطمئنان وكنت أخبر الجميع بأننا جميعا بخير على الرغم من عدم علمي بحال البقية، فزيادة عدد القلقين والمفزوعين لن تغير من الوضع شيئا بقيت هكذا حتى الساعة التاسعه صباحا اتصل زوجي وأخبرني أنه مصاب في إحدى البنايات بالقفول ومعه  مجموعه من الشباب. أما إخواني فاستقروا في بيوت الشرفاء.


يومُ سترة.. 16 مارس 2011
 
لم أبت تلك الليلة في الدوار. أصبت بالإعياء. مثل حال الجميع في هذا الوطن الذبيح. نوم متقطع، وقلق فاحش، وتوتر يفتك بملايين الخلايا العصبية.استيقظت على فاجعة نزول الجيش السعودي واستباحته لقريه سترة. "أمي، سأذهب إلى سترة، لا أحتمل الجلوس هنا، ولا حتى الذهاب إلى الدوار. أختي سأذهب معك". لبست روب الطبابة ومشينا. كان صعبا الدخول. حاولنا مع مختلف المداخل. بعد صلاه الظهر، تحرّكت مجموعه  كبيرة من القوات من أمام المدخل القريب من محل المفروشات.

دخلنا. الطريق ممتلئ بآثار الدمار، الطلقات على الأرض، والحواجز. ولا أثر للبشر.وصلنا قرب حاجز مغلق تماماً، وخلفة مجموعة من الشباب. بعضهم مكشوف الوجه، والبعض الآخر كان ملثما. نظراتهم مخيفة. تردّدنا في فتح النافذة والسؤال. عندما رأوا أختي بلباسها، أرشدونا مباشرة للمركز الصحي.

أوقفنا السيارة عند المدخل الخلفي للمركز، المخصص للمصابين والجرحى. سُمح لأختي فقط بدخول المركز بسبب شدّة الزحام بالمصابين. سألني رجل معروف في المنطقة إنْ كنتُ أجيد استخدام الحاسوب والتعامل مع شبكات التواصل الاجتماعي.

عند المدخل مباشرة، جُهّزت غرفة عمليات إعلامية مزوّدة بثلاثة أجهزة "لاب توب" وكاميرات ديجتال وغيرها. جلسنا. الأجهزه باتجاه الجدار، وخلفنا الممرّ الذي تتحرك فيه الأسرِّة المحمّلة بالمصابين، ويفصلنا عنه حاحز أبيض. سيارات الإسعاف لم تتوقف. أسمع الصراخ رفقة كلّ إنزال. لم تمر عليّ صور الشهيد أحمد فرحان. وصلتُ قبل وصوله. كنتُ أرتجف وأنا أقوم بتحميل الصور ومقاطع الفيديو، وأرسلها لحسابات وكالات الإعلام والجمعيات، وبينها الوفاق.

    فجأة، ومع وصول إحدى سيارات الإسعاف، ضجّ المكان كلّه بالصراخ والبكاء وبشكل هستيري. أسرعت نحو المدخل. رأيت أختي هناك أيضاً. كان الشهيد فرحان! لم أحتمل النظر! عدت إلى مكاني، وجلست على الأرض أرتجف. شعرت بالتقيؤ. بعد نصف ساعة، لُفّ الشهيد فرحان، وأخذ إلى مستشفى السلمانية.

دخلت مجموعة من النساء وهي تصرخ بأنّ هناك جرحى في منازلهم. دقائق قليلة، ويبدأ القصف مدويا حول المناطق المحيطة بالمركز. الطائرات على علوّ منخفض وهي ترمي برصاص الموت في كلّ اتجاه. حملنا الأجهزة، ودخل الجميع المركز.
 
     الجرحى في كلّ مكان. في الممرات والغرف وعند البوابات. الأطباء يعملون مثل الآلات. أهرول. أريد الاطمئنان على أختي. أريد احتضانها فقط. أنتقل بين الممرات فأرى الجرى في كل زاوية. هذا ملقى على وجهه وهم ينزعون من ظهره رصاصات الشوزن، وهذا ينتشلون فخذه الممزق من الرصاص الحي. الدم في كل زاوية. منْ لم يُصب، كان منهارا أو ملطخا بالدّماء.

قصفوا المركز! أصوات الطلق كانت فضيعة. في لحظة واحدة صرخ الجميع بالشهادتين.نكاد نوقن أن النهاية باتت على مشارف هذا المكان المفجوع. كلما أطلقوا انبطح الجميع على الأرض، أو استند إلى زاوية. رأيتهم بعيني أمام البوابه الرئيسية. قوات درع الجزيرة. كانت أسلحتهم موجّهة نحونا، ولا يفصلنا عنهم إلا الأبواب الزجاجية.

إننا هالكون لامحالة! الهوليكبتر تكاد تلامس سقف المركز. توقّف الطلق خمس دقائق، ولكننا مازلنا نراهم محيطين بالمركز. ومع كل هذا الضجيج والبكاء والهلع، أسمع صوت أختي تناديني. احتضنتني وهي تبكي. تبادلنا كلاما غير مفهوم. أجرينا الاتصالات بالأهل، والكل يبكي. أمي تتوسلنا أن نحتمي في أية زاوية آمنة. هم يشاهدون قناه العالم وهي تذيع خبر القصف المتكرر للمركز. ودعتنا أمي وهي تموت حسرة. يقصفون مجددا فنرمي بأنفسنا على الأرض.استمر الحال هكذا ما يقارب الساعة.
بدأ الظلام. طلبوا منا إطفاء كل الأنوار. جلسنا في الظلام على الأرض. كنّا منهكين، وصوت الرصاص بدأ يبتعد قليلا.

بعد مدة، سمعنا ان أحد أفراد درع الجزيرة دخل المركز، وأمر إخلاء المركز بسلام، وأنه لن يتعرض لأحد. خرجت أولى الدفعات نحو مناطق سترة، مهزة، سفالة، خارجية.. وبعد ذلك القاطنون في مناطق خارج سترة. كنا أنا واختي وطبيب آخر (ط) الوحيدين من المنطقة ذاتها، وهو زميل عمل أختي، وعلى معرفة سابقة ببعض. قررنا الذهاب إلى الدوار مباشرة.

خرجنا نحو الشارع. مازال مظلما، والهدوء كلّه سكون وخوف وأشباح. توجهت نحو سيارتي، والطبيب طلب أن يكون هو في المقدمة. فتحنا إضاءة "الدنجر"، واتجهنا نحو الشارع الرئيسي الذي يقع وسط خزانات الماء. كانوا منتشرين بين الزوايا، وفي مفترق الطرق. قرأت آية الكرسي عدّة مرات، حتى اقتربنا من نهاية الشارع حيث جحافل مدججة تتجه نحونا وكأنهم رأوا كنزا. أمطرونا برصاص الشوزن، وبالأخشاب. تهشم زجاج سيارة الطبيب. الاحتمال الأكبر أنه أصيب رغم أن سيارته مازالت تتحرك. أما نحن، فاستدرنا بسرعه جنونية، وركبنا فوق الأرصفة. مرّ علينا الرصاص في كل اتجاه، وتمزق السقف قليلا. قدت السيارة بسرعة، وأختي اختبأت في الأسفل، وتطلب مني أخفض رأسي!

سرنا بين الأزقه على غير هدى. لا أحد غيرنا في الشارع. لاحت سيارة. كان الخوف يمزقنا. "هيا يا أختي اخلعي الروب بسرعة، إذا علموا أنك طبيبة لن يرحمونا أبدا". كانوا أربعة شبان. رجوناهم أن يأخذونا إلى أحد المنازل. وصلنا إلى مكان ما. نزل الشاب، وهو يلوح لنا بسرعة الدخول إلى منزلهم. وسلّمنا إلى أمه. كان ابنها الوحيد. ولكنها لم تمانع خروجه في هذا الظرف الخطير. كان شابا شجاعا جدا. قضينا ثلاثة أيام عندهم، والقرية محاصرة. لم يجلس الشاب في بيتهم أكثر من ساعتين متواصلتين للنوم فقط.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus