الحيرة بين المُوالين والمَوالي

عبدالهادي خلف - 2012-03-14 - 2:43 م


عشية الذكرى الأولى  لإعلان الفتح الثاني بدخول القوات السعودية البحرين

عبد الهادي خلف*
مقدمة

 بعد دخول القوات السعودية لقمع انتفاضة 14  فبراير كتبتُ مقالاً توقعتُ فيه  أن  مؤرخي  هذه الحقبة من تاريخنا سيؤرخون إن البحرين فُتحت للمرة الثانية يوم السابع عشر من مارس 2011.  ولا يستطيع البحرينيون , وخاصة ضحايا درع الجزيرة, نسيان كيف أن الجنود على متن الدبابات وحاملات الجنود السعودية  كانوا يرفعون أصابعهم بعلامات النصر كأنهم حرروا للتو القدس أو الجزر السعودية التي تحتلها إسرائيل منذ أكثر من أربعين سنة.   

كان الفتح الثاني في 2011  يهدف إلى الدفاع عن على جميع موروثات الفتح الأول في 1783.  فبرغم كل ما يردده الإعلام الرسمي في البحرين والسعودية فإن التدخل العسكري السعودي  جاء سريعاً لمساعدة السلطة الخليفية على إرغام الناس على قبول إستمرارها كسلطة تعتمد شرعيتها على إعتبارها البحرين غنيمة الغزو الذي  قامت به قبل ما يقارب 230 سنة.  ومعلومٌ أن   إستمرار موروثات ذلك الغزو هي ما يضمن أن تبقى السيادة المطلقة للعائلة الخليفية البحرين لأرضها وبحرها وناسها.  ومن لم يقبل فله السيف.

في ذلك المقال وغيره  أشرتُ إلى إن الفتح الثاني لن يتمكن من تحقيق هدفه  رغم  بشاعة ما نتج عنه من مآسٍ وما سببه من ويلات عرف العالم ببعض تفاصيلها عن طريق تقارير هيئات دولية ومحلية كثيرة بما فيها تقرير لجنة البسيوني التي عينها الملك نفسه.  وبالفعل لم يتمكن الفتح السعودي من تحقيق هدفه المباشر ولهذا نراه الآن يشجع  التحركات التي تعمل تحويل البحرين إلى إمارة سعودية تحت يافطة إتحاد كونفدرالي يحفظ للعائلة الخليفية إمتيازاتها مقابل تنازلها عن السيادة والإستقلال.    

عوَّلتُ في تفاؤلي على أن البحرين منذ 14 فبراير 2011  قد تغيرت عما كانت قبل ذلك التاريخ.  فمن جهة لم تعد قوى المعارضة  كما  كانت عليه بعد أن عبرت جميع حواجز الخوف وبعد أن خذلت السلطة الخليفية حتى أكثر معارضيها نعومة ومرونة.  من الجهة تغيرت البحرين أيضاً بما شهدناه من تغييرات في  قوى الموالاة التي لم تعد كما كانت قبل أن يبدأ حراكها بمسيرة حاشدة تحت راية “الولاء للملك” في 18 فبراير الماضي.   وسأحاول في الصفحات التالية أن اعرض ما أراه  مسببات وتداعيات تلك المسيرة وما تلاها من تجمعات حاشدة أيضاً في ساحة جامع الفاتح مركزاً على ما أسميه بروز الفروق بين خطين. خطٌ يسير فيه موالون للسلطة الخليفية ولكنهم يطالبونها بأن تتعاطى معهم كمواطنين لهم حقوقهم المشروعة.  أما الخط الآخر فهو خط الموالي  يطيع بلا شروط.  بينما يرى الموالي أن طاعة ولي الأمرمن طاعة الله حتى ولو ضرب ظهورهم وأخذ أموالهم. وبعض الموالي من يعتبر أن في طاعة ولاة الأمر مجلبة للمكرمات كثيرها أوقليلها بل وحتى فُتاتها.    

مسيرة الولاء للملك والتجمعات التالية لها في ساحة جامع الفاتح

نشرت وكالة أنباء البحرين الرسمية (بنا) في 18 فبراير 2011  أن  “اكثر من 100 ألف  مواطن  في مسيرة حاشدة على الاقدام وبالسيارات دعت إليها جمعيات أهلية بعد صلاة الجمعه من مسجد الفاتح في مملكة البحرين لتجديد البيعة والولاء لجلالة الملك وقيادته الرشيدة حيث عبر المشاركون في المسيرة عن حبهم لقائد مسيرة الخير وارض السلام والمحبة التي يعيشون على ترابها”. ونقلت نشرة الوكالة الرسمية نفسها عن رئيس جمعية العلاقات العامة البحرينية ورئيس اللجنة المنظمة للمسيرة فهد الشهابي قوله في كلمته التي ألقاها في المتظاهرين :  ”إن شعب البحرين أجمع بجميع طوائفه قبل عقد من الزمان على الوقوف صفّاً واحداً دعماً لمسيرة سيدي صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين”.   

وعرفنا مما نشرته الصحف المحلية إن المشاركين في المسيرة رددوا الهتافات المؤيدة للملك وللرئيس الوزراء وولي العهد ورفعوا صورهم وأعلام البحرين.  ومن بين ما رُفع من هتافات “الشعب يريد جلالة الملك، الشعب يريد تجديد الولاء، فداك فداك بو سلمان،  من الخليج العربي غير خليفة ما نبي، البحرين عربية والقيادة خليفية ، لا سنية ولا شيعية حكومتنا خليفية” )أنظر مقاطع الأفلام  على موقع اليوتيوب)

تتفاوت التقديرات المتداولة عن المشاركين في  مسيرة الولاء للملك التي إنطلقت في 18 فبراير 2011 أو في التجمعات التالية في ساحة جامع الفاتح .  وتبالغ بعض تلك التقديرات في  تقليل العدد  فيحصره في بضعة آلاف. ويبالغ بعضها  الأخر في تزييد العدد ليوصله نصف مليون. لا أجد ضرورة للتوقف عند أي من التقديرات المتداولة.  بل أرى ضرورة التذكير بأن الأهمية السياسية/االتاريخية  لمسيرة الولاء للملك وماتلاها من تجمعات في ساحة جامع الفاتح أو غيرها من التحركات لا تتحدد بعدد المشاركين فيها بل بما ستضيفه أو لا تضيفه إلى الحراك السياسي/الإجتماعي في البلاد وما سيتمخض أو لا يتمخض عنها من تغييرات في العلاقة بين السلطة الخليفية والناس.

نعم كانت مسيرة الولاء للملك وماتلاها نقطة إنعطاف تاريخية من عدة أوجه. فمن جهة لها أهميتها الإعلامية تجاه أطراف خارجية لتبيان إن للملك والعائلة الخليفية أنصارهما بين المواطنين والمقيمين في البلاد. ومن جهة ثانية فإن لها أهمية السياسية الداخلية وخاصة في مواجهة قوى المعارضة و المعتصمين في دوار اللؤلؤة.  ومن جهة ثالثة  فلمسيرة الولاء للملك  أهميتها أيضاً في تمكين الملك وجناحه في عائلته و أنصارهما من إستعادة زمام المبادرة في ساحة الموالاة.  وهي ساحة كانت  تعج بالتحركات الداعمة لخليفة بن سلمان بما فيها المسيرات المتفرقة التي كان ينظمها جهاز العلاقات العامة لديه  ليستقبلها هو كل ليلة عند بوابات أحد  قصوره وليسمع المشاركين  وهم يرددون هتافات من قبيل  “الشعب يريد خليفة بن سلمان” و“بالروح بالدم نفيك يا بوعلي”  و”نحن جنودك يابوعلي “  بأعلى أصواتهم  ربما رغبة منهم في أن يصل صداها إلى ساكن  قصر الصافرية.  

  وحتى بدون  جهود جهاز العلاقات العامة  فلقد كانت كفة خليفة, بالنسبة للمولاة, هي كفة الأمن والأمان التي تخفف من خسائرهم  مما إعتبروه “تنازلات” قدمها الملك للمعارضة.  ومعلوم إن بعض المتطرفين بينهم سمى الملك “جعفروه” بعد أن إعتذر علناً عن قيام قواته بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين في محيط دوار اللؤلؤة مما أدى إبى إستشهاد و إصابة عددٍ منهم.  

لا حاجة هنا للتذكير بأن قيادة الساحة السياسية الموالية للسلطة الخليفية كانت قبل 18  فبراير 2011  تنحصر في جمعيتيْن  أساسيتيْن هما المنبر الإسلامي والأصالة علاوة على مجموعة معروفة من وجهاء البلاد الذين يزيد عددهم أو يقل حسب التوازنات بين أجنحة العائلة الخليفية وحدة التجاذب  بينها. xxxxxxxولقد بدا واضحاً أن هاتين  الجمعيتيْن وبقية الوجهاء قد أصابهم الشلل والإرتباك منذ أن بدأت المعارضة حراكها في 14 فبراير. وربما ساهم في ذلك الشلل والإرتباك الرسائل المتناقضة التي كانت تصدر عن كلٍ من الملك و رئيس الوزراء وولي العهد ووزير الداخلية.

وبغض النظر عن أسباب ذلك الشلل فلقد ان واضحاً أيضاً إن التنازع بين الجمعيتيْن وإختلاف مرجعياتهما السياسية والدينية  علاوة على التنافس التقليدي بين الوجهاء المعروفين جعلهم جميعاً عاجزين عن التعاون لتأطير جمهور الموالاة في حركة سياسية تستطيع دعم السلطة الخليفية عبر النزول إلى  الشارع لمواجهة قوى المعارضة والمعتصمين في دوار اللؤلؤة.

ظهور النذير العرُيان    

 لم يتوقع أحدٌ أن تتسارع  الأحداث بالشكل الذي تسارعت فيه  لتجعل الشيخ المحمود أبرز الأسماء المتاحة, وأقلها كلفة سياسية من وجهة نظر السلطة الخليفية. فلا عزوة له قبلية كانت أو أو عائلية أو حزبية.  ولهذا لم يكن مستغرباً أن  يتقدم  الشيخ المحمود  متخطياً كل الآخرين من نواب و رؤساء جمعيات سياسية وإجتماعية ليتصدر واجهة العمل السياسي الموالي للسلطة  بعد 21 فبراير 2011 .

أقول  لم يكن مستغرباً إختيار الشيخ المحمود لهذه المهمة بقدر ما كان مستغرباً قبوله  بها.  فلا يخفى  أن الشيخ المحمود  آثر بسبب ما عاناه بعد  تعزيره المؤلم في 1992 آن يسير في  طريق السلامة  فحصر مشاركته في المجال العام فيما يتولاه من مهام كرجل دين وكأستاذ في جامعة البحرين وكوجيه محترم من وجهاء البلاد وفيما يعهده إليه ولاة الأمر من مهمات وزيارات وجاهة.

بطبيعة الحال تباينت الآراء بعد الإعلان عن الدور الجديد المُناط بالشيخ كرئيسٍ وكواجهة لحراك المحتشدين في ساحة جامع الفاتح.  أشار المتفائلون , وأنا منهم,   بتولي الشيخ االمحمود  إلى وسطيته الدينية وإلى مواقفه السياسية السابقة التي كانت تتساوق مع ما تطالب به المعارضة الوطنية. وفي هذا الصدد لابد من الإشارة  بالذات إلى ما جاء في ورقته المكتوبة التي قدمها قبل عشرين سنة في  ندوة عُقدت في الكويت وتعرض بعدها إلى التوقيف والمساءلة في البحرين.  ففي تلك  الورقة  لاحظ الشيخ المحمود أن من بين حكام الخليج “من  يرى أن دخل الدولة مُلك له يتصرف فيه كما يشاء، ويرى أن ما يصل إلى الناس إنما هي نعمة من أنعامه، وتفضل عليه وتكرم منه”. وأضاف مشيراً إلى  ”الخلط بين الحاكم وعائلة الحاكم، وعدم وجود ضوابط لهذا التداخل، حتى أصبح أبناء وبنات عشيرة الحاكم حُكاما، وظيفتهم الرسمية أنهم من العائلة الحاكمة مهما بعُد النسب، يأخذون على هذه الوظيفة رواتب من خزانة الدولة دون أي عمل سوى الولاء للحاكم، مما أدى مع ازدياد عددهم من العشرات إلى المئات والألوف…”

أقول كان الإستبشار بمجئ الشيخ المحمود على رأس تيار الموالاة مربوطاً بظنونٍ تقول أنه ربما إستذكر بعض ما قال في الكويت قبل عشرين سنة وخاصة أن فيه الكثير مما  تطرحه المعارضة الوطنية في برامجها منذ هيئة الإتحاد الوطني في 1954 وحتى الإئتلافات التي قادت الحراك في دوار اللؤلؤة.

أما المتوجسون من المجئ  بالمحمود في هذا الدور فكانوا يشيرون إلى ما هو معروف عنه من تقلب متكرر وسريع أحياناً  في المواقف. علاوة على ذلك  فإن من الثابت أن  الشيخ  المحمود  بعد تعزير النظام له لم يكررموقفه القديم الذي أعلنه في ندوة الكويت. وحتى مساهمته في بداية الحركة الدستورية في 1992 توقفت بعد أن تبين له أن السلطة لم تكن في وارد التسامح مع تلك الحركة.

وبطبيعة لا يفوت المتوجسون الإشارة إلى أن تكليف الشيخ المحمود  بهذه المهمة السياسية هي إحدى التوصيات البارزة التي أشار بها واضعوا المخطط التدميري الذي فضحه تقرير الدكتور صلاح البندر. من جهة أخرى يشير  العارفون إلى أن  طيية الشيخ ومزاجيته  كثيراً ما تدفعانه إلى إتخاذ مواقف عن غير قناعة بل لإرضاء  هذا الطرف  أو ذك ولكنه سرعان ما يتراجع عنها. ومن أمثلة ذلك إعلان الشيخ المحمود عن مشاركته في “حملة الامام الحسين للتبرع بالدم” التي بادر بها صندوق النعيم الخيري قبل عشر سنوات بالتعاون مع وزارة الصحة. ولكن الشيخ تراجع عن تلك المشاركة بعد أن عاب السلفيون عليه ذلك.

خلال ثلاثة أيام تغير الحال. ففي 21 فبراير 2011 صار حال الشيخ المحمود مثل عصا موسى فلم يعد محترفوا العمل السياسي من بين قادة جمعتيْ المنبر والأصالة  ولا الوجهاء الآخرون شيئاً في مقابل الشيخ المحمود الذي سُخِّرت له جميع الأدوات الإعلامية الرسمية لتثبيت تنصيبه واجهة لكل التيار الموالي . وبهذ التنصيب أملت السلطة الخليفية أن تتحاشى  تداعيات التنافس بل والتناكف بين المنبر الإسلامي و المنبر من جهة. وأن تتحاشى الأكلاف السياسية المتوقعة من الإعتماد على هاتيْن الجمعيتيْن أوإحداهما.

لقد كان من المتوقع على ما يبدو أن يتحول تجمع ساحة جامع الفاتح بقيادة الشيخ المحمود إلى”البيت العود” الذي يجمع جمهور الموالاة ووجهائها وجمعياتها.   إلا أن الشيخ لسوء حظه وحظنا وكما رأيناه طوال السنة الماضية لم يتمكن من القيام بهذا الدور. فلم تكن خبرته الإدارية ولا ملكاته الإعلامية ولا قدراته في مجاليْ المحاورة والمناورة في المستوى اللازم  لمن يتصدى للدور القيادي التوحيدي الذي أُنيط به.

ولعل فيما سبق  ما  يفسر كثرة الأسئلة التي تحتاج إلى جهد كبير للإجابة عليها من قبيل: لماذا لمْ  ينتظر الشيخ كثيراً قبل أن  يُقصي أو يُهَّمش منافسيه على القيادة من  قادة المنبر الإسلامي الأصالة ووجهاء الطائفة السنية الآخرين؟  ولماذا وجد الشيخ المحمود ضرورة في إقصاء أو تهميش كوادر معروفة من ذوي الخبرة يحتاجها أي تنظيم وليد؟ ولماذا إستعاض عن تلك القيادات وتلك الكوادر ذات الخبرة بأن أحاط نفسه بفريق أغلبه من الصف الثاني والثالث أو من سقط متاع جمعيات أخرى؟ علاوة بطبيعة الحال على لماذا إختار الشيخ أن يسقط مبكراً أمام إغراء الدخول في مناكفات إعلامية في تفاصيل التفاصيل  ضد المعارضة بدلاً من تركيز الجهود على تثبيت دعائم الحركة الشعبية الجديدة التي وجد نفسه على رأسها؟

يردد بعض مبغضي الشيخ المحمود وكذلك بعض محبيه أنه “معاوية البحرين”. وأجد أن الوصفَ, مدحاً أو ذماً, يظلم الرجليْن.  فما  نعرفه مما يُروى عن معاوية إنه كان داهية وبعيد النظر وكان سيِّد نفسه في جاهليته وفي إسلامه. أما الشيخ المحمود ,و كما أشرتُ من قبل, فمعروفٌ عنه طيبته التي رأيناها تجعله يصدق كل ما يقوله له ولاة الأمر حتى وإن كان كذباً صُراحاً.

أقولُ رغم قلة خبرته السياسية وخاصة في تلك المجالات التي يتطلبها  تأسيس وقيادة  حركة جماهيرية فلم يحتج الشيخ المحمود إلى وقت طويل ليتأقلم مع مظاهر دوره الجديد و لينشغل بالبروز الإعلامي والوجاهي.  ولعل لشيخ  تذّكر يومها  ماجاء في حديث نبوي عن النذير العُريان الذي رأى الأخطار بعينه فصاح في قومه النجا النجا.  ولعله قال ما أعظم المهمة وما أعظم الثواب.

 إلا إن  الشيخ  المحمود لم يقم بكل ما تتطلبه منه مهمة النذير العُريان بل قاده طموحه وربما قلة خبرته السياسية إلى أن يتسرع فتتطَّلعَ إلى ما هو أكثر.  فرأيناه كمن “إخترع” بمنصبه الجديد فذهب بعيدأً بعيداً.  بل صار يجّدف فيما تعتبره العائلة الخليفية مقدساتها وخصوصياتها. فراح يطالب بتنحي خليفة بن سلمان منذراً إن لم يتنحَ هذا فإن البلاد ستكون على أبواب أزمة جديدة.  نسى الشيخ المحمود إن ما  جاء به إلى الواجهة  هي إرادة  الملك وبرضا خليفة  نفسه فصار يتصرف كأنما هو من فرض نفسه على السلطة الخليفية أو أنه جاء بمعجزة ربانية.

 أسارع للقول بأنني أجد الشيخ معذوراً حين دفعه طموحه  إلى محاولة  أن يمارس دوراً سياسيا تتخطى الحدود التي رُسمت له في 21 فبراير 2011.  فهو يستطيع على أية حال أن يدافع عن نفسه بالإشارة إلى أن خطابه الإعلامي جاء متساوقاً تماماً مع ما يردده  كبار العائلةالخليفية نفسها كما سأفصِّل فيما بعد.   فالملك نفسه يكرر الحديث عن  محاولة إنقلاب تم إفشالها. وهو إنقلاب جرى التخطيط له حسب الملك “لمدة لا تقل عن عشرين أو  ثلاثين  سنه” . فمن يلوم الشيخ المحمود حين يصدق كل ذلك ويرى نفسه بطلاً جاء ضمن معجزة ربانية لينقذ النظام  ويحميه من السقوط حتى تأتي القوات السعودية لتتولى بقية المهمة؟

لا يكفي ما لديّ من معلومات للتثبت من مدى “إختراع” الشيخ  ولا مما يقال عن أن إزدياد المساحة التي أراد الشيخ الإستحواذ عليها في الساحة السياسية كانت عاملاً مهماً في تسريع الإجهاز على دوره كواجهة لحراك من إحتشدوا في ساحة جامع الفاتح.  ماهو مؤكد عندي إن مساعي الشيخ لأن يكون وحده زعيم الساحة السنية بمجملها جعلته  في مواجهة مباشرة مع أطراف كثيرة أخرى إعتبرته قد إغتصب دوراً  هي أحق به,  ناهيك عن إمتعاضها منه وهي تراه يتخطى حدوده المرسومة.

نعم حاول الشيخ أن يرد على حاسديه ومنتقديه. إلا ردوده زادت من صعوبة موقفه.  وفي هذا الصدد أشير إلى حديث  نشرته جريدة الأيام مؤخراً  للشيخ المحمود يؤكد فيه أنه لا يقبل أن يقوده الشارع. بل أنه هو من يقود الشارع. ولهذا فلا نية لديه بأن يترك زمام القيادة للشارع حتى لا تتحكم مجموعات لتسقط من تشاء ولتعين من تشاء. وإستمر الشيخ في الحديث نفسه ليتهم “ فئات رسمية من النظام تعمل على تأجيج وسلب الشعبية من التجمع والضرب في رئيسه”. وقال “إن هذه الجهات ترى أن يكون تجمع فزعة وإذا أدى دوره يقال له ارجع إلى بيتك”.

على الرغم من نبرة التحدي في حديثة الأخير إلا أنها لا تخفي ما يشعر الشيخ به من مرارة. فالشيخ يعرف الآن أن السلطة الخليفية التي أتت  به إلى الواجهة تستطيع أن تأتي بغيره.   فالوجهاء المؤهلين لديها, كما يقول أهلنا, المنّ ببيزة.

بغض النظر عن الأسباب “التآمرية”  إلتي يشير إليها الشيخ فإن نجاحها كان مضموناً بسبب فشل الشيخ في القيام  بدور المنذر العُريان وبسبب تفضيله البروز الإعلامي والوجاهي وبسبب إضاعة جهوده في مماحكات تفصيلية مع المعارضة علاوة على داهية الدواهي بالنسبة للعائلة أي تدخله غير المفهوم في التجاذب المستمر بين الملك وعمه. (ألم يسمع الشيخ قولةَ مَن قال “مالنا والدخول بين السلاطين”؟).

 وبسبب فشله  فإن الناس الذين  آملوا أن يحقق الشيخ المحمود لهم  شيئاً مما عدَّده في قائمة “لنا مطالب” سيبقون ينتظرون.  فأولئك الناس لم يكونوا غنماً تُساق كيفما شاء الراعي.  فحين إحتشدوا في مسيرة الولاء للملك وما تلاها من تجمعات في ساحة الفاتح ووقفوا في كل مرة يُعزف فيه السلام الملكي كانوا في حقيقة الأمر إنعكاس مرآةٍ  لمواطنيهم في دوار اللؤلؤة. بل ربما كانوا في الواقع أكثر قرباً مما قيل عنهم.   فعلى الرغم من إختلاف الخطاب السياسي الي كانوا يسمعه الناس في دوار اللؤلؤة وفي ساحة جامع الفاتح  إلا أنهم جميعاً “طلاب حقوق” كما وصفهم الشيخ المحمود.  وفي مقدمة الحقوق التي التي عدّدها الشخ أمام المحتشدين في ساحة جامع الفاتح صفقوا له إعجاباً و تأكيداً “أن تكون السلطات للشعب بشكل فعلي وليس بشكل صوري” وأن تُزال “جميع مظاهر التمييز العرقي والفئوي والعائلي”  وأن “توكل المهمات لذوي الكفاءة والأمانة والأيادي البيضاء حتى نستطيع ان نحافظ على ثروات هذا الوطن وشعبه وأجياله القادمة”.

أقول لسوء حظ البحرين سيبقى أغلب من صدّق الشيخ في إنتظار من يقودهم إلى تحقيق مطالبهم في العيش بكرامة وبلا خوف في دولة  تكون السلطات جميعاً فيها  للشعب. دولةٌ  ولا يسود فيها موروث الغزو بعد أن تزال جميع مظاهر التمييز العرقي والفئوي والقبلي. أما من  ظنوا في الشيخ خيراً وآملوا فيه, مثلي,  فهؤلاء سيبقون في إنتظار نذير عُريان آخر.

أما الشيخ المحمود نفسه فقد لا تنتهي سيرته في خدمة السلطة الخليفية عند هذ الحد.  إلا أن ما حدث له مؤخراً على أيدي “شباب الصحوة”  يؤكد ما يكرره العارفون:  لا تدوم الوجاهة لأحدٍ  في البحرين إلا بدوام رضا السلطة الخليفية عليه.  ومعلومٌ أيضاً  إن السلطة الخليفية لا تقبل أن يتصور وجيهٌ من الوجهاء  مهما علا مقامه أو عظمت خدماته لها إنه  قوي بذاته أو أن  يتصور إنها لن تستغني عنه أو إنها ستعجز عن تحجيمه أو حتى إقصائه.

 ولهذا رأينا  الكثير قد  إنفضوا عن الشيخ و صاروا  يسمعون بإعجاب اصواتاً  كثيرة تنافسه.  ومن بين هذه صوت الشيخ عادل حسن الحمد الذي يتناول في خطبه  اموراً  تناساها الشيخ المحمود حين إنشغل بعرض الخرائط  الإقليمية ويشرح لعبة الأمم و”المؤامرت الأميركية الصهيوصفوية “  في الفضائيات والمنتديات الدولية.   وأُشير  في هذا الصدد إلى إحدى خطب خطيب  جامع النصف بالرفاع   (22 يوليو 2011)  لتي حذر فيها من “أثر المنافقين السنة في تخريب الاوضاع اكثر فأكثر”.  وكذلك  تذكيره المصلين خلفه بأن “الدولة”  قد  “خدعت أهل السنة  الذين ناصروها أيام الأحداث و لكنها تخلت  عنهم حين ركعت لأمريكا في سبيل تثبيت الكراسي” على حد قوله.  وهنا يعيد الشيخ الحمد تذكير  سامعيه بأن أصوات أهل السنة  تعلو في عدة ميادين رفضاً  لتصرفات الدولة وتعاملها مع تبعات الأحداث . بل أنه يرى أن للدولة دوراً في إستفزاز أهل السنة  ونشر التطرف بينهم  ويقول لها محذراً أن السنة إذا ثاروا سيدمرون الأرض ومن عليها”.

هل كانت تجمعات ساحة جامع الفاتح  مجرد  فزعة؟

 إحتاج منظمو تجمعات الفاتح إلى ما هو أكثر من الفزعة  وإلى أكثر من تخويف الجمهور بالتغييرات التي ستفرضها المعارضة على السلطة.  فلم يكن مجدياً  وقتها التعويل على تخويف فقراء الناس في الحد أو قلالي بـ “الغول الشيعي” المتربص بهم في بوري أو المالكية.   لهذا إحتاج  منظمو تجمع الوحدة إلى رفع رايات لم تُرفع من قبل ولم  يتعود جمهور الموالاة على السير خلفها بتلك الأعداد التي رأيناها.

إحتشدت الناس في 21 فبراير  وفي  2 مارس 2011 في  ساحة جامع الفاتح و رُفعت صور الملك  وولي العهد وخليفة بن سلمان  كما رُفعت لافتات أخرى  تندد بالمعارضة وتتهدد المعتصمين في دوار اللؤلوة. إلا أن تلك التفاصيل وغيرها على أهميتها لكثيرين ليست في أهمية الشعار المركزي الذي إحتشدت الناس حوله في ذلك اليوم: “لنا مطالب”.

 لم يكن في الأمر ما هو يستحق الإستغراب لو  كان المشاركون في مسيرة الولاء للملك والمحتشدون في تجمعات  ساحة جامع الفاتح قد إحتشدوا فقط للدفاع عن ولاة الأمر في  ضد هجوم “الطرف الآخر”.  فالفزعةُ جزءٌ ثابتٌ ومستقرٌ من موروث الفتح التي تغذيه السلطة بمكرماتها الدورية.  بل إن البحرين شهدت طوال الأسبوعين السابقيْن لتجمع “لنا مطالب”  أمثلة كثيرة على تراث الفزعة بما فيها  وفود العوائل التي تسابقت للوصول إلى قصر خليفة بن سلمان حسبما تقتضي أعرافٌ وتقاليد تربت عليها . ولقد بث التلفزيون الرسمي مشاهد مطولة لمواطنيين وهم يرددون “خليفة خطٌ أحمر” حتى قبل أن يُعرف عن إستعداد  الملك لقبول نصيحة مزدوجة  أميركية وقطرية بإحالة عمه إلى التقاعد.

أقولُ نعم كان  التجمع في ساحة الفاتح في 21 فبراير وفي 2 مارس 2011  فزعة من جملة  فزعات أخرى مثلها في أثناء كل هبة و إنتفاضة في تاريخنا الحديث. إلا أن الجديد في فزعة ساحة الفاتح هو أمران غير مسبوقيْن في تاريخ علاقة العائلة الخليفية بالموالين لها.  الأمر الأول هو إنها جاءت  مربوطة بشروط تمثلت في سلسلة المطالب التي أعلنها الشيخ عبداللطيف المحمود وحظت بإستحسان الجمهو المحتشد.  أما الأمرالثاني فهو إن تلك الفزعة كانت تعلن أيضاً أن جمهور الموالاة لم يعد يكتفي حسب تعبير الأستاذة سوسن الشاعر,  بأن يتولى “ولاة الأمور”  نيابة عنه بمناكفة المعارضة.  بل صار يطمح في أن يكون طرفاً فاعلاً  بالقرب من العائلة الخليفية ولكن ليس في كنفها. ولعل في هذه ما أراه يشير إلى بداية الفصال بين المُوالين للسلطة وبين مَواليها.

لقد  كانت  ملفتة  للنظر حقاً تلك  اللافتات المرفوعة في  ساحة جامع الفاتح وهي تعلن “لنا مطالب”.  كما كان مهماً قيام الخطباء بتكرارها الواحد تلو الآخر.   نعم لقد شملت المطالب بقاء نظام الحكم والعائلة الخليفية والتمسك بخليفة بن سلمان رئيساً للوزراء, وتأكيد عدم الرضوخ لمطالبة المعارضة بإقالة الحكومة الحالية.  كما سمع الجمهور قادته يعلنون مطالباً عمومية ومطاطة تضمنت أيضاً “تثبيت دولة الحقوق والواجبات للجميع”  و تحسين ظروف المعيشة عن طريق “تفعيل القوانين والأنظمة التي تمنح قطاعات الشعب حقها كاملاً” علاوة على  “نريد من القيادة ان يتم حل المشاكل المعيشية للمواطنين من رواتب وإسكان في المدى القريب، ونريد من القيادة ان تسارع في القضاء على انتشار المسكرات والدعارة”.

إلا أن الجمهور سمع أيضاً قائد التجمع وهو في قمة حماسه يخاطب  الملك علناً وليس مناصحة  في غرفة مغلقة لتذكيره  بأن “جميع أبناء البحرين طلاب حقوق، وفي مقدمتها ان تكون السلطات للشعب بشكل فعلي وليس بشكل صوري فلا يكفي ان يقرر الدستور حقوقا وتعطل عن التنفيذ أو يُتحايل عليها” بل وسمعوه يطالب برفع “جميع مظاهر التمييز العرقي والفئوي والعائلي”  وان “توكل المهمات لذوي الكفاءة والأمانة والأيادي البيضاء حتى نستطيع ان نحافظ على ثروات هذا الوطن وشعبه وأجياله القادمة، فكم من ثروات قد نهبت وكم من أموال دخلت في الجيوب الخاصة، وكم من مشاريع ارتفعت كلفتها ومشاريع توقفت”.

تزاحم الموالين مع الموالي

 تدريجيا وطوال الأشهر التالية لإعلان تجمع الفاتح  ستبرز نبرة جديدة في الخطاب السياسي  المتداول في ساحة الموالاة كما ستبرز ممارسات تناقض ما تعودت السلطة/العائلة الخليفية عليها.  لقد صارممكناً ومقبولاً ان لا يردد جميع الناس في المناطق السنية  “ربنا لا تغير علينا”,  بالظبط كما صار مقبولاً و منذ سنوات أن لا يردد جميع الناس في المناطق الشيعية “معكم معكم يا علماء”.

ولقد رأينا كيف إرتفعت حدة أصوات بعض قادة تجمع الفاتح  وهي تنتقد  “الدولة”. بل وصل  بعضهم إلى حدود فاقت ما يتجرأ عليه كثيرون من عتاة المعارضة.  وسأعطي مثاليْن مما تعج بهما مواقع الإتصال الأجتماعي.  فهذا يخاطب “الدولة/الملك” معنفاً “إما إنك على قدرمسئولية  الحكم ودولة القانون  أو كفاك  عبثاً بالسلم اأهلي ومستقبل الأجيال القادمة”. (AAAGulf@#Bahrain) . وآخر يتساءل متوعداً “ماذا بقي من هيبة الملك والدولة والداخلية والقانون أمام التنازلات والعفو عن الخونة..لن ينفع إلا قبضة المشير الوحيد اللي قدر عليهم” @boammar#bahrain.

ولايفوتنا هنا الإشارة إلى مقابلة الشيخ المحمود نفسه مع الواشنطن تايمز ( 18 أغسطس 2011) التي كرر فيها أربع مرت  المطالبة  بتنحية خليفة بن سلمان. وأشار فيها إلى إنه,  أي خليفة, سيكون غبياً إذا لم يتنحَ “ستدخل البحرين في أزمة جديدة”.  ولم تتأخر ردود الفعل  على طلب التنحي هذا . ومن بين ردود الفعل  تلك قيام النائب السابق عادل المعاودة, والقيادي في جمعية الأصالة, بمطالبة المعنيين  بإعفاء عبد اللطيف المحمود من رئاسة تجمع الوحدة الوطنية. بل ولم يكتفِ النائب السبق بهذا بل غمز من قناة الشيخ المحمود  مشيراً إلى أنه كان يوم من الأيام مع المعارضة.”ومن يعلم قد يكون شيعي ويمارس التقية ليخدعنا “. ‏@adel_almawda   ربما تراجع من ذكرتُ وآخرون عما قالوا وعما كتبوا أو ربما فسروه  بما لا يُغضب ولاة الأمر. إلا أن السهم قد فارق القوس. فالناس تتداول ما يُقال وما يُكتب.

أشرتُ في مقالٍ سابق إلى أن السلطة الخليفية  كانت تواجه في دوار اللؤلؤة  طلائع جمهور تعودت على تمرده على سلطتها ولكنها تعودت أيضاً على قمعه بحد السيف أو على تهدئته بإستخدام الوسطاء الوجهاء بمن فيهم رجال الدين ليردد مع من شاء منهم أن هذا قضاء الله الذي لا مفر من الصبر عليه حتى يأتي فرجه.

  إلا  إن السلطة الخليفية فوجئت  عشية 14 فبراير بأن أغلب هذا الجمهور لم يعد يرضى بأن يضع مصيره في أيدي غيره. فلا جدوى للسلطة الخليفية من كل ما لديها من سطوة على الوجهاء والوسطاء  المستعدين لخدمتها , حتى ولو على مضضٍ أو إستحياء, في تهدئة الناس.  وبعد 14 فبراير تعلمت السلطة الخليفية أن هذا الجمهور لم يعد أيضاً  يخاف السيف حين الذي أشهرته عليه  في 17 فبراير وحين إستنجدت بالجيش السعودي ليشاركها في  القمع ً منذ   15 مارس 2011 وحتى الآن.

في نفس المقال السابق  أشرتُ إلى  أن ساحة الفاتح هي أيضاً قد فاجأت السلطة الخليفية  التي تعودت من وجهاء الموالاة  أن يحشدوا الناس بصرخات الفزعة.  فتأتي الجموع هنا وهناك لتؤكد حضورها أملاً في خيرٍ أو حشراً مع الناس. إلا إن  السلطة الخليفية وجدت نفسها تقبل على مضض أن ترى في الجموع المحتشدة أناساً حضروا لنصرتها هذه المرة و لكن بشروط.  نعم لا يشك أحدٌ في أن أغلب هذا الجمهورلا يجد غضاضة في طاعة ولاة الأمر بإعتبارها مكملة لطاعة الله.  فذلك ما يقوله فقهاء السلاطين. إلا أن الجموع  المحتشدة في ساحة الفاتح  لم تكن كلها موالاة مطلقة. ولم تكن  الغالبية منهم من فداوية العائلة الخليفية أو من طباليها أوملاليها أو من لم يُعتقوا حقاً من عبيدها على إختلاف مستوياتهم.

لقد كانت الجموع المحتشدة في ساحة الفاتح تضم أيضاً نفس الناس الطيبين الذين  كان  يضمهم دوار اللؤلؤة.  أناسٌ يريدون ما يريده كل الناس العاديين أي أن تتغير الأحوال ليحصلوا على نصيبهم من خيرات البلاد ومواردها وأن يعيشوا بكرامة ودون خوف من جبروت ظالم.  وحتي فداوية العائلة الخليفية وطباليها ومن لف لفهم تبينوا أن العائلة الخليفية في أزمة حقيقية وإنها في حاجة لهم الآن أكثر من أي وقت مضى.  فصار هؤلاء يقتنصون الفرصة لتطبيق عبارة “فداوي الشيخ شيخ” وتحويلها إلى مردود مالي وسياسي ووجاهي. وصار حقاً لهم هم أيضاً أن يضعوا على السلطة الخليفية شروطا. ولهذا رأينا كيف كانت  الجموع في ساحة الفاتح  ولسان حال بعضها “نعم نعم لولاة الأمر” وعلى لسان بعضها الآخر” ولكن لنا مطالب”.

لا يلام رجلٌ أو إمرأةٌ  كانا مهمشيْن طوال عقود حين يزهوان وهما يريان نفسيهما فاعليْن سياسييْن يعتمد عليهما, كما يقول لهما الإعلام الرسمي,  إنقاذ البلاد من أن تسقط بمساعدة الأمريكيين في قبضة المجوس.  فلقد سمعا كبار رجال العائلة الخليفية ونسائها  وردد طبالة لإعلام الرسمي صباح مساء ما قيل عن تلك “المؤامرة ألامريكية الصهيوصفوية”.  فحق لذلك الرجل و لتلك المرأة أن يحسبا إنه لولاهما, من بعد الله والشقيقة الكبرى, لسقط النظام وصارت الزلاق فلوجة والعياذ بالله.

لقد سمع الناس  الملك يقول لهم ” إن الذي شهدته البحرين هو امتحان من رب العالمين” وهو “مخطط خارجي وعُمل عليه لمدة لا تقل عن ثلاثين أو عشرين عاما بحيث تكون الأرضية جاهزة للأمر، فإن نجح هذا في إحدى دول مجلس التعاون فقد يعم”.  (الشرق الأوسط, 21 مارس 2011)   وهم سمعوا خليفة بن سلمان يقول لهم إن ما حدث  “يفطر القلب, لانه كان مؤامرة  كبيرة غايتها الغاء الوطن وتهجير اهله”.  وان السلطات قد إكتشفت “أن كل ذلك مخطط له منذ زمن طويل, بعلم ومساعدة دول اجنبية, ومن المقرر له ان ينفذ في العام 2017, لكن ما عجل به ما شهدته كل من تونس ومصر” و ” إن الاشرار كانوا يخططون لثورة يليها انقلاب عسكري واسقاط النظام وقتل اركانه”. ( من المقابلة المنشورة في جريدة  السياسة الكويتية بتاريخ 2 يونيو 2011). وهم سمعوا الشيخ عبداللطيف المحمود  يقول لهم أنه سمع عن جهات “تبنت دعم وفتح الباب للشباب الاستشهاديين من المتطوعين، لإرسالهم إلى البحرين”. (الشرق الأوسط, 21 مارس 2011)

 ملاحظات عامة  

كان الإعلان عن قيام  تجمع الوحدة الوطنية في الثاني من مارس 2011  خطوة تاريخية غير مسبوقة . أساع للإشارة أن بعض أصحابي  ممن أثق عادة في تقييمهم وتقييمهن  للأمور لا يتفقون مع نظرتي الإيجابية هذه.  ولقد فسّرتُ موقفي ابالإشارة  عدد من التطورت  سأذكر منها خمسة رأيتها  ستساهم في تغيير الساحة السياسية/الإجتماعية في البلاد إن لم  تتمكن السلطة/العائلة الخليفية من قمعها أو إحتوائها.  وهي تطورات  تتشابه في بعض جوانبها  مع تلك التي شهدتها مناطق أخرى في البلاد منذ بدء  التسيعينيات وأسهمت في تغيير معطيات التجاذب السياسي / الإجتماعي في البلاد.

أول  تلك التطورات  هو إن هذه هي المرة الأولى التي تسمح اسلطة الخليفية للطائقة السنية أن تجتمع وأن يتواصل المواطنون السنة مع غيرهم كأفراد وليس عبر التضامنيات القبلية والعائلية وأو المناطقية التي التي ينتمي كلٌ منهم إلى أحدها.  هذه خطوة غير مسبوقة في تاريخ البحرين السياسي/الإجتماعي.    فمعلومٌ إن إستراتيجية التشطير العمودي التي إعتمدتها السلطة الخليفية طوال العقود الماضية لم تنحصر في تشطير البلاد على أساس طائفي فحسب بل شملت تشطيراً يعتمد على إدامة التنافس ضمن كل طائفة بين مكوناتها وضمنها.  ومعلومٌ إن إستراتيجية التشطير أدت طوال العقود الماضية إلى إضعاف إحتمالات قيام عمل مشترك يجمع أهل البلاد جميعاً بغض النظر عن إنتمائاتهم المذهبية أو خلفياتهم الإثنية أو القبلية. فالجميع رعية في بلد تحمها عائلة ترى إن شرعيتها لا تحتاج إلا أكثر من تذكير الناس بأنها أخذت البلاد بح السيف.  في ظل موروروث الغزو  لا فرق بين سني وشيعي وبين عجمي أو هولي  أو مؤمن أو ملحد إلأ بمقدار رضا السلطة الخليفية عليه وبمقدار ما تتوسمه فيه من قدرة  خدمة مصالحها.

بعد أشهر على نجاح تجمع ساحة جامع الفاتح  سيردد الشيخ عبداللطيف المحمود أن ما حدث كا ن معجزة ربانية. ولكنها بطبيعة الحال  لم تكن معجزة ربانية بالطريقة التي يتخيلها الشيخ المحمود ويريد أن يقنع الجمهور بها. فحتى أكثر من هذا الجمهور إيماناً بالمعجزات الخارقة لن يصدقوا أن الله سبحانه قد إختص المتجمعين في أرض جامع الفاتح  ليُنزل بينهم جنوداً لم يروها.  ولكنها معجزة ربانية في نظري لأنها المرةالأولى في تاريخ البحرين الذي تسمح السلطة الخليفية فيها  بأن يتجمع السنة في إطار واحد. سنة المحرق والرفاع والحد وعسكر والمنامة ومناطق غيرها بمن فيهم السنة العرب والهولة والبلوش وغيرهم. ناهيك عن سنة السلف والإخوان والصوفية والأشاعرة ومن لم يتحزب.   المعجزة الربانية في نظري هو سماح العاائلة الخليفية لكل هؤلء بأن يتجمعوا في مكان واحد وهي التي أمضت عقوداً في تفريقهم تشطيرأً وتبعيداً ناهيك عن إذكاء روح  التدافع بينهم على إرضائها والتمتخ بخيرات رضاها.

أما ثاني تلك التطورات فهو أن  قيام تجمع الفاتح  سيساهم  في توسيع المجال السياسي العام  و وسيضيف فاعلين جدد في الحراك السياسي/الإجتماعي من بين المحسوبين سابقاً تحت تسمية قوى الموالاة.  فهذه التسمية  علاوة على أنها مبهمة وظالمة  فإنها لم تكن تسمح برؤية  ما يعرفه دارسو الحركة الإجتماعية في البحرين عن التلاوين المختلفة في قوى الموالاة.  وبطبيعة الحال فإن هذا يعني إتاحة الفرصة لمشاركة أعداد كبيرة من المواطنين والمواطنات  ممن لم يكن لهم إهتمام بالعمل السياسي في السابق أو ممن كان إهتمامهم بالشأن العام لا يزيد عن تكرار عبارة “الله لا يغير علينا”.  فلهذه الفئة من المواطنين  تقاليدها وأعرافها الإجتماعية  التي تجعلها  كما كتبت الأستاذة سوسن الشاعر تفضل أن  “تنظر للحراك السياسي على أنه نشاط خاص بالمعارضة الشيعية، وأن (تعتقد أن) الحكومة أو السلطة تكفيها عناء مناكفة تلك المعارضة. أما الاعتراض على أداء السلطة أو الاختلاف معها فكان أمراً محرجاً أو معيبأ أو.. لذلك تجد هذه الغالبية صعوبة الآن في نزع العباءة والتحرك بأريحية”.  سوسن الشاعر, “قبل أن نكسر حاجز الصمت” الوطن, 22 May 2011

التطور الثالث  هو تكرار لما شهدناه في التسعينيات أي توسيع الفئات العمرية المنخرطة في الحراك السياسي الأجتماعي بالإضافة إلى دخول المرأة بثقلٍ ملحوظ يفوق فيبعض المجالات دور الرجل. وهنا أيضاً ساهم تجمع  الفاتح في تعبئة الجهود لتشجيع إنخراط شباب في مقتبل أعمارهم  من الجنسيْن.  بطبيعة الحال  لم يكن هؤلاء  ولا آبائهم وأمهاتهم  لينخرطوا في المجال السياسي العام  بهذه الأعداد  لولا  ما حدث لأقرانهم الشيعة حين إنخرطوا بأعداد متزايدة في الحركة الدستورية في بداية االتسعينيات  والإنتفاضة التي تلتها. ومعلومٌ أن أحداً لم يتمكن بعدها من وقف تداعيات حراك التسعينيات في اشارع الشيعي حتى بعد رفع راية “عدم التمكين”.   أقولُ أن من جملة نتائج إنتفاضة التسعينيات هو  التوسيع غير المسبوق في المجال السياسي العام  وإنخراط فاعلين جدد لم يعودوا يسمعون حين يقال لهم أن تكليفهم بالإنخراط في الشأن السياسي قد سقط بقيام آخرين من رجال الدين أو الناشطين السياسيين به.  وبطبيعة الحال لم يكن ما يحدث لشباب كركزكان أو بوري بعيداً عن نظر اقرانهم في قلالي وفي رفاع الفقراء. ولهذا أيضاً أ يمكنني المجازفة بالقول أن دارسي هذه الحقبة من تاريخ التجاذب السياسي/الإجتماعي في البحرين سيهتمون أكثر بالخيط الذي يربط  إنتفاضة التسعينيات بما شهدناه من حراك شبابي  في  كلٍ من  دوار اللؤلؤة و ساحة جامع الفاتح.

أقول ساهم  الحراك المتصاعد في دوار للؤلؤة  في تحريك فئات أخرى لم تعد تثق في قدرة السلطة على إدارة أمور البلاد.   وتشير الأستاذة الشاعر إلى من بين الشباب الذين إنخرطوا في حراك الفاتح” شباب لم يكونوا يعرفون (قبل 14 فبراير) غير تعديل الغترة واللف في الشارع، وبنات لا يعرفن غير تبادل البرود كاست وتتبع آخر الماركات…” بل وفيهم  من “كان في  قمة اليأس والإحباط ورغبة في المغادرة والبحث عن فرص خارج بلدهم بعد أن ضاقت بهم الدنيا وسيطرت الوجوه التقليدية على المواقع وانعدمت الفرص أمامهم…”.   (سوسن الشاعر “ من أيقظ مارد الأغلبية؟, صحيفة الوطن, 23 فبراير 2011) .

التطور الرابع هو نتيجة محتملة لما سبق.  إذ سيشكل توسيع المجال السياسي العام  وإنخراط فاعلين جدد فيه إلى إضعاف قدرة السلطة/العائلة الخليفية على ممارسة التشطير بإستخدام أدواتها المعروفة في هذا امجال وخاصة  إستخدام المكرمات لتأكيد إستمرار الولاء ولتأجيج التنافس بين الوجهاء والعوائل على تقديم فروض الولاء.  وفوق ذلك فإن إنخراط الشباب بتلك الأعداد الكبيرة في الحراك السياسي/الإجتماعي  قد أعاد تركيب بعض جوانب الصورة  وبشكل  تبدو فيه السلطة/ العائلة الخليفة عاجوة عن التعاطي معه.     ويكرر هذا بعض ما شهدناه  يحدث تدريجياً  في المناطق الشيعية في العشرين سنة الماضية أي إضعاف قدرة السلطة/العائلة الخليفية على إستخدام الوجهاء وسطاءً بينها وبين الناس. وفي هذه المناطق فقدت السلطة/العائلة الخليفية كثيراً من قدراتها  المبهرة يوماً ما على  إنتقاء الوجهاء وتدويرهم حسب حاجتها.  فلا يستطيع أحدٌ ممن تم إنتقاءهم وجهاء بتعيينهم في مجلس الشورى أو رؤساء جمعيات  مثلاً أن  يدعي أن له هيبة في منطقة سكنه أو , في حالات معروفة,  في عائلته. أسارع للقول أن هذا لن يحدث بين يوم وليلة في المناطق السنية.  وما زال سلاح المكرمات مازال فعالاً  هنا وهناك. ومازالت  الحاجة أو الطمع يدفعان كثيرين إلى التنافس على تقديم الولاء وهم صاغرون.

التطور الخامس  يتمثل في أن من بين من تجمعوا في ساحة جامع الفاتح فئات لم  تأتِ للمشاركة في “فزعة” تقليدية. نعم كانت نداءات الفزعة جزءً من الخطاب التعبوي الذي إستخدمه منظمو مسيرات الولاء في 18 فبراير والمسيرات ألأخرى الأصغر الت نُظِمت لدعم  هذا الطرف أو ذاك من أطراف العائلة الخليفية.  إلا أن هذا لا ينطبق على الجميع.  فضمن ما يسميه الإعلام  إستخفافاً, بالكتلة البشرية  الصامتة,  هناك من  رأى أنه يقوم بمهمة مصيرية بعد أن رأى ما حسبه عجز السلطة/العائلة الخليفية عن توفير الأمن والأمان له.   لقد تحركت تلك الكتلة المهمشة حين  رأت أن بإمكانها أن تدافع عن السلطة/العائلة الخليفية بل وأن تنقذ “النظام”  من الخضوع لضغط المعارضة الداخلية المتصاعد  علاوة على ضغوط  حلفاء  السلطة/العائلة الخليفية الغربيين.   وسنرى أن خطاب “لقد حمينا السلطة بعد أن كانت على وشك السقوط” يتكرر بمفردات مختلفة على ألسن الكثيرين من قادة ساحة الفاتح.  وهم بهذا الخطاب إنما يشيرون إلى  إنهم أصحاب فضل على السلطة وليسوا  أزلامها.    وبطبيعة الحال لم تكن السلطة/العائلة الخليفية في وارد القبول بهذا التطور الذي يخالف كل السلوكيات السنعة التي يفرضها موروث الغزو على الرعية ووجهائها

إعادة  “المارد“ إلى قمقمه

 في بداية التحرك لتأطير جمهور الموالاة ضمن حركة جماهيرية قابلة للإستمرار قيل .كلامٌ لم  تتعود السلطة/العائلة الخليفية على سماعه من قوى وشخصيات الموالاة. وفي الأمثلة التي سقتها أعلاه, وهي غيض من فيض كثير, كلامٌ يخلو من السنع الذي ولَّده موروث الغزو.  وليس فيه أدنى إلتزام بما لقنه فقهاء السلاطين للناس عن وجوب طاعة ولي الأمر حتى  ” وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك”.

إلا أن القائمين بالأمر , وفي مقدمهم الشيخ عبداللطيف المحمود,  سرعان ما تراجعوا عن ذلك النهج  بعد أن إستعادت السلطة الخليفية زمام السيطرة على جميع أنشطة قوى الموالاة وتحركاته في الداخل والخارج.  فالسلطة تعرف أن لديها  من الموالي ما يغنيها عن وجهاء  يشترطون عليها شروطاً. فمواليها لا شروط لهم.

 ولقد رأينا المَوالي يبررون للملك لقائه بشيمون بيريز وبرَّروا لولي العهد وووزير الخارجية لقاءاتهما بآخرين من عتاة الصهاينة. ورأينا المَوالي  يدافعون عن شراء خليفة بن سلمان المرفأ المالي بدينار واحد فقط لا غير ناهيك عن نهب البر والبحر.  ورأينا بعضهم وفيهم رجال دين يبررون للجيش السعودي و القوات العسكرية  والأمنيةالبحرينية  دورهما في تدمير مساجد ومآتم بل وحتى مقابر.  ورأينا أطباء ومحامين ورياضيين وصحافيين وأدباء وشعراء يتحولون إلى مَوالي  ي يبلغون عن زملائهم في المهنة أو في العمل. ورأينا بعضهم يدافعون بوقاحة عن إنتهاكات السلطة الخليفية لحقوق وكرامات  زملائهم في المهنة بل وفي حالات حقوق وكرامات أقرب أصدقائهم.  ومعلومٌ أن تلك الإنتهاكات, كما بيّن تقرير البسيوني لاحقاً, تشمل الإعتقال الكيفي والتحرش الجنسي والتعذيب وإغتيال السمعة.

أقول أن السلطة التي لديها كل هذا العدد من المَوالي المستعدين للهتاف لها ولتبرير أفعالها مهما أجرمت, هي سلطة ليست في حاجة إلى إرضاء مُوالين يضعون شروطاًعليها.   ولهذا لم يكن مستغرباً أن السلطةالخليفية بأطرافها المتنافسة سارعت  طوال الأشهر الماضية  لوضع الترتيبات اللازمة ية لإعادة الساعة للوراء لكي لا يتكرر في صفوف “الكتلة الصامتة” ما حدث لبقية الناس في البحرين.  ولقد رأينا في مهرجان “شباب  صحوة الفاتح” مؤخراً إلى أين وصلت جهود السلطة لتعليم الناس مرة أخرى  أهمية  تكرارهم “ربنا لا تغير علينا” وأن ” الشيوخ يعرفون ما لا نعرف”.

يبدو أن المَوالي  قد كسبوا الجولة فتقدموا الصفوف.  ويتأكد هذا القول حين نقرأ البيان الذي سمعه المشاركون في تجمع “شباب صحوة الفاتح”.  فحسبما هومنشور في الصحافة المحلية أكد البيان  ”الذي  تلاه هذه المرة  الأستاذ خالد البلوشي “إن الأولوية الوطنية لدى أهل الفاتح، هي بسط الأمن، ثم بسط الأمن، ثم بسط الأمن، وسياد

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus