انتصار آل يعقوب زوجة الشهيد الحايكي: وهبني بروحه فخر اللقب ووهبته من اسمي انتصاراً أبدياً
2016-08-04 - 11:02 م
مرآة البحرين (خاص): المأتم يغص بالنساء اللاتي تقاطرن من كل مناطق البحرين معزيات ومهنئات، تستقبلهن أم حسن والدة الشهيد بابتسامة يختلط رضاها بحرقتها، تجلس إلى جانبها زوجة الشهيد الملتاعة، وأخته المتجلّدة. إنه اليوم الأول لعزاء الشهيد حسن جاسم الحايكي (36 عاماً) بعد أن تم تشييع جثمانه الثلاثاء 3 أغسطس 2016.
أم الشهيد: دمعة لا تنشف
"ماذا أقول عن حسن، لا يوجد لديه أي خطأ" تهمس الأم لمعزياتها، تشهق بأخلاق ابنها البكر، وتربيته الصالحة وسلوكه المستقيم.
عرف حسن بابتسامته المرسومة دائماً على وجهه، وعلاقته الحميمة مع والديه، يسكن مع زوجته في شقة في الطابق العلوي لبيت والده. يحب الجلوس مع والديه فوق سريرهما، يضفي السعادة عليهما بروحه التي تحب الدعابة والمرح. يطل على والدته كلما همّ بالخروج أو الدخول، يمازحها ويلاطفها. مع غيابه عن البيت غاب المرح وساد الوجوم.
في يوم استشهاده 30 يوليو 2016، اتصل حسن بعائلته قرابة الساعة الرابعة عصراً. كان صوته ضعيفاً. سأل أمه: أماه ما أخبارك؟ أفكر فيك دوماً. ثم راح يلاطفها بصوته المتعب: ماذا طبخت اليوم؟ تجيبه الأم: يا ولدي منذ اعتقالك حتى اليوم لم ألمس قدراً. الطبخ نَفْس يا ولدي، لا نَفَس فقط.
يكرّر دائماً أمام والدته: ماما.. تخيلي أصبح شهيد!
ترفض الأم: لا ماما.. أمهات الشهداء دمعتهم لا تنشف..
يجيبها: لا ماما أنت تستطيعين، إذا صرت شهيدا أنت ستصيرين قوية، ستتحملين المصاب.
الأم المتكئة على جرحها البليغ، تجلس في طرف المأتم، تتحسّس حسرتها، تستحضر قوتها، تتكئ على عبارة ابنها: "إذا صرت شهيداً، ستصيرين قوية". تُنَشِّف دمعتها.
عذَّبوني.. عذَّبوني..
في زيارتها الوحيدة له في سجن الحوض الجاف 25 يوليو 2016، لم تستطع عائلته السلام عليه أو معانقته بسبب الحاجز الغليظ بينهم. كان منهاراً وشاحب الوجه، أخبر عائلته عن التعذيب الشديد الذي تعرّض له في مبنى التحقيقات: "كانوا يركزون على ضربي على رأسي والأماكن الحساسة في جسمي. ولكثرة ضربهم على رأسي أحسست بأن رأسي انتفخ، لم أعد أستطيع النوم من وجع رأسي، ربطوني بالسلاسل، عذبوني ..عذبوني.. بقيت 4 أيام واقفًا على قدمي عارياً بلا ملابس.
يكرر لعائلته المرة بعد المرة: "عذبوني.. عذبوني"..
إنها المرة الأولى التي ترى فيها العائلة ابنها منهاراً. كانت الأم تخشى انهيارها حال رؤيتها ابنها، وتحاول تقوية نفسها قبل اللقاء، لكنه فاجأها وفاجأ الجيمع، حاولت التماسك من أجله، لكن الجميع انهار معه. كان متعباً نفسياً ولا يرغب في الطعام. إحساسه بالظلم الواقع عليه كان كبيراً جداً. في نهاية الزيارة، عندما ودّعته عائلته، كانت دموع حسن تتساقط بلا توقف. قال لهم: هذا ليس مكاني.
(X) كبيرة وعقاب كبير
بقى الشهيد في مبنى التحقيقات الجنائية منذ 4 يوليو وحتى 22 من الشهر نفسه، أي 18 يوماً من التعذيب. طوال مدة تواجده في التحقيقات وحتى نقله لسجن الحوض الجاف حتى وفاته، لم يتمكن حسن من رؤية المحامي الذي تم توكيله له رغم محاولات الأخير.
وعندما طلبوا منه التوقيع على الاعترافات المكتوبة، طلب منهم قراءة الورقة أولا، وقال: "من حقي قراءة ما كتب باسمي"، رفضوا إعطائه الورقة بداية، لكنه أصر. وعندما قرأ الورقة قال لهم: "كيف أوقع على اعترافات لم أقلها وأفعال لم أقم بها؟" ثم وضع علامة (X) كبيرة على الصفحة رفضاً منه للتهم التي لفقت إليه.
علامة (X) الكبيرة التي وضعها، كان عقابها كبيراً أيضاً، وجبات مكثفة من التعذيب والضرب المبرح، حتى تم وضع السلاح على رأسه مباشرة وتهديده بتفجيره.
كانت صدمته الكبرى عندما نقل إلى الحوض الجاف وشاهد صورته في إحدى الصحف بتهمة تفجير العكر وقتل الشهيدة فخرية المسلّم. وصدم أكثر عندما وجد نفسه مزجّاً في تهمة تتعلق بالتواصل مع الحرس الثوري الإيراني. تؤكد زوجته: "لقد زار إيران معي مرة واحدة منذ خمسة أعوام، ومع حملة بحرينية، لم يذهب لإيران وحده".
في زيارة عائلته كان يعبّر لهم عن صدمته تلك: "كيف يشهّر في الصحف والقضية لا تزال قيد التحقيق؟!!". كأن حسن لا يعرف أن هذه السلطة ديدنها التشهير والقذف والتنكيل، وآخر همّها حق الإنسان. حتماً هو يعرف، لكن أن تعرف ليس كما تعيش.
ترقية ليست لأي أحد
لم يشك حسن من أي مرض طيلة حياته. لم يأخذ إجازة مرضية من عمله في شركة ألبا طيلة 13 عاماً هي مدة عمله. بدأ العمل في الشركة قبل تخرجه من معهد البحرين للتدريب. يحب عمله ويحرص عليه بدرجة كبيرة. في أحداث 2011، ورغم مشاركته في اعتصام دوار اللؤلؤة، إلا أنه عندما أضرب العمال عن العمل، لم يغادر المصنع. كان خائفا على الشركة، بقى في المصاهر لمدة يومين كاملين، لم يرد تركها كي لا تنفجر.
تميز في دراسته وعمله، حصل على شهادات تكريم كثيرة من المعهد، كان من الأوائل في قسم الكهرباء والإلكترونيات، وكان ينتظر ترقية وظيفية خلال الشهر الذي استشهد فيه، لم يكن يعرف أن ترقية أخرى تنتظره. ترقية ليست ينالها أي أحد، وليست يُختار لها أي أحد، لقد نال ترقيته من الله مباشرة.
زوجة الشهيد: الحبيب على هيئة جَنّة
انتصار عبد النبي آل يعقوب زوجة الشهيد، تجلس إلى جانب عمتها (أم حسن)، تستمد منها القوّة التي وعد حسن بها والدته. لم يشأ الله أن ترزق انتصار وحسن بأولاد رغم زواجهما قبل 9 أعوام. وكانا يحاولان من أجل ذلك.
في صلاته يكرّر الدعاء طالباً من الله أن يرزقه شيئين: الشهادة والذرية الصالحة.
تقول له زوجته: كيف يا حبيبي تدعو بالشهادة والذرية الصالحة في آن واحد، كلاهما معاً لا يكونان..
يجيبها: إن كان الله لم يكتب لنا بالذرية في الدنيا سيرزقنا إياها في الآخرة
يردد على مسامعها: إن لم ترغبي أنت في الشهادة سأكون شهيدا وسأبني لك قصراً في الجنة.
حين تتحدّث انتصار عن زوجها، الشهيد تفيض في تكرار كلمة حبيبي، وكأنها تستنشقها، أو كأنها تريد أن تمتلئ بها، أو كأنها تخشى أن تُحرم من نطقها.. تقول: "حسن حبيبي، حبيبي، جنة تمشي على الأرض، شيء لا أستطيع وصفه، كان حنوناً مرهفاً، طوال تسع سنوات هي مدة زواجنا، لم يحدث بيننا زعل، لم ننم متخاصمين حتى ليلة"
تضيف "لأني من منطقة المعامير فهو دائماً يحضر معي هناك. أحبه الجميع أخواني، أمي، أبي، حتى عمي شقيق والدي أحبه كان يقول لي زوجك ملاك يمشي على الأرض، كان مبتسما دائما، يحب خدمة الآخرين القريب والبعيد، حسن حبيبي لا يعوض، لا يعوض، من الصعب أن أتخيل الحياة بدونه" تنسال الدموع من عيني انتصار..
تكمل: "حسن حبيبي إنسان مسالم، يحب عمله ويحب بيته وبينهما يتوزع يومه. حسن شخصية محنكة وطلقة في الكلام، لم أتوقع أبداً أن يستهدف، ولم يتوقع ذلك أي من أهله، لماذا يستهدف حبيبي، هل لأنه متواجد كثيراً في المعامير وعادة ما تحدث مناوشات فيها، لكن حبيبي من البيت إلى العمل فقط". تردف: دائما كان يهيئني إلى كنية "زوجة الشهيد"، والفخر الذي سأناله من هذه الكنية".
تسترسل: "حبيبي ليس له علاقة بالتهمة التي نسبت إليه، لكن الله اختاره لينال الشهادة، انتقاه من بين كل هؤلاء الناس، وأنا أعطاني القوة حبيبي، أعطاني القوة حبيبي، أخذت القوة منه، كنت ضعيفة القلب لا أتحمل أي شيء، لكن بعد شهادته أحسست بأنه أعطاني قوة لم تكن لدي".
قوّات الأمن في غرفة النوم
في صباح 4 يوليو، كانت الساعة تقارب السابعة، كان حسن نائماً وزوجته عندما سمعا طرقاً مفزعاً على الباب. لم يلبثا أن وجدا قوات الأمن معهما غرفة نومهما طالبين من زوجته أن تغطي نفسها. بقت الزوجة واجمة مصدومة متيبسة في مكانها.
طلبوا هوية حسن، وسمعت الزوجة أحدهم يقول عبر البرقية: "هذا الشخص غير مطلوب ملفه نظيف، ولا توجد عليه قضايا". فتّشوا البيت ووجدوا لديه إلكترونيات في الغرفة العلوية "كان زوجي يحب برمجة الريسيفرات، كانت هذه هوايته، وهي مجال تخصصه في المعهد" تقول الزوجة. عندما شاهدوا الريسيفرات قالوا: "هذا لديه إلكترونيات، هذا ربما ضابط إلكترونيات". أخذوه.
في اليوم التالي اتصل حسن لعائلته وطلب توكيل محام له. لم يقل أكثر من هذا. لكن هذا الطلب كان كافياً لأن يتعرض لوجبة تعذيب شديدة جداً. هذا ما أخبر به عائلته أثناء الزيارة الأولى والأخيرة.
في الزيارة الوحيدة، شهدت العائلة انهيار حسن كما لم تره يوماً. ظل حسن يخبر عائلته عن التعذيب الذي تعرض له، خافت زوجته أن يسمعوه فيغلظوا عليه بعد الزيارة. أجابها: ماذا سيفعلون بي أكثر مما فعلوه، أنا منذ اللحظة الأولى لاعتقالي، منذ ركوبي السيارة معهم بدؤوا بضربي على رأسي، لم يتوقفوا من ضربي على رأسي، وعلى المناطق الحسّاسة. تقول الزوجة: "كلماته قطّعت قلوبنا، كلماته ذبحتنا، دموعه تناسب كالميزاب، كان مؤلم للغاية " شي يعوْر" عندما هما بالخروج قال لي "عمري كنت أتمنى معانقتكم" الحاجز منعنا من ذلك، كلما أتذكر كلمته هذه يتقطع قلبي حسرة، لم نستطع معناقته عناق الوداع الأخير، لم نستطع أن نلمسه، لم نتوقع أنها المرة الأخيرة التي نراه".
الشهيد مستجدياً: لا تخلوني.. تعباااان
تتحسّر زوجته: "لا زالت استجدءاته الأخيرة ترنّ في أذني، كان يرد في اتصاله قبل الأخير: "لا تخلوني، لا تخلّوني"، وفي اتصاله الوداعي يوم استشهاده كانت آخر عبارة قالها لي بصوت ضعيف: أنا تعباااان، أنا تعباااان.." تبكي الزوجة.
تحكي الزوجة عن تلقيها لخبر الاستشهاد: "بعد أن تلقينا مكالمته الأخيرة مساء السبت 30 يوليو صعدت إلى شقتنا التي هجرتها منذ اعتقاله، دخلت غرفة نومنا، كنت أخبئ قميصا له لم أغسله حتى أستطيع شم رائحته، اعتنقت القميص وصرت أبكي. ثم ذهبت إلى بيت والدي كان وجهي متجهما، خافت أمي عليّ، كانت كلماته تؤلم قلبي: أنا تعباااان، أنا تعباااان.."
تكمل: "نمت في بيت والدي، صباح الأحد كنت أتناول فطوري مع والدي عندما جاءني اتصال من أخت زوجي. تفاجأت توقعت أنها ستخبرني بأنهم حصلوا على توكيل للمحامي، لكن لم أسمع غير بكائها. سألتها ما الذي حدث أخبريني؟ لم تقدر على إخباري. طلبت مني أن أعطي الهاتف لوالدي، استغربت من طلبها، وأنا ارتجف سلمت الهاتف لوالدي، لحظتها سمعت والدي وهو يصرخ" ماذا تقولين؟؟!!! مات؟!!!" لحظتها أصابتني صدمة، تساءلت ما الذي حدث، صرت أشاهد والدتي وهي تضرب على رأسها، هرولت إليها لا تبكي هو لم يمت، أردت معاودة الاتصال بأخت زوجي أحسست بأن يدي مشلولة، كلمتها مرة ثانية نادتني " تعالي، تعالي"، عندما دخلت بيت زوجي تأكد لي الخبر عندما رأيت والدة زوجي، أخته في صراخ الموت، ومع ذلك صرت أكذب الخبر.
الموتة (غير) الطبيعية
تضيف: "قالوا لنا مات موتة طبيعية، قلت لهم حبيبي لا يشكو من شيء منذ أن تزوجنا لم أره يشكو من شيء، كان فقط يشكو من الدوالي وأجريت له عملية جراحية لنتمكن من الإنجاب، وعندما قال لهم ذلك زاداوا من تعذيبه على المناطق الحساسة".
سجلت الزوجة مع عائلة الشهيد إفادتها في التحقيقات يوم الاثنين1 أغسطس بعد أن تم استدعاؤهم لذلك، أرادوا من العائلة أن تشهد أنه يعاني من مرض نقص الخميرة، وهو ما تنفيه كل تقارير الفحص الدورية التي تقوم بها شركة ألبا لموظفيها.
تقول انتصار: لم أستطع إلقاء النظرة الأخيرة على زوجي في المغتسل، لم أعتد أن أكلمه ولا يجيبني، لم أعتد الذهاب في أماكن مزدحمة، زوجي كان غيورا، أعرف أنه لا يحب لي ذلك، كنت منهارة جدا، صورته لا أستطيع رؤيتها، زوجي ظلي، كان يخاف عليّ ولطالما قرأ المعوذات عليّ عندما أهم بالخروج". تردف: "أنا فخورة بحمل لقب زوجة شهيد الذي كان يتمناه لي. في اتصاله الأخير طلب من أخته أن تشتري لي طقما من الذهب، لم أكن أعرف أنه سيلبسني قلادة الشهادة، فخورة به، وبشهادته. حسن أنا أراه انتصارا، أنا اسمي انتصار. أخذ النصر حبيبي، أعطيته اسمي في الشهادة، وأعطاني المعنى لاسمي".
أخت الشهيد: كان يودّعنا.. عيشوا حياتكم
لم تذهب الأخت ميسون لوداع أخيها في المغتسل، كذلك والدته وزوجته لم تفعلا، "جميعنا متعبون.. لا طاقة لنا" تقول ميسون أخت الشهيد.
تتعجب ميسون من تقرير الطبيب الشرعي الذي يفيد بأن الوفاة (طبيعية): "كيف؟ هكذا مرة واحدة، لم يكن يشكو من أي مرض؟ وبعد أيام قليلة من إخبارنا بما لاقاه من وطأة التعذيب في مبنى التحقيقات الجنائية".
تشرح ميسون عن اعتقال أخيها: "اعتقل أخي حسن لأنه وبالصدفة في نفس ليلة استشهاد (فضيلة مسلم) وتفجير العكر، كان قد أوصل أحد أصدقائه إلى هناك. صديقه حسين المرزوق يعمل كهربائياً، وقد احتاج ليلتها الذهاب إلى العكر لقضاء بعض الأعمال، فاستعان بحسن كي يوصله، أخي يحب مساعدة الآخرين ولا يرد لأحد طلباً". تكمل "أخي كان ليلتها متواجدا في البيت منذ الساعة 11:30 مساء، عندما حدث التفجير كان في طريقه إلى البيت".
منذ اتهام أخيها بقضية التفجير وميسون تعيش رعباً حقيقياً. كانت خائفة على أبيها المريض وأمّها المتعلّقة بابنها. لكن لم تتوقع أن يأتي خبر كهذا، وبهذه السرعة. في اتصاله الأخير بدا وكأنه يودع الجميع، تقول أخته: "في اتصاله الأخير طلب مني شراء طقم من الذهب لزوجته وأوصاني بها، ثم أوصانا على أنفسنا: لا تقلقوا.. عيشوا حياتكم.."