نافذة على خطى الثورة

2012-02-05 - 8:38 ص

 
إيمان شمس الدين*
 
 في وقفة مع جمالية المشهد الثوري المتنقل من جسد البوعزيزي إلى لؤلؤة ميدان الثورة في البحرين حيث المشهد يحمل في جعبته الكثير من الأحداث، وترفرف في سمائه رايات تحمل عبارة مجمع عليها: " الشعب يريد .. " والصراخ يملأ المكان بشعارات تختلف باختلاف المكان وحيثياته وظروفه ،فمن إسقاط النظام إلى إصلاح النظام تعلو المطالبات بصرخة من حناجر شابة ، أرّقها الحرمان الذي برز إلى وعيها بعد عولمة تكنولوجية نجحت في اختصار ممكنات المعرفة والمسافات الجغرافية ونهضت بالفكرة في ذهنية شباب محروم من حقوقه في ظل أنظمة مستبدة تنهب ثروته وتسلب حقه في العيش الكريم.

هبت رياح التغيير وعصفت في أذهان جيل شاب تتحكم في بنيته البيولوجية في هذه المرحلة العمرية حمِيّة واندفاع وحب للحياة، ليعلن الثورة على الاستبداد ويطالب بالعدالة والحرية التي كان دافعها الحرمان حتى من رغيف الخبز.

إذًا هي الثورة بدأت ولن تنتهي كما يعتقد البعض مع مأساوية المشهد وحجم التضحيات الكبيرة، إلا أنها بكلها تعطي مؤشرات لأمر لا خلاف عليه وهو تحقيق المطالب ولو بعد حين.

في البحرين لا يختلف المشهد بل علّه أكثر عمقاً في المطالب من غيره ،فبعد الميثاق الذي قدمت من خلاله وعود الإصلاح والنهوض بالدولة إلى مصاف الدول الحديثة لم يظهر إلى النور من هذه الوعود إلا النزر اليسير وعلى مضض واستحياء، واستمر مسلسل انتهاك الحقوق والتمييز بين المواطنين رغم تهدئة المعارضين الحراك المطلبي في الشارع لمدة عشر سنوات  لم تحقق فيها الدولة البحرينية إلا شذراً من وعودها لا ترقى لمستوى كرامة الإنسان وعيشه في وطنه كما يليق، إذ إن الأوطان التي لا تحفظ كرامة أبنائها لا تستحق أن تكون لهم وطناً.

وعل أهم ما في المشهد البحريني الثائر في قضية تعثر تحقيق المطالب وتحويل البحرين إلى ملكية دستورية هو عدة أمور أهمها:
صراعات بيت الحكم بين أجنحة تؤمن بالديموقراطية وأجنحة راديكالية تؤمن بالنظام الشمولي القمعي إضافة إلى هواجس مذهبية كون الأكثرية البحرينية قبل عملية التجنيس السياسي يشكلون غالبية في البحرين ، كان منشأها الدول المجاورة التي يقوم نظام حكمها على ثلاثية معقدة التركيب هي التحالف بين السلطة والقبيلة والفتوى أي السلطة الدينية التي لا تؤمن بالآخر وتكفر كل من يخالفها عقديا، وترسخ وجود السلطان حيث تشكل يده الضاربة، وامتدادات هذه الدولة في داخل بيت الحكم البحريني سواء بعلاقات مصاهرة أو التقاء مصالح ومنافع ومن هذه الأمور أيضاً النفط والقواعد العسكرية الأمريكية حيث تعتبر البحرين النافذة الطيعة في بناء جسر تبادلي بين الخليج والغرب وأمريكا.
 
في ظل هذا المشهد الذي يكابد فيه المواطن البحريني بشكل عام والشيعي بشكل خاص، كانت هناك نار مطلبية شابة تحت رماد الوعود الحكومية الهشة والممارسات الديموقراطية الصورية وحركة التجنيس التي تهدف للتغيير الديموغرافي الذي لا يدلل إلا على نية واضحة في الانقلاب على كل المواثيق بعد التمكن من الحصول على الأكثرية المذهبية التي يتم شراؤها بمال أبناء البحرين الحقيقيين، كي يصبحوا شركاءها كسلطة في الوطن من خلال الديموقراطية التي أقر عليها أبناء البحرين في الميثاق لتتحول فيما بعد إلى السيف الذي سيستأصلهم من أرضهم ويسلب منهم حقوقهم في محاكمة سياسية أشبه ما يكون بمحاكمة سقراط. حيث آمن هذا الفيلسوف بالقانون ونظر له ومن ثم تم إعدامه بالقانون.
 
في ظل هذا المشهد هبت رياح التغيير منطلقة بشرارة جسد البوعزيزي من تونس وكأنها أوقدت في قلوب الأحرار جذوة عشق الحرية والتحرر من قيود الاستبداد والانطلاق نحو قيم العدالة والحقوق والكرامة وقيامة وطن على أرض المحبة الإنسانية، تقوم في ظله دولة حديثة هي دولة القانون والمؤسسات يكون دستورها حبرا على أرض الواقع وليس حبرا على ورق.

وحيث إن العولمة فتحت أبواب الدول بعضها على بعض على مصراعيها وكانت تكنولوجيا الصورة والمعلومة وسيلة المعرفة التي تنتقل فقط بكبسة واحدة من شخص يجلس على شرفة منزله ويتابع حدث الثورة ويلتقط الصورة ويحولها إلى مشهد سياسي ثوري يحرك الوجدان في أعماق الشباب الثائر، بدأت من هنا الحكاية التي كانت جذورها كفكرة مترسخة في نفوس الشباب وتنظر من يطلقها، وأعلن الشباب عن قيام الثورة يوم 14فبراير في 2011 في ظل اختلاف في وجهات النظر حول جدوى الحراك وآلياته ومنهجه ،لينطلق صوت الشباب في ذات اليوم معلناً الحركة المطلبية السلمية في دوار اللؤلؤة، وتنضوي الجمعيات السياسية تحت شعار الثورة وعنوانه إصلاح النظام وفق مطالب واضحة أهمها:
 ملكية دستورية، برلمان منتخب كامل الصلاحيات، رئيس وزراء شعبي وحكومة منتخبة ودولة مدنية حديثة هي دولة المؤسسات والقانون.
 
وفي الدوار بدأت الحكاية تنسج خيوطها من مشاهد كان جمالها يعكس ثقافة شعب وحضارته في الإصرار على سلمية الحراك وأحقية المطالب. خيوط الحكاية كانت بأيدي الشباب الثائر الذي كان يعمل كخلية نحل كي ينقل للعالم ماذا يريد، وتحول الدوار إلى مسرح للجميع تمايزت فيه الرؤى والأطروحات تمايزاً حاداً إلا أن القرار هو : "للجميع حق أن يعبر عن رأيه ووفق ما يريد"،وهو قرار يتماهى مع مطلب الديموقراطية.
وفي مسرح الدوار لم يكن المشهد واحدا وإنما تعددت المشاهد بتعدد الرؤى والمناهج ولكن كلها كانت تحت سقف السلمية والحق في التعبير الحر عن الرأي، ورغم أن هناك من انطلق من معطيات الواقع والظروف التي تتحكم بالمشهد البحريني الداخلي والخارجي إلا أن هناك أيضا في مطلبه للإصلاح تحرك وفق رؤية قد تصنف أنها تصعيدية غير مرحلية قفزت على الواقع ولكن لها مبرراتها وأهمها " قد وصل السيل الزبى " فلم تعد تؤمن بوعود الحكومة لتاريخها في التنصل والانقلاب على وعودها.
 
طلت برأيها كثعبان بعد هذه الأحداث مرحلة السلامة الوطنية التي كان من أهم أسبابها  أمور عدة هي تعطيل المرفأ المالي والذهاب إلى الرفاع وما شكله، هذان الحدثان من تصعيد دراماتيكي منشأه اختلاف الرؤى والمنهجية في" كيف " الثورة، وهو ما اعتبر رسائل للجوار البحريني قبل الداخل البحريني المنقسم أصلا على نفسه داخل بيت الحكم في الرؤى والمناهج.
ولا ننكر أن مواجهة سلمية الحراك بالدماء كان له أثر كبير في التصعيد، وكانت رسالة واضحة في كبح جماح الثورة في التخويف بالموت، وهو مشهد تكرر في كل من تونس ومصر أيضا.
 
وكان من أهم أهداف السلامة الوطنية:

  وأد الثورة في مهدها ومذهبة الحراك المطلبي دليل صارخ على وأدها وتحويلها إلى هاجس إقليمي كي يتم قمع الحراك ورفض دعمه حتى من الشعوب وحماية دول الجوار من انتقال عدوى الحراك إليها خاصة مع وجود جذور لهذه الحراكات تتحرك من فترة لفترة رافعة شعار المطالب ذاتها، وأخيرا قمع شعوب المنطقة من خلال تأديب ثوار البحرين حتى لا تنتقل عدوى الحراكات المطلبية لها.
 
والسؤال الذي  يطرح نفسه: لماذا درع الجزيرة؟
 درع الجزيرة وفق الاتفاقية الأمنية لا يتدخل إلا في حالة العدوان الخارجي، وتدخل درع الجزيرة كان يهدف إلى إيهام الخارج والداخل بأن هذا الحراك هو حراك تدعمه دولة خارجية فقاموا أولا بمذهبة الحراك ومن ثم إلصاقه بدولة خارجية كمحرك رئيسي له. واعتباره حراكاً مذهبياً من فئة من الشعب كان لهدفين:

 أولهما: هدف خليجي يكرس من سلطة الأنظمة ووجودها وهو: إخافة السنة في البحرين وفي المنطقة خاصة بعد مواقف تأييد من قبل نخب سنية وشيعية في المنطقة للحراك البحريني مما اعتبر مؤشراً خطراً في دعم خطى الثورة، وبذلك تتراجع شعوب الخليج من دعم الحراك وتعين الأنظمة على وأده بدعوى مذهبيته، وقد يكون مطلب الكونفدرالية في مؤتمر عقد في البحرين من قبل نخب خليجية مطلبا يأتي في هذا السياق.

