محمد التاجر، كلفة الروب الأسود مطرّزاً بكلمة بيضاء: في حضرة وكيل النيابة (2/4)

2012-03-19 - 11:58 ص




مرآة البحرين (خاص): رأى المحامي البحرينيّ محمد التاجر الكثير من الإشارات التي تدّل على أن هناك محاولة جادة لقمعه، لكنه لم يتبعها، بل اتبع إشارات قسمه على شرف مهنته، استمر في مهمته، وترافع عن أحد المتهميّن السبعة بدهس الشرطيين، وهي القضية الأولى التي ترفع أمام محاكم (السلامة الوطنية) في إبريل/نيسان 2011.

 كان التاجر يعتقد أن في مهنته شيء من الحصانة، حتى لم تتوفر هذه الحصانة، فقد كان من الصعب على محام مثله، يقع بين يديه هذا الكم الهائل من القصص المؤلمة، ألا يجأر بالصرخة لأجلها.

وجد التاجر نفسه حاضرا في عمق معاناة المعتقلين، وأمام أمهاتهم. فتحوّل عمله من مجرد محام إلى معالج نفسي، يُصبّر المعتقلين وعوائلهم، يُوّسع صدورهم، يُخفف عنهم آلامهم. فكيف كان سيتوقف والحقوق باتت مسلوبة جهارا نهارا، ومضّيعة دون رادع؟ وكيف كان سيترك من يطلبه للترافع؟ وهو متيّقن أنه بريء ومظلوم، وفي أتمّ الحاجة إليه؟ في حين كان الكل يخاف حتى من المرور في مدينة الرفاع، التي يقع فيها مبنى المحاكم العسكرية؟

لقد كان ذلك الوقت وقته بامتياز، وكان من المحال أن يتراجع، لأنه لن يخون قسم المهنة الذي أدّاه ليكون محاميّا. في الوقت الحرج، كان هذا القسم مهددا، وكان هو نفسه مهددا، لكنه اختار أن يضحيّ.

مستعد تماما

 
مع ابنه باقر بعد الإفراج
يقول التاجر "  قبل أيام من الاعتقال، طلبتُ من زوجتي أن تهوّن من حالة الخوف عند الأطفال، وأن تجهّز نفسها لكل ما هو سيء. رتبتُ كل أموري الماليّة وكأنني أتوقع شيئا ما، لم أكن أتعامل مع الوضع بخوف. واصلتُ عملي، محاولا ألا أبدو مترّقبا للاعتقال، لكنني كنت أريد أن أكون جاهزا ومستعدا، وكنت أحس باقتراب هذه اللحظة".

ظهيرة يوم الجمعة (15 إبريل/ نيسان)، كنت أقول لأخي عبد الهادي "كأنكم لن تروني الأسبوع القادم في جمعة الغداء عند الوالدة". لم تكن هناك أية مبررات لاعتقالي، لكن أجواء تلك المرحلة كانت تجعل ذلك أمرا محتّما.

وجاءوا يقودهم وكيل النيابة الساعة 11:30 من مساء الجمعة، جاءني ابني باقر، وقال لي: "هناك شخص يريدك خارج المنزل. في طلة من النافذة وجدت السيارات المدنيّة والعسكريّة قد أغلقت الشارع شمالا وجنوبا.

تملّك الخوف زوجتي، التي كانت للتو خرجت من لجنة تحقيق في وزارة الصحة بحكم عملها كطبيبة، لكنني قلت لها "لا تقلقي، أنا المستهدف وليس أنت".

ويتابع فيقول:"نزلت الدرج، فوجدتُ أحد وكلاء النيابة، الذي صار قبالتي، قال لي إن هناك أمرا بالقبض عليّ مع تفتيش المنزل وهو صادر عن رئيس النيابة العسكرية، فطلبت منه إبراز ذلك الأمر، فقال ألا يكفي أن وكيل النيابة بنفسه قد جاء الى هنا؟

" قصدوا غرفتي النوم والمكتب. دخل أكثر من عشرين شخصا، كلّهم ملثمون ومسلحون. وجنود آخرون وقف كل واحد منهم في كل ردهة من ردهات المنزل، شاهرين أسلحتهم بوجه زوجتي وأولادي.

وثائق وألبومات

غصّت غرفتا النوم والمكتب بالعساكر. وأمام مرأى وكيل النيابة (سلمان البوعينين) كان كل منهم يلمّ كل ما يقع تحت يده، من أوراق، وهواتف، وكاميرات، وأجهزة كمبيوتر، وأقراص مدمّجة، وغيرها، ويضعونها في أكياس.

طلبوا مني فتح خزانتين تحويان أموالا ووثائق تخصنّي وتخص الدعاوى القضائيّة التي أعمل عليها، كنت أحاول ضبط ومراقبة ما يحدث، لكن دون فائدة، فأكثر من أربعين يداً كانت تعبث في الغرفة في وقت واحد. صُودر الكثير من الأشياء، ولم أستطع أن أعرف كل ما صودر. شاهدت أحدهم يصادر ألبومات حفل زواجي، ويقوم بالتصوير منها! وصوروا أيضا صور الزواج المعلّقة في غرفة النوم. إنه منظر لا يمكنني أن أنساه أبدا.

كان الارتباك باديا على وجوه الجنود، كلما اقتربت منهم وهم عند "التجوري". فمن كان يفترض به أن يقوم بتوثيق عملية الاعتقال، كان يركّز على وجهي، ويصور كل شيء، عدا  سرقة و مصادرة أشياء غير مصرّح لهم بمصادرتها.

" أُصبت بالذهول، لكنني كنتُ في طمأنينة بأن الله معي. وبدت زوجتي متماسكة، وكنت قد طلبت منها أن تبقى مع الأطفال. أبنائي الكبار (باقر، زهراء وحوراء) كانوا يشاهدون كل هذه العمليات، وكان ذلك قاسيا عليهم، فهم إلى الآن لم ينسوا هذه المشاهد. وباتت الفتاتان تعانيان من مرض خاص يجعل إدراكهم ناقصا حيث توّلد في قلبيهما غضب شديد، ولم تفهما لماذا يحدث هذا لوالدهم؟ كانت زهراء تسألني: هل تطاولوا عليك يا أبي؟ كيف يجرؤون؟ كانت صدمتهم كبيرة، قلنا لهم إننا جزء من هذا الشعب المظلوم، من هؤلاء الناس الذين يعانون، وتُهتك حرماتهم كل يوم، فتقبّلوا الأمر".

بالغترة إلى مكتبي

" وكان عناصر الأمن ينتقلون من غرفة إلى أخرى بسرعة، حيث أصروا على تفتيش كل زاوية من زوايا المنزل، بما فيها غرف الأطفال والخادمة. وعندما أنهوا عملية التفتيش طلبوا مني إحضار مفاتيح مكتبي وأن ألبس غترتي.

حين اعترضت على وكيل النيابة وقلت له إن تفتيش مكتب المحامي لا يجوز إلا بتصريح مكتوب من النيابة العامة، قال لي " طالما هناك وكيل نيابة فليس لك أن تعترض، وكيل النيابة بمثابة تصريح لأي إجراء".

عرفت بأن الغترة كانت للتمويه على حرّاس المكتب وحرّاس العمارة كي لا أبدو في مظهر المقبوض عليه. من المنزل اقتادوني إلى مجمّع "يتيم" في سوق المنامة، وطلبوا مني أن أدّلهم على مكتبي. أدركت عندها أن رجال الأمن في بلادنا على مستوى عال من العبقرية، بحيث أنهم لا يعرفون أين يقع مكتبي! إنه ليس في مجمع "يتيم".

ذهبوا بي إلى شارع المعارض حيث يقع مكتبي، وانتشروا فيه بالطريقة نفسها، أخذوا يفتشون الملفات والأدراج صادروا أجهزة الحاسب الآلي، (الفلاش ميموري)، أجهزة حفظ الملفات، ثم اقتادوني إلى القلعة وقد ضُمّدت عيناي".

جاهز للضرب

وهناك أُخذتُ إلى عيادة القلعة، وتمّ فحصيّ، وقد سمعتهم يتصلون بالضباط ويبلغونهم بأن التاجر مصاب بالضغط، والسكري، وبمرض فقر الدم المنجلي (السكلر)، ولديه انزلاق غضروفي. فهمت أن ذلك ما هو الاّ تنبيه حتى لا يكون مستوى التعذيب مؤديا إلى الوفاة، خصوصا أن اعتقالي كان بعد أسبوع من وفاة الشهيد زكريا العشيري.[1]

مع الصباح كنت في قسم التحقيقات الجنائيّة التابع لوزارة الداخلية، وفور وصولي إلى هناك كان الإجراء الأول هو معرفة وضعي الصحيّ والجسمانيّ، أي ما إذا كنت جاهزا للضرب أم لا؟ لقد رأوا بُنية جسميّ قوية جدا، لكنها مكتنزة بالأمراض، كان ذلك مساعدا لي في تخفيف شدة التعذيب. وبأمر من الضابط لم تضّمد عينايّ، أُدخلت إلى حجرة في كل زاوية فيها كان هناك شخص مكبّل اليدين، ومضمّد العينين، ولم يكن يسمح لأحدنا حتى بالنظر إلى الآخر. لا أنكر أن معاملتي هناك كانت جيدة. لقد حاولوا ألا يسيئوا إليّ، وأعتقد بأن مهمتهم لم تكن الإساءة أو التنكيل بي، علما أني بقيتُ في قسم التحقيقات الجنائية لمدة أربعة أيام.

هذه قناعاتي

 
هناك، جرى التحقيق معي بشكل ابتدائي، ولم أعرف نتائجه. والمثير للسخرية أنهم اتهموني بأني السبب وراء إطلاق شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" وربطوا انتشاره بخطابي الذي ألقيته في الدوّار. وحققوا معي حول كل أنشطتي، وكانوا يسألونني بسذاجة: لماذا لا أترافع إلا عن المتهمين السياسيين؟ ولماذا - بحسب تعبيرهم- أشوّه صورة البلاد بتقاريري عن التعذيب؟

وركزوا كثيرا على ما جاء في مقابلتي مع قناة (العالم)، وخطابي في منصة الدوّار، وحول ندوة لي في إحدى الخيم، واعتمدوا عليها كأدلة لاتهامي ببث أخبار كاذبة والتحريض على كراهية النظام، والمشاركة في اعتصامات غير مرخصة، وتشويه سمعة البلاد في الخارج. وكان رديّ أن هذه قناعاتي وما قمتُ به ما هو الا تعبير عن الرأي، وأن كل ما قلته حقائق موّثقة في التقارير الدوليّة.



دعاوى قضائية ضد النظام

من جهة أخرى، كان من الواضح أن الهدف من هذا التحقيق الوصول إلى الدعاوى التي كنا ننوي، كمحامين، أن نرفعها على السلطة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان المزرية التي وقعت آنذاك، وبسبب القتل العمد الذي تعرّض له المتجمهرون في الهجوم الأول على الدوّار.

كانت هناك أسئلة مثيرة للاستغراب، إذ كانوا يريدون اسم كل من كان في خيمة المحامين، وأسماء جميع أعضاء هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين[2]، ونشاطاتهم.  كانوا يريدون أن يعرفوا إن كنا سنرفع دعاوى خارج البحرين ضد السلطة بسبب تجاوزات الأجهزة الأمنيّة والمسؤولين عنها، خصوصا وزير الداخلية وقائد قوة الدفاع، وما هي المنظمات التي نتعاون معها؟

هيئة الدفاع والحرس الثوري

وثمة محور جديد في التحقيق، تسبّب لي بموجة من الضحك، فقد سحب المحقق ملزمة كبيرة كانت إلى جانبه. قام بنشر أوراقها على الطاولة وقال لي "أنتم في هيئة الدفاع اجتمعتم مؤخرا، وتلا عليكم حسن رضي بيانا يُفيد أن الحرس الثوري الإيراني على أهبّة الاستعداد للتدخل بعد اقتحام الدوّار"
 
ضحكت من الأعماق، فسألني "لماذا تضحك؟" قلت له " أنتم تتهموني بأنني أبثُّ أخبارا كاذبة حين أتكلم عن تلفيق القضايا الكيدية، والآن تريد أن تزجّ بيّ في موضوع العلاقة مع الحرس الثوري وتريدني أن أجيب؟" قلت له "لو كنتُ منهارا واعترفتُ بوجود شخص واحد فقط في البحرين  ككل له علاقة بالحرس الثوري، لكان ذلك اتهاما جاهزا ودعوى كيدية كبيرة ضديّ أنا وضد حسن رضي وبقيّة المحامين". ساعتئذ لملم المحقق أوراق الملزمة وأرجعها إلى جانبه.

وأكمل التاجر قائلا:"هذه كانت المحاور التي ارتكز عليها فيما بعد تحقيق النيابة العسكرية معي، عدا محور الحرس الثوري الذي لم يحضُر مجددا.

رئيس قسم الجرائم الاقتصادية محققا

 
بسام المعراج
"كان المحقق رئيس قسم الجرائم الاقتصادية والإلكترونية بسام المعراج. وقسم الجرائم الاقتصادية مثله مثل قسم المخدرات، وكذلك باقي الأقسام الأخرى، فقد تخلى الجميع عن مهامهم وتخصصاتهم لصالح قضايا (السلامة الوطنية).

"وعلى سبيل المثال، أُُوكلت مهمات في هذا السياق إلى مبارك بن حويل، ونورة آل خليفة، رغم أنهم يعملون في قسم المخدرات، لقد تحوّل عملهم جميعا إلى "أمن دولة".

"كان المعراج هو من أشرف على اعتقالي وقصد منزلي مع تلك الفرقة، ولا أنكر محاولته عدم الإساءة لي وإعطاءه تعليمات بعدم تجاوز القانون خلال وجودي في التحقيقات. في هذا التحقيق، لم أكن مصمّد العينين ولا مكبل اليدين، بل عاملوني بشكل أخلاقي جدا".

"ربما كانت المعاملة الحسنة سببها احترام شخصيّ من المحقق، لأنه يعلم من هو محمد التاجر، فكثير من القضايا التي ترافعت فيها، كانت جرائم اقتصادية".  لكن المعاملة تغيّرت راديكاليا في سجن القرين الذي نُقلت إليه بعد 4 أيام. وهناك شهد التاجر ما أسماه اليوم الأول فعليّا، هذا اليوم خصص فيه التعذيب في السجن العسكري له فقط، بعد أن عرّفوا بأنه "محامي الخونة".

شهادة التاجر المفصّلة عن سجن القرين، وماذا لقي هناك، وكيف شهد تعذيب عبد الهادي الخواجة والآخرين، وكيف قضى تلك الأيام بين سجن "الكاتراز" وسجون أخرى. كل هذا في الحلقة القادمة.



الهوامش:
_____________________________
  1. [1] زكريا العشيري ... من قرية الدير التي ينتمي لها المحامي التاجر أيضا، وهو أخو النائب المستقيل علي العشيري، اعتقل على خلفيّة إدارته قسم 14 فبراير في منتدى الدير الإلكتروني، وتعرّض للتعذيب الشديد في السجن، استشهد في 9 أبريل/نيسان 2011 ووثق ذلك في تقرير لجنة تقصيّ الحقائق الذي أدان جهاز الأمن الوطني لتسببه في قتله.
  2. [2] هيئة الدفاع عن المعتقلين السياسيين، هيئة غير رسمية تشكلت من 30 محاميا  في أغسطس/آب 2010 للدفاع عن متهميّ خليّة 25 السياسية، ثم أعيد تشكيلها بعد حملة القمع في 15 مارس/آذار لتستمر في تمثيل النشطاء السياسيين أمام القضاء وتتولى جميع القضايا التي عرضت أمام محاكم السلامة الوطنية (العسكرية)، بالتنسيق مع عدد آخر من المحامين.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus