فاضل العبيدي: صمود حتى 9مارس

2012-03-13 - 3:05 م




وأنت تخوض حروبك ، فكر بغيرك (لا تنس من يطلبون السلام)
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك
(قل: ليتني شمعة في الظلام
)
                      محمود درويش

مرآة البحرين (خاص): فجر العاشر من مارس، احتضن الأب المثكول  بابنه الحاج ميرزا العبيدي، ابنه الآخر الذي كان يبكي أخاه بمرارة وسط صراخ النساء داخل المنزل، ماذا قال الأب في تلك اللحظات المريرة؟ قال لابنه وهو يمسح على ظهره برفق: "حينما يصنع الظالمون شوارع الظلام، فإنها تحتاج شمعة تنيرها، أخوك شمعة ياولدي، أخوك شمعة تنير درب الحرية". في هذا الأب كان سرّ الابن، منه استمد الشهيد فاضل العبيدي صموده وصبره وجَلَده.

كان فاضل محباً لأبيه الحاج ميرزا، الرجل الذي يقضي ساعات من يومه في خدمة مكتب (البيان) التابع للشيخ عيسى قاسم، هناك يجلس الحاج ميرزا العبيدي خلف مكتب السكرتاريا مستقبلاً الزائرين وأصحاب الحوائج. رجل هاديء لا يتكلم كثيراً، لكنه مليء بالصبر.

لم يكن سهلاً على (مرآة البحرين) الوصول إلى عمق حكايته حيث الإنسان فيه يسبق الشهيد، ففاضل رغم حياته البسيطة ظاهراً، لها تعقيداتها الخاصة. كيف تصل لحكاية فاضل دون الوصول إلى أصدقائه المناضلين، وكيف تصل إليهم وهم مطلوبون لأجهزة الأمن الشرسة؟، تلك التي يحكم بها ملكٌ سلّم البلاد لوزير ديوان مليء بتاريخ حقد عائلي. أخيرا وصلت (مرآة البحرين) وكان بانتظارها آخر من تحدث مع الشهيد فاضل، قبل لحظات قليلة فقط من إصابته القاتلة.

 صمود حتى الموت

فاضل من مواليد 1990 رياضي رفع اسم مدرسته في ألعاب الجمباز، شارك باسم مدارس البحرين في بطولة المدارس في دولة الكويت ذات عام. بعد المدرسة، لم يجد فاضل غير بطالة الواقع، رغم محاولات العمل هنا وهناك، إنه الوطن الذي بات ضيقاً على أبنائه، لم يطلب سوى عمل ثابت بسيط، لكن كيف وسياسة التمييز تنخر عظام هذا الوطن.

بقى فاضل عاطلاً، عدا وظائف غير مجدية وغير ثابتة هنا وهناك، مثل المئات من الشباب، وجد في يوم 14 فبراير 2011 أفق الحياة من جديد، أفق الكرامة والعدالة، أفق ربيعٍ جديد تخضرّ به أرض أوال بعد طول يباس، إنه أفق الثورة!

دخل التجربة، صقله مختبر 14 فبراير، تنفس مثل كل البحرينين لأول مرة نسيم الحريّة، قبل أن تتكالب جيوش السعودية والإمارات ومرتزقة النظام على شعبه الأعزل، تعمّقت الجروح في جسد الشعب، بعد انجلاء أشهر قانون الطوارىء، يرسل له أحد أصدقائه رسالة عبر البلاك بيري "ويش يالخال بعد صمود"، يرد فاضل "صمود حتى الممات".

خاض الشهيد فاضل مرحلة فرض الإرادة الشعبية، عادت الثورة تتألق، كان مؤمنا جداً بهدفه، يقول صديقه المطلوب للأمن "كان فاضل يعمل على تحقيق الفكرة التي يؤمن بها، يقترح وينفّذ، لم يكن يتكلم فقط".

 سأرحل عنكم

 
في تاريخ 27 فبراير الماضي، أي قبل يومين من إصابته القاتلة، كان فاضل يتحدث مع أبيه الحاج ميرزا، كان يقول له "انني سأرحل عنكم، إنني راحل" كان يقصد الشهادة ولم يعلم أنها تقصده، في تلك اللحظة كان مطلوباً لأجهزة القمع والوحشية، أضحى قبل أسبوعين من نهاية فبراير الماضي أحد المطلوبين في المداهمات الأمنية التي طالت فجراً  لنحو ثلاثة وعشرين  بيتاً في بلدة الدراز، لم يفلح مرتزقة الأمن تلك الليلة في القبض على أي مناضل مطلوب، كان الشباب المناضل اتخذ إجراءات احترازية، صاروا مشردّين في وطنهم، كان فاضل مشرّداً كمئات الشباب المطلوبين الذين يحملون أرواحهم على أكفهم يومياً في المواجهات مع المرتزقة.

يعتدل صديق فاضل في جلسته، وهو من المطلوبين أيضاً، يتذكر بعينين هادئتين: "بعد استشهاد فاضل، شباب الدراز يجزمون أننا لن نبكي، بل سنثأر". يضيف "ليس في قاموس الشباب المطلوبين للأمن كلمة تراجع، لا يوجد لدينا عفا الله عما سلف، قررنا متابعة الطريق حتى النهاية".
كان دور الشهيد فاضل العبيدي قوياً ومؤثراً في ميدان المواجهة، يتحرك ويُخطط، يؤمن بفكرة الدفاع المقدس ضد الاعتداءات اليومية التي يقوم بها مرتزقة الأمن، يقود مجموعة مناضلين، لا يقبل العودة عن الخط الأمامي، في المرة الأخيرة، كانت المسافة قريبة بينه وبين المرتزقة، أصابوه.

يصف صديقه صموده: "صموده خياليّ، كان ميدانيا ومنحازاً للشباب، يصر على التواجد في كل فعالية، في 13 فبراير الماضي بعد مسيرة الجمعيات، كان ضمن الزاحفين للميدان من أجل العودة، أصيب أيضاً، لكن استطاع الدخول لبيت في المقشع، أغمي عليه من الاختناق. فتح ميدان الشهداء والعودة له من جديد، كانت واحدة من أهم أماني الشهيد فاضل".

يضيف:"شارك فاضل في استعراض أقمناه في المنطقة باسم استعراض الدفاع المقدس، ولو عدتم لتسجيل الفيديو، ستجدون شاباً يهبط بالحبل من أعلى منزل، كان ذلك الشاب هو الشهيد فاضل العبيدي كان ليلتها لابساً كفنا مكتوب عليه : نحن عشاق الشهادة". يؤكد "وهب نفسه تماماً للميدان، كان يرى أن المرتزقة تجاوزوا جميع خطوط الانتهاكات الحمراء، ولا بد من ردعهم، فاستباحات المرتزقة لمنطقة الدراز يومية منذ أيام السلامة الوطنية، ولا زالت مستمرة".

 يتقدم الصفوف

في تاريخ 1مارس، كان فاضل على الشارع الرئيسي للدراز المعروف منذ التسعينيات بشارع الشهداء، في تلك الليلة ارتدى فاضل لباسا أنيقًا، قميصا مخططا وشورت طويل وحذاء رياضي، مرّ على جميع شباب الميدان، لن تجد أحداً منهم إلا وله موقف معه قبل إصابته، كان يمزح مع الجميع، كما كان له خلاف مع أحد الشباب، في تلك الليلة أوصى أحد أصدقائه بالوصول إلى ذلك الصديق والطلب منه أن يسامحه.

يصف الصديق تلك الليلة الرهيبة "بدأت المسيرة السلمية الليلية باتجاه الشارع العام. قُمعت بعنف. دخلت قوات المرتزقة تهاجم الشباب من عدة جهات، حدثت مواجهات قوية، زاد عدد فرق المرتزقة التي تهاجمنا، خضنا ثلاث جولات قوية، في الجولة الرابعة، كان فاضل يناولنا أدوات الدفاع لنصدّ الهجوم، وحينها تقدمت فرقة من المرتزقة باتجاهنا، فتقدم فاضل بحجر في يده، تم الإطلاق علينا بصورة متتالية ومباشرة باتجاه أجسادنا، كان هو قريبا جداً وتمت إصابته بطلقة مباشرة في الرأس، سقط على الأرض، جاء المرتزقة يركضون وكنا نصرخ: فاضل.. فاضل. رأينا الشهيد يتلقى الضربات بالهراوت على رأسه بكل قسوة، وهناك أثر لضربة على جبهته واضحة، ستجدونها ظاهرة في الصور.

 كان واعيًا في البداية، رأيناه حيّا فلم نتمالك أنفسنا فهجمنا على المرتزقة بقوة، أبعدناهم بالقوة، حملنا فاضل وهو ينزف بشدة، لقد غرقت ملابسه بالدم حتى حذائه، أدخلناه أحد المنازل لكن المرتزقة تتبعونا، حاصروا المنزل من الخلف، استطعنا إخراج فاضل من المدخل الأمامي، نقلناه سريعاً إلى بيت جده، أتى من يفحصه وكان يتألم من رأسه بقوة كان يفقد الوعي شيئاً فشيئاً، تم نقله للمستشفى الدولي ولم نكن في تلك اللحظات نسمع إلا صوت تنفّسه فقط كان يتحرك قليلاً، هناك في المستشفى الدولي جاء من النيابة من يريد التحقيق مع فاضل، لكنهم رجعوا خائبين بعد أن تبين لهم أن فاضل مصاب بشدة وفاقد للوعي"

 أخيراً التقاه

تسعة أيام، قضى فاضل في غرفة الإنعاش، ارتفعت أكف المواطنين في كل البحرين تدعو له، أقيمت أمسيات الدعاء في العديد من المناطق، في مسيرة 9 مارس رُفعت صور فاضل ولبس شبان قمصانا عليها صوره، أتمّ الشعب ملحمته ذلك اليوم، بعد ساعات قليلة كان فاضل الذي أتمّ يومه العاشر في سريره الأبيض، قد تنهّد تنهيدته الأخيرة. فاضت روحه مرتفعة نحو الأبدية البيضاء. هناك حيث ينتظره خاله الشهيد رضي مهدي الذي قتله مرتزقة النظام في الثمانينات من القرن الماضي داخل السجون، ودفنوه سرّاً.

"أخيراً التقاه" يقول صديق فاضل، مضيافً "كان الشهيد فاضل يفتخر بخاله الشهيد رضي مهدي الذي استشهد في السجن، لقد كان موضوع شهادته مصدر فخر للعائلة التي تعمّق لديها الإيمان بفكرة الشهادة"

يردف "انظروا للتسجيل المُصوّر الذي يكشف صلابة  الحاج ميرزا العبيدي والد الشهيد فاضل، هو رجل صلب الإيمان، لقد أبهرتنا جميعاً صلابة العائلة".

فاضل أصغر إخوته سنّاً. كان شمعة المنزل كما يُسمّى عادة الابن الأصغر في أية عائلة، صار الآن شمعة الحريّة كما أسماه والده بعد مماته بدقائق، وصل الخبر المفجع، جاء أحد إخوة فاضل مثكولاً، ضمه الحاج ميرزا لصدره، قال بهدوء "يا ولدي حينما يصنع الظالمون شوارع الظلام، فإنها تحتاج شمعة كي تنيرها، أخوك شمعة يا ولدي"

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus