الذكرى الأولى لـ 17 فبراير: كلنا راجعين

2012-02-18 - 5:25 م




مرآة البحرين (خاص):
أمس 17 فبراير 2012 كان يوماً آخر من الأيام العصية على النظام المرعوب. النظام الذي يعيش قمة استنفاره وهستيريته، وقمة جنونه أيضاً، وحين يصل نظام ما إلى هذا المستوى من كل شيء، فإنه يكشف عن مستوى الرعب الذي يعيشه، والشعور بأنه مأخوذ إلى زوال. يعيش النظام البحريني هذا، في الوقت الذي يعيش فيه شباب الثورة والشارع المعارض الملكوم، قمة تفانيهم وقمة تضحياتهم واستبسالاتهم، من أجل التحرير، ومن أجل تحقيق المطالب الديمقراطية التي بدأت بها حركتهم منذ 14 فبراير الماضي. لا يزال الشعب مصراً على مطالبه التي لم تتغير ولم تتراجع، رغم الأثمان المميتة التي يدفعها كل يوم وكل لحظة.


■ سيرة الغدر

17 فبراير 2012 ، كان له رائحة الغدر منذ فجره، أي منذ الساعة الأولى على ذكرى حادثة الهجوم الوحشي على المعتصمين النائمين في دوار اللؤلؤة. بدأ اليوم مكتظاً بالمشاعر والأحاسيس والذكريات، ملتهباً ومتدفقاً في مواقع التواصل الاجتماعي، الذكريات لا تزال تتدفق طرية وكأنها وقعت للتو، المغردون والمدونون يكتبون شهاداتهم ولحظاتهم كما عايشوها في ذلك اليوم، بعضهم يروي حكايته عندما كان داخل الدوار وقت الهجوم، وبعضهم يروي كيف عايش لحظاته وانفعالات وصدمته بهذا الحدث الغادر الذي   استنكره كل من يملك قلباً إنسانياً في أي مكان، بعضهم يتذكر الحشود الغاضبة التي اجتمعت عند باحة طوارئ السلمانية صباح ذلك اليوم، وبعضهم ممن فقد صديقاً أو قريباً في الهجوم راح يعرض قصة قتله الوحشي.


 الصور التي تم التقاطها في ذلك تاريخ ذلك اليوم قبل عام، كان لها نصيبها الأكبر من العرض على شبكات التواصل الاجتماعي، المصورون راحو يعرضون صورهم ويشرحون أحوالهم لحظة التقاطهم لهذه الصور، الحكايات لم تسكت والروايات والذكريات طوال الصباح، الكل يعيد رواية سيرة ذلك اليوم وكأنه يعيش اللحظة، لا الأمس. هذا اليوم الذي صار ممتداً لعام كامل، إنه اليوم الذي لم ينته بعد، وسوف لن ينتهي قبل أن ينتهي هذا الفصل من القمع.


■ أمراء الميدان


 
أمراء الميدان عبدالقادر، الحايكي ومحمد جعفر
منذ العاشرة صباحاً، بدأت محاولة العودة إلى الميدان. الميدان محاصر بأرتال الجيش والمدرعات ومحاط بالأسلاك الشائكة التي تضاعفت قبل الذكرى السنوية الأولى لـ14 فبراير. هذا الحصار العسكري الذي يكمل قرابة العام، صار موضعاً للتندر والسخرية محلياً وعالمياً، كيف حول النظام هذا الدوار من ساحة احتجاج تنفس فيها الناس حريتهم لأول مرة، إلى ساحة يحاصر فيها النظام نفسه، ويعاقب فيها نفسه، ويعيش فيها رعبه الأبدي من الثوار. منطقة الدوار والمناطق المحيطة بها حولها النظام بفعل رعبه إلى ساحة أشباح تعج بآلات الحرب المختلفة والجيش، وكأنها تحارب الهواء والشمس. وسوف تضحك في كل مرة تمر هناك، وأنت ترى منظر رجال الجيش وهم واقفون طوال يومهم، شاهرين أسلحتهم في وجه لا أحد، في وجه رعبهم فقط.


بدأها 4 من شباب منطقة سماهيج زحفاً إلى الميدان. شعبياً، صار كل من ينزل إلى الميدان يلقب بـ(أمير الميدان) أو( فارس الدوار).   مصير كل من ينزل إلى الدوار هو الاعتقال، وكل من يصل قريباً منه كذلك. كان أول من وصل يوم أمس هم أمراء سماهيج في العاشرة صباحاً:   زكريا الحايكي، أحمد عون، علي أحمد، وموسى سبت. تبعهم بعد حوالي ساعتين فارسان آخران من سماهيج أيضاً، نزلا الميدان مرتديان كفنهما: علي عيسى الحايكي وعبــاس السلم. ثم 4 أمراء آخرون من منطقة عراد: أحمد عبد المطلب، محمد أمين عبد الحكيم، عبدالله عبد المهدي، محمود السبع، نزلوا إلى الميدان مهرولين يستنشقون عبق الحرية فيه قبل أن يتم اعتقالهم. المحاولات لم تقف، بقت مستمرة طوال اليوم، من مناطق جدحفص وعراد والمعامير والبلاد القديم ودار كليب ومقابة وبني جمرة وسترة والمقشع وغيرها من المناطق، أمراء الميدان لم يتوقفوا عن محاولات اقتحام الدوار، ولا يزالون حتى اليوم السبت 18 فبراير يواصلون زحفهم ووصولهم. صار الدوار مخترقاً، وصارت فجوات الاختراق محرجة للنظام الذي لا يجد في كل مرة غير اعتقال من يصل بطريقة آلية ومضحكة. النساء لم يكن خارج شرف الإمارة. ثلاث أميرات وصلن قريباً من الميدان عند الساعة الثالثة ظهراً من يوم أمس: معصومة عيسى، وخاتون فهد، وايمان فهد، قبل أن يتم اعتقالهن من قبل الأمن، وغيرهن أيضاً.


■ خط النار

منذ أول الظهر، كانت كل من منطقتي جدحفص والديه القريبتان من الميدان، محاصرتان بالكامل بأرتال من رجال الأمن والمدرعات، أعداد كبيرة من رجال الأمن تمشي راجلة تستعرض قوتها وأسلحتها على شكل فرق حرب، تحرص أن تقتل بمشيها المخاتل كل شكل من أشكال الحياة هناك، وتمنع أي محاولة لأي حركة احتجاجية يمكن أن تصدر من شباب هذه المناطق التي طالما تؤرق ليل النظام ونهاره، "كانت وحشة حديدها، وحدها من تسير وراءها" يقول أحد الشهود. لم يكن مسموحاً لأي كان أن يدخل هذه المناطق. "قرى العاصمة كانت مدن الظلام والموت"، يضيف.

هناك على امتداد خط المقاومة، حيث منطقة الدراز الواقعة على شارع البديع، الذي يمثل هو الآخر خط نار مؤرق للنظام، كان الشيخ عيسى قاسم يؤكد في خطبته لصلاة الجمعة أن "ما قاله 14 فبراير هذا الشهر للوضع الرسمي المحلي، أنه يمكنكم أن تبيدو هذا الشعب المعارض حتى آخر رجل منه وآخر امرأة وآخر طفلة وطفل من أبنائه وبناته، أنتم تملكون آلة الفتك الكافية لذلك، ولكن لن تملكوا إسكات صوته وتعطيل مقاومته في سبيل حقوقه"، مضيفاً، "لن يمكنكم ذلك ما دام شخصٌ واحدٌ منهم يمشي على قدم أو يمكن أن يرتفع له صوت".

لم يكن المشهد يوحي بشيء آخر خارج هذا، نظام مهدد رغم امتلاكه لكل آلات الفتك، وشعب مستبسل رغم افتقاره لكل آلات الدفاع، ومستمسك بإرادته فقط، الذي يعلم أنها لا تلين.


■ تركت قلبي معهن


 
مارثا وبنجامين تتقدمان المسيرة (اضغط للتكبير)
 
اعتقال بنجامين (اضغط للتكبير)
 
اعتقال مارثا (اضغط للتكبير)
عصراً، كان بالقرب من دوار القدم مشهد احتجاج آخر، ناشطتان غربيتان، إحداهما بريطانية (إلين مارثا) وأخرى أمريكية (ميديا بنجامين)، تقودان مسيرة احتجاجية ضد انتهاكات النظام. كان الحقوقي نبيل رجب، قد أعلن في حسابه في تويتر يوم الخميس 16 فبراير عن مسيرة نسائية تقودها ناشطتان أجنبيتان في القدم متجهة إلى الدوار. أكثر من 150 امرأة بحرينية انضمت للمسيرة عصر الجمعة، بدأت المسيرة من ناحية دوار القدم. لم يمض وقت حتى صارت المسيرة وجهاً لوجه مع رجال الأمن ونساء الأمن اللاتي اصطففن متصديات لهن يمنعونهم من الاستمرار. لحظات وكانت الغازات الخانقة هي لغة الحوار المعهودة التي لا يجيد النظام غيرها لصد أي احتجاج سلمي.

 لم يعد النظام الأرعن يكترث بالشهود الأجانب الذين يفضحون جرمه الفاقع، ويشهدون قمعه لكل تحرك احتجاجي سلمي. لم يعد النظام يكترث لهؤلاء الذين يرحلهم إلى بلدانهم، ويعلم أنهم سينقلون للعالم قبح هذا النظام الذي يتبجح بالانفتاح وحرية التعبير السلمي عن الرأي، فيما هو يقمع كل تحرك سلمي يعبر فيه الشعب عن احتجاجه. لم يعد هذا النظام يهمه صورته التي صارت متمرغة في الوحل، ما دام لا يقف في وجهه أحد. الناشطتان يتم اعتقالهما على الفور، ولم تكونا تتوقعان غير ذلك عندما قررتا أن تقوما بمغامرتهما، أرادتا رؤية الوجه الحقيقي بنفسهما. يتم ترحيلهما بعد ساعات   بحجة مشاركتهما في مسيرة غير قانونية على حد ما ذكرت الداخلية.

الأمريكية ميديا بنجامين، كتبت في حسابها في تويتر قبل اعتقالها @medeabenjamin: "لا يهم كمية مسيل الدموع، ولا يهم الضرب، قمع حكومة البحرين لن يوقف هذه الإبداعية، ولا هذه الانتفاضة المحسومة."

توقفت أخبار (ميديا) أثناء الاعتقال، ثم عادت لتكتب بعد حوالي عشر ساعات: "أغادر البحرين بعد ترحيلي لمشاركتي في مسيرة سلمية رهيبة، نساء شجاعات، تركت قلبي معهن."








■ تشييع البقالي

 
الشهيد البقالي (اضغط للتكبير)
 
أكف المشيعين (اضغط للتكبير)
كان خبر استشهاد الشاب حسين البقالي (19 عاماً) من منطقة جدحفص، قد انتشر عند الظهر أيضاً، متأثراً بالحروق البليغة التي استباحت جسده التواق للحرية، فيما كان مشاركاً في تنفيذ فعالية حداد السماء أواخر يناير الماضي، كان يعلن حداده على وطنه المنهوب، فإذا بوطنه يعلن اليوم حداده عليه. بدأ الناس يتهيئون لتشييع شهيدهم الجديد الذي افتتح العام الثاني للثورة. اختار حسين أكثر التواريخ فجاعة ليكون يوم رحيله، وليقضي في التاريخ الذي قضى فيه الشهيد الشاب علي المؤمن وباقي شهداء الغدر.


بدأ تشييع جثمان البقالي الساعة الخامسة عصراً، ورغم إغلاق جميع المنافذ المؤدية إلى منطقة جدحفص، إلا أن آلافا قد غص بهم المكان. كان التشييع غاضباً وحاشداً، سار المشيعون في أزقة جدحفص حتى مدخلها المطل على الشارع العام، هناك أقيمت الصلاة على الشهيد وتوقف التشييع لدخول وقت صلاة المغرب.

بينما المشيعون يؤدون صلاة المغرب، كانت المدرعات تقف متأهبة للهجوم عند دوار القدم، وجيوش القمع عند مجمع الهاشمي، والشارع العام مظلم بلا مصابيح إنارة، الشارع موحش من كل حركة إلا المشيعين الذين يسيرون بصخب هتافاتهم الغاضبة وحدها، وقلوبهم المفجوعة. دخل المشيعون المقبرة في أجواء مليئة بالتوجس والحزن والوحشة من ظلمة المكان الدامسة، ومن ظلمة الوطن. قريبات الشهيد المفجوعات بقين يولولن بطريقة أفجعت قلوب جميع المشيعين، كان عدد النساء المشاركات في التشييع كبيراً.

بينما التشييع يشارف على الانتهاء، كان المنظمون والمشيعون يتهيؤون لتأمين المكان للمواجهات وكأنها حتمية. لُفت السماعات والأجهزة سريعا وطلب من النساء التنحي جانبا، وتقدم مجموعة من الرجال للشارع العام بالإضافة إلى مجموعة فتيات أيضا رفضن التنحي. لم يمض شيئاً حتى بدأ قمع الغازات الخانقة، وللمرة الأولى استخدام مدرعات الماء البارد التي أغرقت المشيعين والمحتجين (3). اشتعلت المنطقة سريعاً، وبقيت المواجهات بين الطرفين ملتهبة حتى وقت متأخر من الليل، إصابات بالشوزن ومداهمات واعتقالات، دخلت منطقة المصلى القريبة على إثرها في المواجهة بعد اقتحامها بالمدرعات وتفعيل الأخيرة لأدوات الدفاع المقدس وفق ما ورد لمرآة البحرين، كما تم اعتقال عدد كبير من المتظاهرين بوحشية بعد إشباعهم ضرباً في الشوارع وداخل البيوت وفق ما ذكر شهود.


■ كلنا راجعين


طوال النهار، كان الشارع يترقب صدور بيان ائتلاف شباب 14 فبراير الذي وعد بإعلان فعاليته لهذا اليوم. تلاقي فعاليات الائتلاف   صدى واسعاً   في الشارع وهو ما يجعل النظام يعمل حسابا لبياناته وفعالياته ويعد لها العدة في المواجهة، لذا يعمد الائتلاف إلى استراتيجية المفاجأة إرباكاً للنظام. كان كل من المحتجين وقوات الأمن في ترقب إصدار البيان وإعلان الفعالية. تأخر البيان كثيراً عما كان متوقعا. قوات الأمن استهلكها اليوم الطويل، ربما لهذا خطط الائتلاف، في وقت متأخر ومفاجئ يعلن الائتلاف ساعة الصفر: الساعة السادسة وأربعين دقيقة. يعلنها جمعة التحرير تحت شعار "كلنا راجعين". ثم يعقبها بالإعلان عما يسميه محاور الزحف وهي كل من النعيم والديه والمقشع والزنج، وهي المناطق التي كانت أقل محاصرة على ما يبدو، كما أعلن عن بدء فعالية طوفان السيارات بطول شارع 14 فبراير والكوبري المطل على الميدان.

دقائق، ويبلغ الاستنفار مداه من قبل قوات الأمن التي هبت لمحاصرة المناطق التي تم الإعلان عنها، فيما هبت المجاميع من هذه المناطق زحفاً باتجاه الدوار، عشرات الزاحفين والزاحفات وصلوا قريباً، واعتقلوا، الكر والفر صار لعبة الشباب ومأساة رجال الأمن(4). المناطق اشتعلت بالاحتجاجات، وكعادة الأمن ومرتزقته، عندما يريد أن يخفي جرائمه عن أن يأتيها بشكل مباشر، يرسل بلطجيته ليقوموا بالواجب، تعرض عدد كبير من المحتجين في منطقة المقشع إلى طعنات بالسكاكين في مناطق مختلفة من الجسم، بعضها بالغ العمق، على يد مرتزقة يلبسون ثياباً مدنية. كما تم تعرضت منطقة باربار لقمع عنيف بالغازات الخانقة.


■ طوفان 14 فبراير


أما شارع 14 فبراير، فلم تمض سوى دقائق حتى بدأ يشهد ازدحامه استجابة لفعالية الائتلاف، المئات من السيارات توافدت من فورها إلى هناك. الشارع الذي تمت تسميته بهذا الاسم من قبل شباب الثورة، لأنه يؤدي إلى الميدان وإلى الكوبري المطل على الميدان. تزايدت أعداد السيارات وبدأ الازدحام يعطل حركة الشارع تماماً، وصل عدد السيارات إلى الآلاف، امتدت مصابيح السيارات على طول الخط الواصل من شارع البديع نحو شارع 14 فبراير والكوبري المطل على الميدان. وفيما توافدت قوى الأمن   لتمتد هي الأخرى على طول الشارع شاهرين أسلحتهم، لم ينجح ذلك في تقليل حجم المشاركة في الطوفان الحاشد والهادر. تجرأت بعض السيارات وأطلقت أبواقها بالنغمة المشهورة تن تن تتن. فيما تواردت أنباء عن غلق منافذ الهايوي منعاً لتجمد الحركة تماماً.

هكذا مر يوم 17 فبراير في ذكراه الأولى. انتهى اليوم ولم ينته، كما لم ينته عندما كان قبل عام، ستبقى الأيام مفتوحة على الحدث حتى تحقيق النصر.







التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus