أمنا الثورة.. ولدنا يوم 14 فبراير

2012-02-17 - 10:20 ص



مرآة البحرين (خاص): كل صرخة ألم، وكل قطرة دم، ستغدو جزءاً من ذاكرة الشعب، تطبع وجدانه بفكرة الصمود أمام آلة الفتك والموت. الفنان، الشاعرة، المصرفي، المصور، المعلمة، الشاب الجامعي كل واحد سيسرد قصته مع حلم الحرية الذي استبيح في يومٍ أسود، حاك ظلمته النظام البحريني، فيما الأسماء ستبقى مجهولة تخشى من العلن، تتخفى وراء حكايات أصحابها الخارجة للتو من الدوار المهدوم.

■ لم تكن تهمني..

الشاب البحريني (س)، لم تكن تهمّه السياسة، كان كل ما يريده هو أن يحظى بحريته. لم يجد بداً من الحضور في ساحات الميدان حين يجد فسحة من عمله أو من التزاماته مع عائلته. لم يميز خيمةً عن أخرى، أو يجالس جماعة معينة. يبحث عن المشاركة أياً كانت. انصهر بسرعة كما انصهر الجميع في غاية واحدة. يقول: " أنا مواطن بحريني لا أنتمي لأي جهة، السياسة لا تهمني، أريد أن أعيش حياتي، أن أحظى بحريتي ومنزلي وعملي الذي يأويني أنا وزوجتي، آمالي صغيرة كالجزيرة التي أعيش عليها، وعفوية كما كان أجدادي و آبائي".

سمع نداءً من إحدى منصات الميدان تطلب متطوعين ينظمون حركة المرور، استجاب بعفوية. صار مع مجموعة من الشباب عند أحد الشوارع الفرعية القريبة من قريتي الديه والسنابس. " كانت السيارات تطوف موجلة بين حين وحين. وكنا نستنفر حين نلحظ إنارات بعضها ينعكس على الجدارن التي غيرت الشعارات حياديتها. لم يكن أحد في مأمن لا نحن ولا المارة، الجميع يتوجس أشباحاً فتكت بشبابٍ من الدير ومن مدينة حمد وهم يمشون في طريقهم بسلام وفي عهدة الدولة". الثورة بالنسبة لـ (س) معبقة بدم الشهداء الذين طهروا دنس الضربة الأولى للدوار كما يقول، أما النظام البحريني فهو يجند بلطجية هدفهم الإغارة على مفاصل الوطن لاغتيال ما بقي فيه من ضمير.

■ لم أكن سأشارك..

الشاعرة الشابة (م) التي استيقظت مفزوعة في صبيحة السابع عشر من فبراير عند الساعة الرابعة فجراً، على إثر خبر مجزرة الدوار. بالنسبة لها كانت المظاهرات البحرينية لم تكن أكثر من خبر على صفحة الفيس بوك. تقول: "لم أتوّقع أن يتجاوز الخبر الفضاء الافتراضي إلى الواقع، وحين صارت حدثاً لم أكن متحمسة للمشاركة إذ أني لا أميل للهتافات ولا ترديد الشعارات لا أشعر أني أشبهني حين أرفع صوتي لأردد شعاراً ما. لم يُفْلح أحد في إقناعي بالمشاركة، فمضيتُ لقراءة المشهد عبر المعرفة لا الحدث متأملةً كتاب الأمير الذي أفرزه الواقع السياسي في أوربا قبل خمسة قرون". تضيف: "مُعطيات كثيرة غيّرت مزاج الحدث الذي كنتُ أفترضه نمطيّاً، فما عاد من الممكن أن أكتفي بنصف الصورة ولا نصف الطريق إلى الحدث، الحدث الذي يجب أن يكون هو المشهد الذي سيفرز معرفة جديدة توافق بانوراما المشهد البحريني".

تستعيد (م) صوت الصحفي حسين المرهون الآتي من قناة الجزيرة كشاهد على ما حدث ينقل وقائع المجزرة" لحظتها صرنا محتجزين في الزمن، في اليوم الذي كان على الكل فيه أن يطمئن على الكل، مضيتُ أسأل عن أخي الذي قرر يومها أن ينام في الدوار، أسأل عن أبي الذي لم يفكر طوال عمره في المشاركة في مثل هذه الإعتصامات ثم قرر أن يكون هناك في هذا الخميس الأسود".

تكمل : "في 19 فبراير كانت دعوة أسرة الأدباء للمشاركة في اعتصام المثقفين تضامناً مع الشهداء، الإعتصام الذي وصل لي أنباء عن إلغائه، وجدتني معنية بالذهاب للسلمانية، شهداء الخميس الأسود أخذوا بيدي، أرادوني أن أكون معهم فمضيتُ لهم لكن هذه المرة أمام مستشفى السلمانية، أرادوني أن أشهد سيارات الإسعاف وهي تعود خائبة لأنها ممنوعة من مساعدة الجرحى، بكيتُ وانهرتُ تماماً.
 في تاريخ 20 فبراير بعد أن تمكن الشباب من الرجوع للدوار بعد المجزرة ذهبت (م) إلى مقر الاعتصام الذي احتضن اللؤلؤة، تقول: "لونت ظاهر كفي بعلم البحرين، مكتفيه بالمرور بصمت وهدوء بين الجموع موجهة يدي لضوء الكاميرات والوجوه، بدا المكان في ذلك المساء أليفاً فمضيتُ للتجوّل في مكان لا يزال الناس فيه هادئين حتى بعد مجزرة مروّعة، يحملون الورد ولافتات تطالب بالإصلاح، الأطفال يدللون الأعلام والورود بين أيديهم الصغيرة، بعض الشباب يكنسون الأرض، شيوخ يستريحون على الرصيف، كل ذلك أشعرني بأن هذا المكان يحضر بقيمه، حتى أن بالإمكان أن يكون ليه فيه صوتاً يتوافق و رؤيتي. الآن يمكنني أن أفهم الحدث فصفحات كهذه لا تقرأ في كتاب".

■ لم أكن أصدّق..

محمّد، مسؤول عمليات في أحد المصارف المعروفة في المنامة. أراد أن يكتشف في ذلك اليوم مدى إرادة الناس، وهل أنّ الثورة حقيقة أم مجرّد تقليد للربيع العربي. إذ كان يظن أن هذا الشعب يميل للتقليد والإستنتساخ.

يقول: "ركنت السيارة وأسرعت نحو المعتصمين عند دوار الدراز، رميت نفسي بينهم، نظرت إلى الوجوه وجهاً وجهاً، رأيت فيهم نفسي المقموعة، القوات تتجمّع شيئا فشيئا، الناس تتزايد دون خوف، هل يطلقون عليهم النّار؟ توقّف رأسي عن التفكير، عدتُ بسرعة إلى الوراء، إلى التسعينات والألفية، اجتمعا في رأسي مرّة واحدة، صورتان متناقضتان، تظاهرات ومواجهات عنيفة وميثاق وطني، كيف اجتمعا الآن؟ القوات تتقدّم، أوه إنها تُطلق النّار، تبدأ الحكاية.

يكمل محمد: "نسيتُ كلّ هواجسي، القرار سحبني إلى الثورة مباشرة، رفعت علم البحرين كان سقط من شاب اختنق بمسيلات الدموع، تقدّمت به إلى الأمام، تشجّع منْ خلفي، وبدأت الصورة الخلاّبة للثورة، نزْعُ الخوف من الصدور والتقدّم ببسالة إلى القوات وإجبارها على اليأس".

مع ورود خبر استشهاد علي مشيمع أحد شهداء الثورة ستتوالد في داخل محمد مشاعر غامضة" الحزن والأسى كان هو السّطح الظاهر، سرعان ما تكوّن شعور غاضب ممزوج بالأمل، كان لابد للشجرة من ماء يرويها، خشيت أن يُطلّ اليوم التالي وكأن 14 فبراير مجرد حادثة، لا أحد يذكرها كثيرا، عندما استشهد مشيمع تيقّنتُ بأن هذا التاريخ سيصبح خالداً".

دخول الدّوار شجع محمد على إعادة تشكيل مفهومه للجماعة" خرجتُ من إيمانياتي الصلبة، اكتشفت أن البسطاء ليسوا رعاعا، وأن بيدهم صُنع القرار، كانوا نخبة الدوار، والقيادات لم تجد حرجا في الإنصات إليهم ومتابعتهم أيضا، حللتُ عقدتي القديمة تجاه الجمهور، كان حلا فوريا، أنزلُ إليهم وأعيشهم وأبادلهم التفكير".
يضيف: "التحوّل الداخلي أهم اكتشافاتي الشخصية في الثورة، يمكن أن يتغيّر كل شيء، وفي لمح البصر، أعتني حاليا بعائلتين حرمهما النظام من الدخل الشهري، مع الوقت، بدأت أعيش معهما مثل العائلة الواحدة، لم أكن أتصوّر نفسي قادراً على الاندماج مع آخرين مختلفين، الثورة أمدتني بهذه الخاصية، عندما شاركتُ آلافاً لا أعرفهم أصعب اللحظات، تشاركنا اقتراب الموت والمصير المجهول، أعيشُ اليوم هذا الانجاز، وكأنّ الثورة أمّي".

■ لم يكن منهج تاريخ مدرسي..

في مساء ثورة الرابع عشر من فبراير وقفت مريم أستاذة مادة التاريخ تستطلع مطالب الناس وتتبين طبيعة العلاقة بين هذه المطالب وربيع الثورات العربية. لم يطل سؤال بحثها "وجدت نفسي أزحف مع الحشود نحو الدوار، تقهقر رجال الأمن قليلا عندها رحت أهتف: إن الدماء ترخص فداء للحرية! ها هي دماء الشهيد فاضل المتروك وقبله كانت دماء علي مشيمع الذي سبقه الى العلياء بيوم واحد. جاء المساء، جلست في ساحة الدوار،   أنصت لحديث المنصة، وقف أحد الشباب قائلا : نحن شعب واحد ومطالبنا واحدة مرددا:(إخوان سنة وشيعة، هذا البلد مانبيعه)".

بل أن يبزغ صباح اليوم التالي ستدون مريم في مفكرتها: "هذا الشعب أصيل في مطالبه التي لا تختلف عما طالب به شعب البحرين في السنوات السابقة". في الصباح بعد فجر السابع عشر من فبراير، ستستيقظ على خبر هجوم عناصر من قوات الأمن المدججة بالسلاح على المعتصمين في ميدان اللؤلؤة وهم نيام "كان هجومًا مباغتًا دون سابق إنذار، غطت أصوات الرصاص ومسيلات الدموع أرجاء المكان. والنتيجة   مجزرة في الميدان". تضيف "وقفت أمام هذا الفعل المشين، لسان حالي يقول:   كيف يقتل أبناء الشعب وهم عزّل ؟وكيف يكون جيش الوطن هو قاتله؟". صار الميدان جزءاً من يوميات مريم، خاصة بعد انضمامها لزملائها المدرسين في خيمة جمعية المعلمين لتشاركهم في المسيرات المطالبة بالحرية.

تضيف مريم: "في مدرستي أخذت على عاتقي نقل رسالة المعتصمين من الشباب إلى رحاب المدرسة، حيث تفاعلت في الحوارات مع المعلمات تارّة ومع الطالبات تارّة أخرى، لم يدر في خَلَدِي أن المشهد سوف ينقلب إلى صورة دراماتيكية، تتحول فيه زيارة الدوار إلى تهمة بخيانة الوطن،   والمشاركة في المسيرات والإعتصامات جنحة يعاقب عليها القانون".

تذكرت مريم أن النظام السياسي في البحرين لم يتغير، وإن بدّل جلده،   فما حدث للمدارس في التسعينات إبان ثورة الكرامة، يعود مرة ثانية، ولكن بشكل أكثر دموية. تقول" في صبيحة يوم مدرسي داهمت عناصر من قوات الأمن المدرسة ضمن سلسلة هجماتهم على المدارس، اعتدوا على الطالبات، وقامت إحدى الملثمات بصفعي على وجهي أمام طالباتي وهي تصرخ بي: سنعلمكم كيف نكتب التاريخ!". اعتقلت مريم مع بعض من زميلاتها. قبل أن تغادر مريم إلى سجون النظام، رمت بنظرها إلى وجوه الطالبات، وهي تقرأ في عيونهن آمالَاً وأحلامَاً لنيل الحرية والعزة والكرامة. لم يكن هذا منهج تاريخ مدرسي جامد ومنحاز، إنه تاريخ يكتب نفسه بنفسه، تاريخ يعيش الطالب خبرته الحية التي تريه حقيقة القوة التي طالما تحكمت بكتابة التاريخ.

■ لم تكن مزحة

 بقالب كاريكاتوري ساخر سيخربش الفنان التشكيلي (ب) صورة رئيس وزراء البحرين. أحد الصحفيين الأميركيين سيسأله ماذا رسمت اليوم؟ يجيبه: ليس بعد. يعلق الصحفي ساخراً: حكومتكم مدعاة لسخرية كبيرة، استلهم من كذبها على الأقل أي فكرة، حكومتكم بها ديناصورات قديمة/ أليست هذه فكرة؟.

في طريق عودته إلى منزله في الثانية والنصف عند فجر 17 فبراير، سيرى (ب) أسرابا من سيارات الشرطة تأتي تباعاً باتجاه الدوار: "ظننت أنه أمرٌ طبيعي، رفعت هاتفي لأحذر الشباب، أخذت دورة بالسيارة ناحية الدوار، تعالى صوتي محذراً الشباب، هاتفت فني الصوت في المنصة شخصياً، هاتفه مغلق، أرسلت أحدهم إليه، أسرع، عليك إنذار الجميع بالتأهب، حالة استنفار مفاجأة لدى الشباب النائم، لم تصل العقارب حتى للثالثة، استيقظ الكل، التفت يميناً وشمالاً، أعداد المرتزقة في ازدياد، أخيراً، انفجر صوت مكبر الصوت، سلمية.. سلمية، يحذر الجميع بالتزام السلمية، تعالت الهتافات من وسط الميدان، سلمية.. سلمية، فردت القوات التحية من فوهة البندقية، ذخائر مختلفة، رصاص حي، قنابل صوتية، رصاصات انشطارية، غيوم سوداء ورمادية، امتزجت الهتافات بالاستغاثات، أنا وغيري، وكل من استطاع المغادرة، مندهش من عصابة غادرة، جاؤوا متسللين، راكبين وراجلين، توزعت أعدادهم، وأعلنوا انتقامهم، من أعلى الجسر، قذائف وطلقات، من كل حدبٍ وصوب".

■ لست شيعية

في الزاوية الفنية التي استحدثها الثوار داخل دوارهم ليعرضوا لوحات وأعمال فنية، سيتعرف الفنان التشكيلي على فتاة من الطائفة السنية: "عرفتني بنفسها أنها من عائلة الجودر، شاركتني عمل بعض اللافتات، معجبة ببعض معلميها الشيعة للخط العربي، تلبي طلب المعتصمين بخط هذا الشعار، تخطها وهي تبتسم بارتياح، تنظر لي بتفاؤلٍ وهي تقول، أحلى شعار أفخر أن تكتبه، علقت على قولها: أنت بنت الجودر، أنت بنت المحرق"،   يضيف: " سألتها: منذ متى أنتِ في الدّوار؟ تجيب بكل فخر واعتزاز: منذ ليلة الهجوم الوحشي للمرتزقة، كنا ننوي المبيت تلك الليلة أنا وزوجي، لقد أصيب إصابات طفيفة وهو بخير الآن، تضيف: تصوّر!، أننا نقطن في منطقة شيعية بين سار والجنبية!، تصوّر أن معظم أفراد عائلتي سيعلنون البراءة مني بسبب موقفي أنا وزوجي!، لكني لست آبه بهذا، لدي قناعة بقضيتنا. هل زوجك شيعي؟ تجيب: لا، ليس بالضرورة، إنها قضية وطنية للسنة والشيعة، لأننا شعب واحد نقطن في منطقة شيعية ونحن من أبناء السنة، أحسست أني أستمع إلى أنغامٍ وطنية أصيلة، وأحسست بمدى غبطة من يغنيها ويعزفها، وأنا أنظر إليها مبتسماً، قالت لي مبتسمة، هل عرفت لماذا أفخر لهذا الشعار؟، أولسنا إخوان سنة وشيعة؟، فأجبتها بإصرارٍ مبتسماً: وهذا الوطن ما نبيعه..!"

بين الفنان والشاعرة والمصرفي والمعلمة والمصور والشاب الجامعي، ستكتمل سيرة ثورة مرت سنة على اندلاعها فيما أحلام وأمنيات الحرية تراود أصحاب السّير وتستعد لسرد وقائعها مرات ومرات.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus