ثورة اللؤلؤة: الشهادة المحرمة، عادل مرزوق

2012-01-06 - 8:34 ص




عادل مرزوق* - مرآة اللبحرين(خاص):  هذه شهادتي، وهي شهادة سياسية من صحافي لم يُعدَّ لقصته ما تحتاجه من أدوات وتحضير. في قلب الحدث وجد نفسه، ذاب في تفاصيل القصة من دون أن يدري. هي شهادة تلاحق أدق التفاصيل تارة، وتغوص في ما وراء الحدث تارة أخرى. شهادة لا تدعي الحياد. فالحياد  قبل كل شيء، "تقدير" يمنحه القارئ لما يقرأه، وليست إدعاء يصف به الكاتب ما خطته أنامله.

حين عرج رئيس تحرير الحياة اللندنية جهاد الخازن الى البحرين قبل إعلان حالة السلامة الوطنية في 15 مارس 2011 بأيام معدودات، كنت أحد المدعوين من جانب ديوان ولي العهد لحضور مأدبة عشاء وحلقة حوارية مع الخازن في مرفأ البحرين المالي وعلى مقربة من دوار اللؤلؤة، حيث كان المعتصمون يفترشون حلمهم الجميل بالحرية والكرامة.
 
كان اللقاء معداً بطريقة مقصودة لأكون الممثل الوحيد الذي ارتضاه مستشارو ديوان ولي العهد لتمثيل المعارضة قبالة الجوقة المتعددة من المدعوين والذين انشغلوا بتأكيد موقف الدولة وقراءتها للأحداث. شخصياً، لم يكن إقناع رئيس تحرير الصحيفة اللندنية جهاد الخازن بصدقية وعدالة ما يطلبه المعتصمون في دوار اللؤلؤة الشغل الشاغل بالنسبة لي، فلهذا الضيف موقف معروف بالنسبة لأنظمة الحكم في الخليج والعالم العربي عامة. ووجدت – ولعله من باب التقدير – أن أي محاولة لإقناع الخازن بما أراه وما أفهمه، أو بما يراه أو يأمل به المعتصمون على مقربة منا، مجرد مضيعة للوقت. يعلم الخازن تفاصيل المشكلة ولا يحتاج لأن يغرق في تفاصيلها.
 
وجهت للخازن سؤالاً عن تحليله وقراءته لبداية الربيع العربي في تونس بالتحديد، فالأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في تونس ورغم الديكتاتورية السياسية لم تكن كارثية كما هي الحال في بلدان عربية أخرى، مثل مصر، اليمن،  الأردن، ليبيا، أو سوريا. لكنه لم يجب، ولم أجد في قراءته لأحداث الربيع العربي تأويلاً دقيقاً، أو مقنعاً. ولا ألومه على ذلك، فإن أحداً لم يجب على هذا السؤال حتى اليوم.

قد يكون هذا السؤال الذي لم يجد إجابة شافية من رئيس إحدى أعرق الصحف العربية وأكثرها شهرة. هو السؤال المفتاح الذي أود أن ألج منه الى ما شهدته البحرين بدءاً من الرابع عشر من فبراير 2011 وحتى بدء كتابة هذه الشهادة. لم يتوقع أحد أن تنظم البحرين لهذا الربيع العربي، ولم يعرف أحد منا بمآل الأمور، وبما ستشهده هذه الجزيرة الصغيرة من حوادث.

كانت أصداء ثورة تونس مدوية، كانت أنغامها ومظاهر إنتصاراتها تشي لكل عربي في أن يفكر، أن يهتم، أن يحلم، وربما، أن يقدم على فعل شيء. لم تكن الثورة التونسية ثورة حدودية، بل تم تصديرها بأسرع مما كان البعض يعتقد أو يأمل، ها هي القاهرة وصنعاء وطرابلس ودمشق في سباق ماراثوني نحو الإطاحة بالحكام والولوج لعصر عربي جديد، يعالج أوجاع السنين، ويؤسس لعهد جديد مفعم بالحريات والديموقراطية والعدالة والنزاهة. وها هي البحرين في فبراير 2011 تتصدر نشرات الأخبار التي تتحدث عن ثورة اللؤلؤة.

جزيرة البراكين الهادئة
 
عبدالوهاب حسين يتقدم مظاهرات 14 فبراير في منطقة النويدرات
كان المشهد السياسي في البحرين قبيل انطلاق ربيع الثورات العربية هادئاً نسبياً. لم يكن ثمة ما يشي بأن هذا البلد الصغير النائم في قلب الخليج العربي موعود بالحديد والنار، وجثث القتلى في الشوارع والمظاهرات الكبرى والقطع العسكرية والمجنزرات التي ستجوب شوارعه وطرقاته لتدهس أحلام أبنائه وتطلعاتهم لغد أفضل.
على الأرض، احتفظت جمعية الوفاق الوطني الإسلامية -  كبرى الجمعيات السياسية المعارضة - في الإنتخابات النيابية التي شهدتها البحرين أكتوبر 2010 على مقاعدها الثمانية عشر، فيما تلقى تيارا الإخوان المسلمين (جمعية المنبر الإسلامي) والسلفي (جمعية الأصالة) ضربة موجعة من خلال خسارة هذين الفصيلين السياسيين المحسوبين على الدولة لبعض المقاعد النيابية لصالح المترشحين المستقلين، الذين أصبحو يمثلون الكتلة الثانية في تعدادها بعد جمعية الوفاق. لكن ذلك لم يمنع الدولة من إبقاء سيطرتها على المجلس النيابي بما مجموعه 22 نائباً.

وإلى جانب الإخفاق الذي تعرضت له جمعيتا المنبر الإسلامي والأصالة، لم تكن حظوظ الجمعيات السياسية في التيار الوطني وافرة لتتجاوز التحشيد الطائفي الذي رعته الدولة عبر اجهزتها الرسمية، بالإضافة الى التلاعب في نتائج الإنتخابات النيابية في الدوائر المختلطة التي كادت المعارضة أن تختطفها من يد الدولة. في السياق ذاته، شهدت الإنتخابات النيابية مقاطعة بعض التنظيمات السياسية في المعارضة، ومنها: حركة حق (يترأسها الناشط السياسي حسن مشيمع(، وتيار الوفاء الإسلامي (يتزعمه الناشط السياسي عبدالوهاب حسين).

خارج البحرين وفي العاصمة البريطانية لندن، كانت حركتي أحرار البحرين التي يقودها الدكتور سعيد الشهابي وحركة خلاص التي يقودها الناشط السياسي عبدالرؤوف الشايب، تواجهان الدولة بخطاب يعتمد على الإسقاط وعدم الشرعية. وهو موقف تبنته المعارصة في الخارج عقب ما أطلقت عليه قوى المعارضة الإنقلاب الدستوري في العام 2002. وذلك عقب التصويت على ميثاق العمل الوطني بإجماع وطني العام 2001، وهو ما كان يستلزم العودة لتفعيل دستور 1973 أو انتخاب لجنة تأسيسية لصياغة دستور جديد، إلا أن الديوان الملكي حينها فاجأ المعارضة بطرح دستور 2002، والتصديق عليه، والدعوة للإنتخابات النيابية أواخر العام 2002. وهو ما أعتبرته قوى المعارضة آنذاك إنقلاباً دستورياً.

وقبل الدخول للعام 2011، لابد من التوقف عند العام 2004، إذ يمثل هذا العام منعطفاً سياسياً وإجتماعياً بالغ الأهمية في لمشهد السياسي البحريني، وذلك عقب الفضيحة التي تعرضت لها الحكومة البحرينية فيما عرف بفضيحة "بندر غيت". وتتمثل هذه الفضيحة في تقرير استخباراتي قدمه المستشار السابق للحكومة البحرينية الدكتور صلاح البندر (بريطاني من أصل سوداني)(1)، يقود هذا المخطط وزير الديوان الملكي خالد بن أحمد آل خليفة ويشرف عليه إبن أخته المقرب للديوان الملكي أحمد بن عطية ال خليفة، ويهدف إلى تجنيس آلاف العرب والأجانب من الطائفة السنية لإحداث موازنة طائفية بين الطائفتين في البحرين، بالإضافة الى استهداف الناشطين الشيعة ورجال الدين وكافة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية والإعلامية من الطائفة الشيعية.

يصف المراقبون هذه الفضيحة المدوية بأنها كانت الخط الفاصل بين ما عرف بالمشروع الإصلاحي لملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة ودخول البلاد في منعطف المواجهة المباشرة مع المعارضة. إذ تبعت هذه الفضيحة عديد الأحداث التي زادت من مسارح الأزمة والمواجهات، خصوصاً وأن الدولة كانت تعمد إلى استخدام القوة الأمنية في مواجهة أي حركة سياسية للشارع المعارض في البحرين، وهو ما أدى لاحقاً لإعتقال عديد الناشطين السياسيين في تيار الممانعة، وتورط الأجهزة الأمنية في فضائح التعذيب للمعتقلين السياسيين، وإجراء المحاكمات القضائية التي كانت تفتقر للإجراءات القانونية، ودون أي حقوق للمتهمين في الدفاع عن أنفسهم، وهو ما أدانته الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان في أكثر من تقرير.

 
العائلة الحاكمة: الأذرع المتناحرة
 
أحد "بوسترات" الدعوة للتظاهر في البحرين
الصراعات بين أقطاب الأسرة الحاكمة كانت جزء من تعقيدات المشهد السياسي في البحرين، تطفو هذه الصراعات على السطح لتكون واقعاً معاشاً ومؤئراً مباشراً في تفاصيل الحراك السياسي البحريني تارة، وتتوارى عن الأنظار تارة أخرى. إلا انه كانت دائماً وأبداً، حقيقة يقرأ من خلالها السياسيون تفاصيل المشهد السياسي في البحرين، كانت السياسيون يقرأون بوضوح تفاصيل هذا الصراع في القرارات الحكومية، والتعيينات الوزارية ومجلس الشورى وباقي المؤسسات الحكومية، وبما يشمل توزيع الموازنة العامة للدولة.
 
وتتلخص الصراعات الدائرة في مؤسسة الحكم بين ثلاثة أذرع متنافرة. التيار الأقوى يترأسه: وزير الديوان الملكي خالد بن احمد آل خليفة فيما عرف بجناج (الخوالد) من الأسرة الخليفية الحاكمة، ويتحكم هذا التيار بالديوان الملكي ومالية الدولة والسلطة التشريعية والقضائية. ويرسم جميع السياسات والقرارات الصادرة من الديوان الملكي، فالملك كان قد سلم سلطاته فعلياً لربيبه ووزير ديوانه الوزير خالد بن أحمد آل خليفة، وهو ما جعل منه المتحكم الحقيقي بالتعيينات الوزارية وموازنة الدولة، وهو ما خلق خلافات عميقة لاحقاً بين رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة ووزير المالية أحمد بن محمد آل خليفة تحديداً، إذ كان الأخير يرفض اعتماد الميزانيات المالية لتنفيذ قرارات رئيس الوزراء، وهو ما تسبب في طرده من جلسة مجلس الوزراء الأسبوعية لمرتين على الأقل.

الذراع الثانية بطبيعة الحال كانت بيد رئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، وتمكن خالد بن أحمد فعلياً من تحجيم دور الشيخ خليفة الذي كان محط نقمة الملك منذ التسعينات، إذ لم يكن بمقدور الملك حمد بن عيسى آل خليفة الإطاحة بعمه أو استبداله من منصبه، لما يملكه الشيخ خليفة من تأثير ونفوذ داخل مجلس الأسرة الحاكمة، وكذلك على المستوى الخليجي، في الكويت والسعودية تحديداً، وهو تحدٍ لم يرغب الملك في اختباره منذ توليه مقاليد الحكم في البحرين.

الذراع الثالثة يمثلها ولي العهد نائب القائد الأعلى الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، واستطاعت هذه الذراع خلق حكومة جديدة في البلاد من خلال انشاء مجلس التنمية الإقتصادية ضمن رؤية البحرين الإقتصادية 2030 والإستراتيجية الوطنية 2009 – 2014، ويضم مجلس التنمية الإقتصادية في عضويته جميع الوزراء، واستطاع ولي العهد ان يضمن لهذا المجلس صلاحيات مفتوحة تضاهي رئاسة الوزراء، وعمد الى إنشاء العديد من المؤسسات والهيئات والشركات شبه المستقلة عن الحكومة، منها: تمكين، ممتلكات، هيئة تنظيم سوق العمل، بوليتكنك البحرين. وكان خالد بن أحمد تحديداً من يدير التوازن بين الذراعين الفاعلتين على الأرض بين ذراع رئيس الوزراء وذراع ولي العهد عبر تحكمه المباشر بمالية الدولة والسلطة التشريعية.

تمادى الصراع بين خالد بن احمد وخليفة بن سلمان وسلمان بن حمد وتناولته الصحافة البحرينية في الكثير من المواقف، منها الخلاف الذي دار بين ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ونجل رئيس الوزراء الشيخ علي بن خليفة آل خليفة، وهو ما انتهى بخطاب ملكي استثنائي وشديد اللهجة للحكومة ورئاستها ملوحاً بإقالة جميع من لا يبدي التعاون المطلوب من ولي عهده. وكذلك عقب تقرير البندر، إذ عمد رئيس الوزراء إلى تجييش المعارضة وتوجيهها ضد الملك من خلال مستشاريه بدعوى أن الملك هو المسؤول عن التجنيس السياسي، ولم يقتصر تحريض رئيس الوزراء على الملك من خلال مستشاريه، بل عمد إلى الإلتقاء فعلياً ببعض اقطاب المعارضة والتحريض على الملك، وكذلك عمد رئيس الوزراء الى التحريض ضد الملك من خلال بعض الصحفيين والإعلاميين المحسوبين على ديوانه.

14 فبراير: علي مشيمع يفتح شريط الثورة
 
صورة توضح توزيع واماكن التظاهر يوم 14 فبراير

حتى يناير العام 2011، كانت بعض القرى تشهد صدامات محدودة مع قوات الأمن البحرينية. هذه الصدامات أصبحت في المجمل العام جزءً من المشهد السياسي اليومي في البحرين، وتركزت مطالب الإحتجاجات والمتظاهرين على المطالبة بـالإفراج عن الرموز السياسية في حركة حق الفصيل السياسي المنشق عن جمعية الوفاق الوطني الإسلامية بالإضافة لبعض رجال الدين والسياسيين المعتقلين في قضية الحجيرة وبعض القضايا الأمنية التي كانت الدولة تحبك مسرحياتها كلما أرادت النيل من الرموز السياسية في الأجنحة المتشددة من المعارضة وإيداعهم السجن.

كان الخبر الأبرز في صحافة البحرين يوم الأحد 13 فبراير هي التفاصيل الصادرة عن مجلس الوزراء حول المكرمة الملكية التي أعلن الديوان الملكي فيها عن توزيع 1000 دينار بحريني (2.666 $) لكل أسرة بحرينية بمناسبة الذكرى العاشرة لميثاق العمل الوطني إلى جانب منح أخرى. وكذلك الإعلان عن مشاريع خدماتية بمختلف المناطق(2). وهو ما إعتبره المراقبون الرد الرسمي للدولة على بعض دعوات التظاهر التي أطلقها ناشطون سياسيون من الشباب البحريني على المواقع الإلكترونية، خصوصاً على ملتقى البحرين (بحرين أونلاين)(3)، وشبكتي التواصل الإجتماعي: الفايس بوك وتويتر. وهو ما أشارت له وكالات الأنباء وتلاقفته وسائل الإعلام الدولية بجدية، ومنها الجزيرة نت(4). ولم تكن البحرين وحدها من شهدت خروج مثل هذه الدعوات الإلكترونية للتظاهر، بل عُمان والسعودية أيضاً.

وتباينت المطالب التي خرجت بها الدعوات الى التظاهر والإحتجاج بين التداول السلمي للسلطة في السلطة التنفيذية واطلاق المعتقلين السياسيين في السجون البحرينية، واسقاط الحكومة ورئيس الوزراء الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، والمطالبة بإصلاحات سياسية جذرية، وصولاً الى المطالبة بإسقاط دستور 2002 والدعوة لمجلس تأسيسي لصياغة دستور عقدي جديد للبلاد يجسد نظام يعتمد الملكية الدستورية، وكانت العديد من الملفات السياسية والخدمية المعيشية حاضرة في دعوات التظاهر والإحتجاج: منها ملف التمييز الطائفي في وزارات ومؤسسات الدولة والملف الإسكاني والخدمات الطبية والتعليمية وغيرها من الملفات.
 
لم تتبن الجمعيات السياسية وفي مقدمتها جمعية الوفاق دعوة التظاهر في 14 فبراير رسمياً، لكنها أيضاً، منحتها ما يشبه الغطاء السياسي الغير مباشر. وفي خطبة يوم الجمعة الموافق 11 فبراير 2011 للأمين العام لجمعية الوفاق الشيخ علي سلمان، أكد سلمان في رده على التساؤلات حول دعوات التظاهر المنتشرة بالقول: "ترى الوفاق وعدد من الجهات والجمعيات السياسية أن حق التظاهر للأفراد والجماعات هو أمر مكفول عالمياً ومحلياً. وترى الوفاق والجمعيات على أن يُمارس هذا الحق بطريقة سلمية وأن يُحافظ على الممتلكات العامة والخاصة في كل مراحل المطالبة (...) وترى الوفاق وهذه الجمعيات التي تشاورنا معها عدم جواز منع الناس من هذا الحق في 14 فبراير أو في غيره من التواريخ، وعدم جواز استخدام القوة ضد هؤلاء الناس المطالبين بحقوقهم التي يجب ان تكون مشروعة، وأعتقد بأن هذا الموقف هو موقف الإنسانية اليوم جميعها"(5).

لم تأخذ السلطة هذه الدعوات بجدية، وكذلك الإعلام والجمعيات السياسية في المعارضة أيضاً. إكتفت الدولة بالمنحة المالية لكل أسرة والإعلان عن بعض المشروعات الخدمية، ورمت الجمعيات السياسية برجل واحدة مع شباب 14 فبراير وأبقت الأخرى معلقة في الخارج. هذه الأيام فقط، وأنا أتصفح أرشيف الأحداث والصفحات الإلكترونية لشباب 14 فبراير، أطالع الدعوات وإرشادات التظاهر في جميع المدن والقرى البحرينية، أجدها دعوات عالية التنظيم، دقيقة التوقيت. تبدو عملاً منظماً لشباب يعي ما يفعل، ويدرك ما يريد بدقة ووضوح. لعلي مدين لهؤلاء الشباب بإعتذار صحافي لم يثق بقدرات وعزيمة وشجاعة شباب وطنه حين شاهد هذه الدعوات أول مرة.
 
صباح الثورة الكبير
البحرين صباح الرابع عشر من فبراير، طقس بارد في هذه الجزيرة التي لا تتنفس الهواء البارد الا في ثلاثة أشهر كل عام. المتظاهرون في 25 مدينة وقرية يسيرون في الشوارع والطرقات بعزيمة وشجاعة، الهدف هو الوصول الى ميدان اللؤلؤة وسط العاصمة المنامة. كان اللافت في المظاهرات والإحتجاجات هو توسع رقعتها الجغرافية في جميع مناطق البحرين، بالإضافة الى خلوها من أي مظهر من مظاهر العنف التي كانت سائدة في التظاهرات خلال الأشهر الماضية.
 
 
بوستر ارشادات للمتظاهرين في يوم الغضب 14 فبراير
كان لعنصر المباغتة في خروج التظاهرات منذ ساعات الصباح الأولى أثره، توقعت قوات الأمن محدودية المظاهرات أولاً، وإنطلاقها وقت الظهيرة ثانياً. كانت أول المظاهرات خروجاً مع ساعات الصباح الأولى في منطقة النويدرات، إذ اتجه المتظاهرون إلى الشارع العام يتقدمهم الأمين العام لتيار الوفاء الإسلامي عبدالوهاب حسين. هاجمت قوات مكافحة الشغب المسيرة بعنف، تبعتها المسيرة الأكبر في منطقة سترة (100 متظاهر)، ثم المنامة، البلاد القديم، السنابس، جدحفص، الديه، المعامير، النبيه صالح، كرزكان، مدينة حمد، بوري، عالي، الدراز، سار، المقشع، باربار، دمستان، كرانة، بني جمرة، أبوصيبع، النعيم، السهلة، الدير، وسماهيج.

ولم تستطع قوات مكافحة الشغب أن تغطي المناطق كلها، وحسمت وزارة الداخلية قرارها في التعامل مع هذه التظاهرات في شتى المناطق، العنف والرصاص.
لم تغب شمس هذا الرابع عشر من فبراير إلا وعلي عبدالهادي مشيمع - 21 عاماً -  قد افتتح في منطقة الديه (قرب العاصمة) سجل الضحايا في ثورة اللؤلؤة بعد تعرضه لرصاص انشطاري (شوزن) في ظهره أدى لإصابات بالغة في كل من قلبه ورئته، كما أصيب أكثر من 30 متظاهراً بإصابات متفاوتة أدخل على اثرها البعض منهم الى مجمع السلمانية الطبي لتلقي العلاج(6). عقب اعلان حالة الوفاة توجه حشد كبير من الأهالي والمتظاهرين الى مجمع السلمانية الطبي لمعاينة ما يحدث(7)، خصوصاً مع تعطل خدمة الإنترنت مع ساعات الصباح الأولى في البحرين، كان مجمع السلمانية الطبي مقر الإحتجاج على الإستخدام المفرط للقوة من جانب قوات مكافحة الشغب. وبالفعل تسلمت عائلة المشميع جثمان علي مشيمع في ساعة متأخرة من اليوم، وأعلن عن تشييعه صباح الخامس عشر من فبراير.

عقب سقوط مشيمع والأحداث المتسارعة، استدعى الديوان الملكي ووزير الداخلية راشد بن عبدالله آل خليفة لإجتماع عاجل بالملك حمد بن عيسى ووزير ديوانه خالد بن أحمد، تمخض الإجتماع بإعلان بثته وكالة انباء البحرين في ساعة متأخرة من الليل بإسم وزير الداخلية يعلن "التحقيق في قضية وفاة علي عبدالهادي مشيمع للتعرف على ظروف وملابسات الواقعة والأسباب التي أدت إلى استخدام السلاح". مؤكداً أنه "إذا دلت التحقيقات على عدم وجود المبرر القانوني لاستخدام السلاح فإنه سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة حيال المتسبب وإحالته إلى المحكمة الجنائية".

من جانبها، حمَّلت جمعية الوفاق - في بيان شديد اللهجة – "السلطة في البحرين المسؤولية الكاملة عن استشهاد الشاب علي عبدالهادي المشيمع (21 عاماً)، نتيجة إصابة مباشرة في رأسه وظهره وأنحاء من جسمه برصاص انشطاري (شوزن) المحرم دولياً. منددة بـ "استخدام العنف المفرط من قبل قوات الأمن ضد الشباب والنساء والأطفال الذين خرجوا اليوم الاثنين 14 فبراير 2011 لممارسة حقهم المشروع في التعبير عن رأيهم بكل عفوية وبشكل سلمي وحضاري للمطالبة بالإصلاحات السياسية في البلاد.

وأشارت الوفاق في بيانها نهاية اليوم إلى أسماء المصابين ومنهم: "محمد يوسف حسن الذي أصيب في الجمجمة بطلق مطاطي وتسبب كذلك بتلف في عينه اليمنى وحالته حرجة في مستشفى السلمانية، والمواطن محمود عبدالله راشد الذي أصيب في عينه اليسرى بسبب طلقة مطاطية، إضافة إلى حسين علي حسن دهيم الذي أصيب في رأسه بإصابة بليغة، وكذلك الحاج حسن خليفة حسن الذي أصيب أثناء دخوله منزله بالدير بطلق شوزن في أنفه وهو في الستينات من العمر.
 
المئات قضوا ليلة الرابع عشر من فبراير في الساحة المقابلة لمجمع السلمانية الطبي، وبدأت الرسائل الإلكترونية تزداد تحشيداً لتشييع علي مشيمع في صباح اليوم التالي. وبدأت القنوات الفضائية الدولية تراقب الأوضاع عن البحرين بإهتمام. الجميع توقع أن الغد لن يكون كلاسيكياً، وهو ما حدث بالفعل.

* الحلقة الأولى من شهادة الزميل عادل مزوق على الثورة البحرينية.



هوامش

  1. تم اعتقال الدكتور صلاح البندر وترحيله للمملكة المتحدة ومصادرة ما لديه من اجهزة ومستندات، وكنت شخصياً أحد الصحافيين الذي تم تسريب هذا الملف لهم من جانب الدكتور صلاح البندر
     
  2. الوسط/ العدد  3082/ الأحد 13 فبراير 2011
     
  3. يمثل منتدى البحرين (بحرين اولانلاين) أحد أبرز المواقع الإخبارية في البحرين للمعارضة، ويحسب الموقع على الجناح المتشدد في المعارضة.
     
  4. الجزيرة نت: دعوات لتسيير تظاهرات في البحرين
     
  5. ملف صوتي للإستماع
     
  6. الوسط - العدد 3084 | الثلثاء 15 فبراير 2011م
     
  7.   جانب من التجمع عند بوابة مجمع السلمانية الطبي بعد اعلان وفاة علي مشيمع 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus