يقظة الصورة..حكاية ثورة لا يطمرها الخوف

2012-01-12 - 9:48 ص


كسر عدسة إحدى المصورات

مرآة البحرين(خاص): كاميرا الثورة في البحرين كانت الرقيب الذي لا ينام في فصول الأحداث التي تلت حراك الرابع عشر من فبراير، كانت أمضى من كل البيانات التي سعت إلى تزوير الحقيقة منذ الولادة البكر لأول شهيد هوى تحت ارتعادة رصاص الأمن، رصاص لا يعكس إلا خيار الخوف الذي مالت إليه السلطة،   فكان يرتد إليها في كل مرة على صورة إصرار متزايد لمواجهة آلة القهر والقمع..كلما سلبوا من الناس روحاً أحالوها شموعاً لا تنطفئ لمواصلة الطريق باتجاه صناعة التغيير.
 
لم تكن السلطة لتطمئن للصورة مطلقاً، لأن حبل الكذب معها يصبح أقصر مما ينبغي، تذبل كل الروايات الرسمية كلما ارتفعت للنت صور جديدة محمولة بغضب الناس، فشباك الصورة المفتوح على يوميات الاحتجاج كان سبباً في دفع العالم لمزيد من التحديق في هذه الثورة رغم ما تدفع إليه الحسابات السياسية في المنطقة من أفعال التعتيم والتعمية، كانت بمثابة سؤال أخلاقي ضاغط على مراكز القوى، والمؤسسات الدولية، التي انطقتها الصورة في أكثر من محطة، وجعلت من السلطة في البحرين تنشغل بترتيب سلم الأصدقاء في العالم بين وقت وآخر، لأن النقد   الذي جلبته   الصورة كانت أوفر حضوراً وأكثر تأثيراً.
 
 
صورة حسن جمالي من وكالة اسوشيتد ابريس
ساهم مصوروا وكالات الأنباء الدولية كثيراً في إيجاد سند للأحداث خارج المرويات الرسمية خلال الفصل الأول من الأحداث، فيما استمر البحرينيون من الهواة والمحترفين في مراقبة كل الفصول اللاحقة، يرفعون الستر والغطاء عن كل الحماقات التي مارستها السلطة ضد المحتجين، تتساقط صورهم كالمطر بعد كل حدث طمعاً في أن يوقظوا ضميراً عالمياً كلما صحا أوشك أن ينام..عرفنا صور التحدي والوجع والتفجع في تغطيات جون مورو من وكالة ‪Getty Images‬   خلال مروره القصيره بهذا البلد، وشاهدنا عنفوان الثورة في لحظات الدوار بعدسات محمد أزاكير وحمد محمد وكارين فيروز وجيمس دوغا من وكالة رويترز، وتعايش العالم مع صور المسيرات والمظاهرات وجوالات الغاز السام مع حسن جمالي من وكالة أسوشيتد ابريس، فيما كان المصورون الهواة في المقابل شركاء في الألم، وفي حراسة أحلام الناس، لا يرقبون مفاتيح الكاميرا بقدر ما يراقبون ساحات المواجهة، فهم حاضرون في كل موعد، وعند أقرب نقطة من الحقيقة.
 
قدمت الثورة للبحرين جيلاً جديداً من المصورين الذين انصرفت همتهم لإيجاد صور تنتج موقفاً، تحرض على ممارسة فعل وليس مجرد الإمتاع، صور قوامها الشجاعة والقرب من الحدث، فهي لا تتأنق كثيراً ولا تبالغ إلا في وصف الحقيقة، لأن جمالها الاستثنائي يرتهن إلى قدرتها في محاربة النسيان، نسيان الضحايا، ونسيان الانتهاكات، وقدرتها على تطويق هذه المعاناة اليومية وجعلها شهادة إدانة دائمة لمن تركوا ضمائرهم خلف جيوبهم.
 
كانت فسحة التكنولوجيا أرحب من كل قيود السلطة التي سعت إلى تقييد الممارسة الاعلامية خلال الأحداث، ففضاء التواصل الإجتماعي عبر الشبكة سرق من السلطة كل أمل بالقدرة على احتكار إنتاج المعلومة، فكانت الصورة بيان الناس الأول الذي يعانق هذا الفضاء المفتوح، يروي معاناتهم دون الحاجة إلى لغة، ففي إدراكها لن نحتاج إلا إلى عين ترى وضمير حي..كانت الصورة تمشي مسافات عبر تويتر والفيس بوك واليوتيوب، تمر من فوق كل نقاط التفتيش التي ضيقت الخناق على الناس في الأرض، دون أن تنال من عزيمتهم في تعرية النظام أمام العالم..جمع الناس حماقات السلطة في جوالاتهم لتصبح بعدها البومات معروضة لكل العابرين في الفضاءات الافتراضية، يقلبونها بأعينهم، ويتفحصونها بقلوبهم، الأمر الذي أكسب الثورة تعاطفاً دولياً على مدى الأشهر المنصرمة من هذا العام.
 
لم تشأ السلطة أن تغمض عينها طويلاً عن الناشطين في تصوير الأحداث، فقد سعت مبكراً لجعلهم شركاء في العذاب، في السجون، وفي المداهمات التي طالت كل ما له صلة بالاحتجاجات، ولأن الصورة المتهم الأول بالتحريض، عمدت   السلطة إلى محاصرتها بكل السبل، وعمد مطبلوها من كتاب الأعمدة والتقارير إلى جعل أبطال الصورة "خونة" و "متآمرين"، حتى المتنورين منهم، سيقلبون المعادلة بذكاء ناقص، ليجعلوا من مشهد الألم الذي مر من هناك، مجرد لقطة معدة سلفاً، لكاميرا لا ترى أبعد من فتحة النوايا التي تريد القضاء على مكتسبات الوطن!.
 
كان شهر مايو الأثقل على ذاكرة المصورين في هذا البلد، ففيه كتب العديد من المصورين ذكريات دخولهم إلى السجن والتوقيف، محمد الشيخ وسعيد الضاحي وعلي الكوفي وحسن النشيط وحسن معتوق، وهذا الأخير صدر بحقه حكم بالسجن لثلاث سنوات على خلفية تصويره للاحتجاجات، صادرت الدولة حريات هذه المجموعة وآخرين من الناشطين، كما صادرت الكثير من معداتهم باهضة الثمن، ما يؤكد على أن السلطة قد ضاقت ذرعاً بهذه الصور التي وسعت من حجم الهزيمة السياسية للحل الأمني الذي ركنت اليه، كما باعدت بينها وبين وسائل الإعلام الدولية التي باتت لا تكترث بالرواية الرسمية، بل وتتهكم على طريقة السلطة في نفي الحقائق التي تدعمها وتؤكدها الصور.
 
اليوم ونحن نكمل الطريق باتجاه سنة جديدة، لا يبدو أن السلطة قد تعلمت من خساراتها في هذه المعركة، ولا يبدو أن الشارع سيخفف حصار الصورة عنها، فالضوء وحده كافٍ لتعرية كل الوعود الكاذبة، وكل النوايا التي جعلت من هذا الوطن سجناً كبيراً، وغرفة تحقيق للنيل من كرامة المواطنين، قبضات من هذا الضوء العابر كانت قادرة على كشف المهلهل من بناء هذه الحكومة التي تصارع من أجل الحفاظ على مكتسبات حقبة الديكتاتورية، لتبقى الصورة الثابتة والسائلة على السواء تطارد تاريخ هذه الكراسي البالية، وتذكر العالم بأن صرح الديمقراطية الذي يتحدثون عنه في إعلامهم الرسمي لا يجد له سنداً بصرياً يعينه ساعة يحاول مغازلة الإعلام الخارجي.
 
والمحصلة أن الحضور الكثيف للصورة في أحداث الثورة وهب الناس سلطة على انتاج المعلومة وتداولها خارج معادلات الإعلام الرسمي، ورسم ملامح تجربة جديدة في مسار التصوير الوثائقي بالبحرين، حيث التصوير الحقوقي حقل يزدهر بمكابدات المصورين واصرارهم على مقاربة العنف الذي تمارسه السلطة بشكل يومي، لتكون بذلك الصورة جزءاً أصيلاً في معادلة النضال الحقوقي الذي لم يعد من اختصاص النخبة، بل بات ميدان كل الناس في هذا البلد الصغير.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus