» رأي
راية بحرينية
ابتسام صالح - 2012-01-12 - 11:17 ص
منذ اندلاع الثورة في 14 فبراير 2011 ، أول ما برز لعيني، أو للعيان ربما هو الراية البحرينية، علم البحرين. أحمر الحرية يشتبك مع بياض السلام، لا يمكن فكهم بسهولة، حتى لو تمزق العلم إربا إربا. في الأيام الأولى للثورة حين تركت شرطة الشغب متعمدة سيارتهم خالية، في منطقة الديه أو سنابس، معتقدين أن تجربة عنف التسعينيات سوف تتكرر ثانية، وأن نيران الثوار سوف تأتي على السيارة كي تدينهم فيما بعد. لكن الشباب أفسدوا خطتهم، كانوا أوعى منهم .. ماذا فعلوا؟ غطوها بوشاح علم البحرين.
هذه الراية كانت بالنسبة لي هي علم ينصب على أبنية المؤسسات الرسمية والوزارات، علم يصخب في المراسيم الملكية، يكثر في الشوارع والطرقات، حين يزور البلاد أمير قريب أو حاكم بعيد، أو كما نعهده في الأعياد الوطنية. لم أشعر يوما بهذه الراية وبأنها تمثل وطني أو وطنيتي .. ربما الرياضيون هم أكثر من يشعرون بها، حين ترتفع خفاقة بنصرهم ومباركة كأس الفوز. فيما عدا ذلك هي لا تمثل إلا علم البلاد فقط.. لكن وحدهم الثوار من جعلوني أحبها وأعشقها .. وحدهم الفبرايريون (كما يحلو للديري تسميتهم) من أبدعوا في ذلك، حين أسقونا محبتها، فجعلوها ثيمة الثورة، تجلى خيالهم الرائع بحضورها اللافت في ميدان اللؤلؤة، كما في مواقع التواصل الاجتماعي، وميادين الفيسبوك، حيث تدخل في تصاميم شعاراتهم.. فهي الأول والأساس، وهي العَلم والمعْـلم .. ترفرفها نسائم الحرية في الأناشيد الوطنية الثورية، والأناشيد مقرونة دائما بالأحمرين .. أحمر الحرية وأحمر الشهادة .. بهذا الشعار تمضي الثورة : شيمتهم الإبادة، وشيمتنا الشهادة. أو كما يهتفون: (يا ميدان الشهادة، عندنا عندنا إرادة).
كلما جاء خبر الشاشة عن احتجاجات البحرين لاح العلم فاقعا بأحمره، أبيضا بسمليته. حاضرا ووافرا دائما، أكثر حضورا من الرايات الأخرى في بلدان الربيع العربي. في المسيرات الطويلة التي طوت شوارع الهاي وي كان يبدأ كثيرا وينتهي كثيفا كالعادة .. على مد البصر ليس لعينيك إلا الأحمر والأبيض، وإذا كان هناك شيئا آخر فهي الورود بشتى ألوانها.
كنا نراه في كل محفل فبرايري، يُزَمِّل أجساد الشهداء .. يزين نعوشهم ويجاور المصحف الكريم، ينتصب واقفا على شواهد قبورهم. يتدثر الناس به. يستأنسون بقماشته، بصوره، يتفنون في صنع أشكاله .. بعد الخميس الأسود،17فبراير، اشتهرت صورة العلم مع طفرات الدم، على شاشات الهاتف الجوال وهاتفي أيضا. بارزا مقداما في واجهة التظاهرات، وفي الخلف يعانق الأعناق وينسدل على الظهور .. لا تخطئه العين، لأنها تحب أن تراه، على المعاطف والثياب في شكل بروشات جميلة، مطهمة بحروف ( لا سني لا شيعي .. بس بحريني).. كلما وجهت وجهك شطر الثورة كان العلم عنوانا.
في المشهد الشهير لسقوط الشهيد عبدالرضا بوحميد في 18 فبراير، الذي شاهده الناس آلاف المرات في اليوتيوب، نرى كيف التقط أحدهم الراية من على الأرض قبل أن يلتقط المصاب، فسقوط الراية هنا هو سقوط الحق الذي يأبى إلا أن يعلو.. حمل الجريح بيد وحمل الراية بيد أخرى وأخذ يجري .... مشهد يثير الاعتزاز والفخر لهذا للشباب الواعي لقضيته، وحقوقه، رأينا منهم وعيا غير مسبوق لرمزية الراية. أدهشونا وأدهشوا العالم وهم يشهرون صدورهم للدبابات، متحدين غرور الرصاص، ومحتمين برايات السلمية، ورياحين الورود، معتقدين أن ذلك يشفع لهم المرور سالمين إلى ميدان الحلم.
أيام قانون السلامة الوطنية اكتسبت الراية قدسية أكثر حين أصبح اكتشافها لديك إدانة وعقاب.. فغدت ممنوعة ومعشوقة .. حتى أسفرت عن حضورها ثانية وبشدة في 11 يونيو، في أول مهرجان سياسي حاشد للوفاق، بعد رفع حالة السلامة الوطنية، ثم توالت المسيرات ومهرجانات الجمعيات السياسية بنفس الزخم، بنفس العلم.
كم تعلق البحرينيون بهذا العلم وكم أحبوه. ولعل من فواجع النظام هذا التعلق المنقطع النظير للراية، التي يعتبرونها تخصهم .. تخص آل خليفة فقط، أو كما سمعت أنه كان يسمى العلم الخليفي .. لو فكر النظام جيدا، لاغتنم هذه الفرصة، هذه الفرحة، بأن حقق مطالب عادلة جاءت بشتى الطرق السلمية، يؤكد وطنيتها العلم البحريني .. ألا يرغب النظام أن يرى شعبه متعلقا براية كانوا يحسبونها خاصة بهم فقط؟ ألا يستثمروا هذا الحب لراية هم من قاموا بتصميمها على هذا الشكل؟ .. لا .. لم يعجبهم هذا الاعتزاز والاعتداد بها .. لا يحق لهم ذلك، ساءهم هذا التعلق فأساءوا .. فافتعلوا الاتهامات بشأنها، وقالوا: العلم غير العلم، زادوا على ضروسه سبعة آخرين، إنه علم بـ 12 ضرسا، أي يمثل 12 إماما .. (لكنني شخصيا دققت في عدد الضروس في كل أعلام المسيرات فتبين أن عددها 8 فقط).
والعَلم بضروسه الثمانية هو نفس العلم القديم الذي سلمه الأمير الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة إلى الملك حمد في إحدى إصدارات طوابع البريد. إذن لم يأتُ بأعلام غريبة ولا تصميمات جديدة، علم أبو خمسة ضروس أو ثمانية ضروس، المهم هو علم البحرين؟
والتهم لم تنتهِ عند العلم أو غيره، فالتهمة الكبرى التي لا تغتفر كانت الدوار، لذا سارعوا في اغتياله واجتثاثه قبل هدم المساجد والمآتم، وقبل مسلسل الهدم على جميع الأصعدة.
في 18 مارس أزيل الدوار، قبلة الأحرار، وكعبة الثوار، الذي أصبح رمزا .. بل مزارا يتسابق الثوار اليوم في الوصول إلى ساحته، يتباركون باستنشاق هوائه رغم حصاره بالدبابات، وغلالات الغاز الخانق، والرصاص العاصف. فارس الدوار الشجاع لا يمتشق سيفا، يمتشق راية فقط، ويجري بها، يطير بسرعة الشوق والفرح، وليكن ما يكون.
للدوار حنين يضاهي الحنين للأوطان .. إن أجمل أيام البحرين هي أيام الدوار، ومشوار الدوار .. وأنت ذاهب إلى هناك أول ما تقع عليه عينك هو تلك الأعمدة الرشيقة التي تمتد عاليا كقوام امرأة، تلتقي في الخصر ثم ترتفع لتحضن اللؤلؤة ... كلما غادرتُ الدوار أتلفت للخلف، يناديني الصوت مجلجلا مهيبا : (أخوان سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه)، فأحسد الناس الرابضين في فضائه ليل نهار .. أطوي طريقا طويلا حتى أصل لسيارتي يعاودني الحنين، فأعاود الالتفات، يغيب
عن ناظري الناس، ويبقى النصب باسقا، لامعا مع رفرفة العلم، كما يبقى الصوت، نفس الصوت مهيبا وهادرا، كان .. وما يزال !!
* كاتبة بحرينية