ثانيهما: هدف  إقليمي يصب في صالح مشروع محاربة دول الممانعة ويكرس من الإيرانوفوبيا ويحاول جر إيران لمواجهة من أجل حماية البحرينيين من بطش السلطة وبطش درع الجزيرة الذي دخل أصلاً وفق المعلومات بقرار سعودي تداعت له دول الخليج بعد ذلك، وهو يأتي في ظل صراع الوجود والنفوذ في المنطقة بين كل من إيران والسعودية.السؤال هنا : أين يكمن الخطأ؟

 هو سؤال يفترض أنه طرح من قبل الرموز والقيادات كإعادة تقييم للحراك المطلبي الذي انطلق في 14فبراير، وأعتقد إجابة السؤال تتضح جلية الآن من خلال اتضاح الرؤية لدى الجميع ووضع سقف للمطالب وإن اختلفت المنهجيات والاتفاق على أمور أهمها:

 أولا المرحلية في تحقيق المطالب وثانيا سلمية الحراك مهما رفعت السلطة من أدوات القمع والمواجهة.

 وأعتقد أن التنسيق بات واضحا بين الجمعيات السياسية والثوار الشباب في حركة 14 فبراير والحركات الأخرى التي يفترض أنها جلست على الطاولة المستديرة وقيمت الحراك وأعادت بلورة رؤية تحقق المطالب وتنجز وعد الدم للشهداء.
 
 لا ننكر أن سلمية الحراك كان له أثر كبير في تقدم خطى الثورة خاصة في قلب العالم الغربي حيث نظمت المعارضة صفوفها بين الداخل والخارج ووضعت لها خارطة طريق ووزعت الأدوار.
واستطاعت من خلال العمل الحقوقي التوثيقي أن تعولم حراكها المطلبي وأن تضغط من خلال هذه المنظمات الحقوقية الغربية على الحكومات الغربية والحكومة الأمريكية كي تضغط على الحكومة البحرينية باتجاه تحقيق المطالب وإن كانت حركتها خجولة لارتباط مصالحها ببقاء الوضع على ما هو عليه واجراء فقط إصلاحات طفيفة كحبة مسكن للثوار، وتأتي في سياق حرجها من شعوبها نتيجة تجلي الحقيقة في الإعلام الغربي والمنظمات الحقوقية الغربية التي نشطت بها المعارضة البحرينية في الخارج ونقلت الوقائع كما هي موثقة بالصورة والدليل .
 
وبعد تقرير بسيوني وأهم ما جاء فيه من إقرار بانتهاكات لحقوق البحرينيين وبسلمية الحراك وأهم من ذلك كله براءة الثورة من أي تدخل خارجي وخاصة الإيراني وهو ما أفشل محاولة مذهبة الحراك وتخوينه في ولاءاته للخارج كي يتم الانقضاض عليه، وهو ما يعيد مجددا الثورة البحرينية إلى حضنها الخليجي والعربي والاسلامي ويعمق من وجودها الوطني ومطلبها المحق.. يطرح بعد كل هذا تساؤلا هو: الثورة إلى أين؟
 
باعتقادي أن هناك مجموعة ثوابت في خطى الثورة، الاستمرار عليها سيكون  الأثر في تحقيق المطالب وإنجاز الإصلاح الكبير وأهمها: وضوح الرؤية، وتنسيق الجهود، ووضع خارطة طريق توزع فيها الأدوار بين المعارضة في داخل البحرين من جهة وبين المعارضة في الداخل والمعارضة في الخارج من جهة أخرى.

والإيمان بالمرحلية وسياسة النفس الطويل، سلمية الحراك واستمراره وتنظيمه أكثر، الحراك الحقوقي التوثيقي، التشبيك والتنسيق مع الثورات الأخرى ومحاولة التشبيك مع شعوب المنطقة في توضيح مظلومية الثورة البحرينية، وأخيرا  الإيمان بالقضية كحق يجب أن ينتزع لقيام وطن للجميع والتخلص من المذهبية من خلال بناء جسور للتفاهم مع الشريك في الوطن مهما أساء هذا الشريك ومحاولة الالتفاف على كل الثغرات التي فتحتها السلطة وهدمت من خلالها جسور التواصل بين شركاء الوطن لإضعاف الحراك المطلبي.

 أيها الثوار البحرينيون:

 ثورتكم تضيء شعلة الأمل في نفوس شعوب المنطقة، التي بدأت تتطلع لفضاء الحرية خارج عيون الأنظمة الحاكمة، لتبحث لها عن نفس نظيف يحقق لها العدالة، ويخرجها من عنق زجاجة الحكام إلى فضاء الدولة الحديثة كدولة قانون ومؤسسات يتساوى فيها المواطنون تحت مظلة دستور يكتبه حبر العدالة، وترسم فضاءاته الحريات، وتقيم أعمدته منظومة الحقوق والواجبات.

فلكم آلاف التحايا ...ولدماء شهدائكم العزة والخلود.

chamseddin72@gmail.com

* كاتبة كويتية.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus