قلب محمد العاري: بين رصاص الجيش ومحاكم العسكر

2012-03-01 - 8:19 ص








مرآة البحرين (خاص): يوم الثامن عشر من فبراير/شباط 2011، كان اليوم الذي شاهد فيه محمد الساري جيش بلاده بهذا القرب، قُربا بدا حميمياً في تلك اللحظة، إلى حدّ إسالة الدماء من الأجساد العارية.
 
الساري بعد الإصابة
بدأت في ذلك النهارعلاقة استثنائية مع النظام الذي قتل جيشه مواطنيه العُزّل، محمد الساري كان شاهداً وكاد أن يكون شهيدا، شاهد على بشاعة العسكر، وجنون الرصاص حين ينطلق نحو صدرٍ يحمل عشقا للوطن حراً كريماً.

ككل الشباب الذين خرجوا ينشدون وطناً أجمل، حمل الساري علمه بيده، وانطلق صبيحة يوم الرابع عشر من فبراير/شباط، لينضّم إلى الثورة، التي لم تكن قد اشتدت حينها، تعرّض للضرب على أيدي العسكر، لكن ذلك لم يمنعه من الوجود في قلب الدوّار يوم السادس عشر من الشهر نفسه، قبل الهجوم الدامي فجر السابع عشر الذي أصيب على إثره بقنبلة صوتية في يده، وتم تحطيم سيارته.

في الصدر رصاصة

بعد ختام عزاء الشهيد علي مشيمع، توجهت الجموع الثائرة إلى دوّار اللؤلؤة، تطالب بالعودة، إلى تلك البقعة الحرّة من وطن مسلوب الإرادة.
تقدّم الساري مع جموع الشباب، لم يعتقد ... أن الجيش الذي لم يخض حرباً حقيقية يوماً، ان حربه الأولى ستكون ضد شعبه الأعزل، لكن الرصاصات انطلقت، قاسية مُوجعة، استقرت إحداها في رأس الشهيد (بوحميد)، وأخرى في صدر الساري التي ثقبت جسده، فدخلت من صدره وخرجت من ظهره، وكاد أن يكون شهيدا، المشهد السوريالي ساعتئذ، رسم خط العودة إلى الدوار مُعبّداً بالدماء بدل الورود.
حُمل (بوحميد) في طريقٍ طويل قبل أن يصل إلى سيارة الإسعاف الواقفة على مسافة كافيّة لتجنّب الرصاص، وحمل الساري أيضاً، زميل رصاصته. كان ينزف بشدة، وبدت حالته مستعصيّة حينها، أُدخل مباشرة إلى غرفة العمليات، وتبيّن أن الرصاصة قد مزقت رئتيه وبعض الأوردة والشرايين الرئيسة، وأحدثت بعض التسريبات الخطرة، بالإضافة لكسر أحد عظام الكتف.

على بُعد خطوات من الموت، ظلّ الساري يتنّقل من عملية إلى أخرى، خاض ثلاث عمليات جراحية خطيرة خلال ثلاث أسابيع، استغرقت كلٍ منها قرابة الخمس ساعات، وبقيّ في غرفة العناية المرّكزة في الطابق الثاني، طيلة هذه المدة، قبل أن يتمّ نقله إلى قسم العناية في الطابق الأرضي جناح 11.

لم يتحسّن وضعه الصحيّ، بفعل التسرّبات داخل جسمه، فاحتاج لرعاية مستمرة، إلى أن أصدر وزير الصحة السابق أمره بإرسال الساري للعلاج بالخارج، وكان ذلك في يوم 20 فبراير/شباط، تفادياً لتدهور حالته الصحيّة.

 
الدكتور صادق عبدالله
يوم الخامس عشر من مارس/آذار، الساعة 2:50 دقيقة فجراً، كان من المفترض أن يكون محمد على متن الطائرة، برفقة الدكتور صادق عبدالله، متوجهاً للعلاج في الخارج، لكن دخول درع الجزيرة الذي جاء مع إعلان (حالة السلامة الوطنية) وما نتج عنه من إغلاق مداخل الطرق ومحاصرة القرى، وصعوبة نقل محمد بسيارة الإسعاف، كل ذلك دفع بالطبيب لتأجيل السفر، خاصة مع استباحة المناطق التي أسفرت عن سقوط العديد من الجرحى، ما اضطر الدكتور صادق عبدالله قبل اعتقاله لاحقا، لاتخاذ قرار البقاء بالمستشفى خشية وقوع إصابات خطيرة تستدعي تدّخله.

اعتقد الطبيب حينها أن التأجيل لأيام معدودة فقط، ولم يعرف أن تلك الرحلة لن تكون أبداً. ففي صبيحة يوم الأربعاء 16 مارس/آذار أُستبيح مستشفى السلمانية، فقد تم اقتحامه من قبل قوات وزارة الداخلية مدعمّة بالجيش، الذي حضر بكامل تجهيزاته من دبابات وطائرات مروحيّة. اعتقلوا الأطباء، والجرحى، وسُرح الآخرون وجميع مرافقي المرضى، وتم نقل المصابين للطابق السادس جناح 62 الذي اشتهر باستغلاله لتعذيب الجرحى آنذاك، ولم يُعاد إلى الجناح رقم 11 إلا بعد إلحاح شديد من الطبيب لسوء حالته الصحيّة، ولحاجته لأن يكون تحت المراقبة الطبية المستمرة.

حاول الطبيب استئناف إجراءات السفر، وطلب من الإدارة استكمالها. رفضت الإدارة العسكرية للمستشفى طلبه تحت أعذار مختلقة.

ومع استمرار مماطلة الإدارة لاستكمال الإجراءات، اضطر الطبيب المُعالج لإجراء عملية للمريض بتاريخ 28 مارس/آذار لربط الأوعيّة الدموية ووقف التسربات داخل جسمه بصورة مؤقتة للسيطرة على حالته الصحيّة، وضمان استقرارها.

لم يمض يومان على إجراء العملية الإضطرارية الخطيرة حتى تفاجأ أهله باختفائه من مستشفى السلمانية، وعلموا بعد ذلك أنه قد نُقل إلى المستشفى العسكريّ سراً في 30 مارس/آذار. ورغم المحاولات الكثير من قبل أهله لمتابعة حالته الصحيّة في المستشفى العسكري، إلا أن إدارته كانت دائماً تنفي وجوده بالمستشفى.

وقد اتضح فيما بعد أنه كان يرقد بالمستشفى العسكري، مُقيّداً بالسرير، معصوب العينين، رغم حالته الصحيّة الحرجة التي تستدعي رعاية خاصة، ومنذ ذلك الحين فقد أهله الاتصال به.

إلى أن جاء يوم 31 مايو/أيار تلقىّ الأهل أول اتصالا من ابنهم داخل سجن "الحوض الجاف"، يُخبرهم فيه بتاريخ محاكمته، والتي ستتم في 7يونيو/حزيران، ويطلب منهم توكيل محام له، الأمر الذي استعصى على الأهل تنفيذه وقتها، لازدحام المحامين بالقضايا العديدة التي كانت في ذلك الوقت.

داخل أروقة المحكمة، حضر الساري مُثخناً بجراحه التي لم تندمل، وتفاجأ بأنها جلسة النطق بالحكم. أصدر القاضي العسكري حكمه بسجنه ثلاث سنوات مع النفاذ، موجهاً له تهمة إثارة الشغب والتجمهر، متجاهلا أنه ضحية رصاصة طائشة.

وبعد جلسة الحكم، تم توكيل محامٍ له، أقام الاستئناف، وطعن في دستورية المحكمة، وطلب عرض المتهم على الطبيب الشرعي، لكن المحكمة لم تستجب له في جلسة الاستئناف التي كانت في 26 يونيو/حزيران.

قدّم المحامي مذكرة دفاع طعن فيها بقانونية طريقة اعتقال المتهم المريض، وقد تجاهلت المحكمة كل مذكرات الطعن التي تقدم بها المحامي، الا أنها قامت بتخفيف الحكم إلى سنتين مع النفاذ.

في سجن "جو"، الذي يضج أمراضاً، يقضي الساري عقوبته، وسط مضايقات وإهانات سجّانيه، ومع تدهور حالته الصحية، اضطر والده إلى رفع رسالة إلى النائب العام العسكري، يطلب فيها مراعاة حالته الصحيّة، وعرضه على الطبيب الشرعي، لكن لم يُستجب لرسالته أبداً.

شهادات الأهل والأصدقاء

بين أهله واصدقائه، بدا محمد حاضراً رغم الغياب، يقول شقيقه "حسين": أميّ قوية وصامدة، لم تبكِ سوى مرة واحدة، لحظة علمت أن الرصاصة قد اخترقت صدر محمد وخرجت من ظهره، بعاطفة الأمومة الطبيعية، لم تتحمل تصوّر المشهد، وأبي أيضاً ثابتٌ صامد، لديه ثقة عظيمة بالله لولاها لهلك منذ زمن".
يقول والده "ما حصل لمحمد جريمة.  يجب أن يكون مكانه  سرير العمليات لا زنزانة السجّان، أريد أن يُفرجوا عنه، لا ليعود إلى المنزل، بل ليُكمل علاجه، أنا أخشى على حياته كثيراً، فبعض جروحه فيها مازالت ملتهبة، وإدارة السجن لا تستجب لطلبه بالذهاب لمستشفى السلمانية للعلاج، وتأخذه الشرطة إما إلى المستشفى العسكري أو إلى عيادة القلعة عوضاً عن ذلك".

ويكمل الأب بتوّجع:" محمد يُضرب عن الطعام أحياناً احتجاجاً على عدم أخذه للعلاج، أود لو يأخذوني مكانه رهينة ويتركوه للعلاج".

شهادات المقرّبين منه، شقيقه، أصدقاؤه، زملاء الوجع والقضبان، اتفقت جميعها على الروح المُحاربة التي يحملها الساري، والتي تشتعل لتستكمل الطريق المظلم بالقدرة والقوة ذاتها التي بدأ بها، رغم جراحه الآن.

شهادة فيصل هيات

 
الصحفي فيصل هيات
الصحفي (فيصل هيات)، الذي اعتقل وعُذب في فترة (السلامة الوطنية)، شاءت الصُدف أن يكون زميلاً للساري، شاهداً على بشاعة ما عاناه وما زال، يقول: "عندما تم إدخالي إلى عنبر مركز شرطة النعيم، فوجئت بشاب طريح الفراش، يستخدم شيئاً ما يساعده على التنفس. كان جرحه ما يزال طرياً، ولا يستطيع الحركة دون مساعدة، تماماً كقدرته على الكلام".

يكمل فيصل "بعد يوم واحد، تعارفنا تحدّث عن  اللحظة التي أصيب فيها، حيث سقط على الأرض، ثم اتكأ على العلم الذي ظل في يده، نهض، ثم سقط مرة أخرى، وكانت الرصاصة قد اخترقت صدره وظهره، وأصابت عمود الإنارة".

‏"تقاربنا كثيراً، بات الأقرب إليّ بين بقيّة المعتقلين، كنا ننام في الزنزانة نفسها في مركز النعيم، إلى أن  نُقلنا إلى "الحوض الجاف". وخلال وجودنا في مركز النعيم، تحدّث عن معاناته بعد نقله من مستشفى السلمانية إلى المستشفى العسكري. يقول: "كانوا يضعون ضمادتين كاملتين حول عيني، ولا يتوقفون عن شتمي بمختلف الشتائم، وصولاً إلى ضربي على الجرح، كانت أصعب اللحظات على الإطلاق".

ويتابع هيات قائلا :" في الحوض الجاف، وضعونا في زنزانتين مختلفتين، برغم ذلك، كنا نجتمع كل مساء لتناول وجبة العشاء، وفي إحدى الليالي ارتفعت حرارته، فقمت بوضع "فانيلتي" في ماء بارد ووضعتها على جبهته، كان يرتجف من شدة الحرارة، ويرفض الذهاب للعيادة، لأن هذا  "المشوار" محفوفا بالضرب والشتائم، وبفضل الله انخفضت حرارته".

ويختم زميل القضبان فيصل هيات فيقول:" كان ينوي عقد قرانه في الدوار، فقد أخبرني أنه كان  يجهّزالترتيبات الخاصة بذلك".

محمد الساري، شابٌ ثائر، ما زال إلى اليوم يُقدّم لنا دروساً في القوة والثبات، وما زال يصرخ:لي مطالب، ولي شعبٌ سينتصر.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus