المحامي محمد التاجر: شهادة على سجن القرين العسكري (3-4)

2012-03-25 - 8:04 ص




 
مرآة البحرين (خاص):
في قسم التحقيقات الجنائية، كان المحامي محمد التاجر يعيش حالة من الترقب "هل سوف أسلم إلى الجيش؟ أم إلى جهاز الأمن الوطني؟". أخرجوه من تلك الغرفة مصمد العينين، وأخذوه في سيارة، ولم يعرف إلى أين؟

 
ودخلت إلى حيث لا أرى

"أعتقد أن اليوم الأول لاعتقالي لم يكن في قسم التحقيقات، اليوم الأول لم أجربه إلا عندما وصلت سجن القرين العسكري. لم أكن أعرف أين أنا، ومن هؤلاء، وماذا سيحصل لي؟" يمضي التاجر في سرد أهم شهادة على المعتقل السري العسكري الذي ذاع صيته فترة السلامة الوطنية.

أول الممنوعات في هذا السجن هو أن "ترى"، تُصمّد عيناك حتى لو كنت ذاهبا للحمام، لا يسمح لك حتى أن ترى الممر، ولا الزنزانة التي بجانبك، ولا الطريق إلى الحمام، يرتفع المنع داخل الحمام، يمكنك أن ترى.

ثاني الممنوعات هو أن تعترض. حتى لو كنت ستشرب الماء من كأس قذرة لا يمكن أن يشرب منها بشر، أو كنت ستنام على سرير أسود مشبع بالقاذورات، ووسادة ربما مر عليها عشر سنوات ولم تغسل، وغطاء تفوح منه كل الروائح النتنة "طلبت منهم أن أعيش في الزنزانة بكمامة، ولم ألق سوى الشماتة والسب والاستهزاء بالمهنة وبالموكلين وكذلك شتم الطائفة"

 
منتصف الليل الأول: أنا ولا غير

"التف حولي كثيرون وأنا مصمد العينين، وهم يسألون بعضهم البعض من هذا؟"، "إنه ممثل... إنه شخص مشهور" أحدهم كان يشحذ ذاكرته "لا..هذا الشخص أراه باستمرار" سمعه التاجر يصرخ فجأة كمن حل لغزا عظيما "طحت في أيدينا يا المحامي الكبير، الحين عرفناك، خلها تفيدك صولاتك وجولاتك، خله يفيدك دفاعك عن الخونة، خله يفيدك كل يوم طالع لينا في ندوة"، كانت شماتة لم يشهد مثلها من قبل، رموه داخل الزنزانة، سلبت نظارته وأخذت أدويته. تركوه ثم عادوا.... منتصف الليل!
 
"في منتصف الليل، كانوا يفتحون أبواب جميع الزنازين، لكن ذلك اليوم كان مخصصا لي أنا فقط" يقول التاجر.

الساعة الثانية عشرة، مجموعة كبيرة من الملثمين يدخلون زنزانته، يأمرونه بالوقوف ورفع يديه واستقبال الحائط. كل الواحد منهم يستبق  الآخر في ضربه وتعذيبه، لكمات بقبضة اليد، صفعات، ركلات، أحدهم ذهب إلى زاوية الزنزانة وجاء مسرعا لتكون ضربته أقوى، كما في حلبات المصارعة.

"بعض الضربات كانت تصفق جسمي بالزنزانة، فقدت الاحتمال والقدرة على المقاومة، وأحسوا بتراخي قوامي وعدم تماسكي، لكنهم قالوا "أنت تمثل حتى نتوقف عن ضربك" أنهضوني، وواصلوا بشكل أشد، كان يتناوب على ضربي ثمانية أشخاص"

هذا التعذيب استمر قرابة 40 دقيقة "عندما شعروا بأن قواي قاربت على الانهيار وعندما أحسوا أنني قد أصاب، توقفوا" مع التعذيب كان هناك شيء من تلقين الدروس (القانون الذي تعرفه اجعله في رأسك، هنا لا يوجد قانون) (أي شيء كنت تعرفه عن القانون وحقوق المعتقلين  وتتبجح به في الخارج، لا تتحدث عنه ولو بالإشارة، هنا أنت تحت رحمتنا وقانوننا)

"كانوا يهددونني بنقلي إلى السعودية، كانوا يقولون لي: هل تريد أن نقول للشيخ إن يبعث بك إلى السعودية حتى تسجن 30 سنة؟ كانوا دائما ما يحاولون إخافتنا من هذا الشيخ. من هو هذا الشيخ؟ الله يعلم!"

 
نمت مرتاحا واستيقظت ضاحكا

 
"النوبة الأولى من التعذيب أفقدتني وعيي، لكنني استيقظت ضاحكا، في سريرة نفسي كنت أقول: لقد ذقتها كما ذاقها مئات الموكلين الذين دافعت عنهم"

عندما خرجوا أمروا التاجر أن لا يشتكي ولا يعاني أو يقول أي شيء، أغمي عليه، وحين عاد له وعيه انتابه شعور غريب "كنت مرتاحا، حمدت الله أنني رأيت الذي كنت أسمعه كل هذه السنين من المعتقلين، كنت أسمع معاناتهم ولكنني لم أعايشها، كنت أتوجع عندما يقولون لي ماذا صنعوا بهم، ولكنني لم أكن أحس بألمهم"

استمر التعذيب مع التاجر 3 مرات بنفس الوتيرة وبنفس الطريقة، أحس بأنه أصيب بكسر بين الكتف والرقبة "كنت أسمع طقطقتها، وكنت عاجزا عن رفع يدي إلى الأعلى، لأن الضرب كان بشكل متوال وسريع، لكنني تمكنت من النوم مرتاحا"

 
المعذبون كانوا بلطجية الجامعة!

 
في اليوم الواحد، أكثر من شخص ملثم يمر على المعتقلين في سجن القرين العسكري، واحد يشمت، واحد يشتم، ثالث يبصق، وآخر يعطي تعليمات معينة، أو يعلق لك صورة المشير، أو يضع صورة الملك عبدالله، أو يضع صورة خليفة بن سلمان، كل واحد له مهمة مختلفة.

"كنا نسمع نباح الكلاب خارج العمبر، ثم يأتي أحدهم بالخرطوم البلاستيكي الذي لديه ويقوم بسحبه على قضبان الزنازين بسرعة كبيرة: فلتستعدوا"
 
يلبس "المعذبون" مفتولو العضلات  لباسا رياضيا، ويحملون خراطيم بلاستيكية وألواح، أغلبهم كانوا بحرينيين، بينما حرس السجن كانوا باكستانيين "ذكرني منظرهم وهم يدخلون علي بالأفراد الذين هجموا على الطلبة والطالبات في جامعة البحرين" المفاجأة أن أحدهم كان فعلا مع تلك الفرقة.
 
كان هذا الشخص يلبس لباسا رياضيا أصفر يتبع "النادي الأهلي". تأكد التاجر أنه هو نفس الشخص بعد المقارنة مع الصور المنشورة لاقتحام الجامعة، ثم تكشّف لنا أنه أحد اللاعبين المعروفين الذين يعملون في المخابرات العسكرية، وقد رصد حضوره في أكثر من حدث خلال هذا العام!




سجن الكاتراز البحريني

"مجرد أن تغيب الشمس يرمى لنا صحن الطعام من تحت باب الزنزانة، وإذا كنت تريد ماء، عليك أن تخرج الكأس إلى الخارج وتضرب على الأرض وتنتظر إلى أن يأتي أحدهم ويسكب لك (إذا كان يريد)، لم نكن نعرف الوقت، ولم يسمح لنا بإدخال تربة للصلاة، لا يوجد أيام يعيشها الإنسان أطول من أيام السجن، ولكن من رحمة الله بنا أنهم سمحوا لنا بقراءة القرآن"
 
"أخرجونا من هذا العمبر ونقلونا إلى سجن آخر أطلقنا عليه سجن الكاتراز البحريني" كان طوله لا يتجاوز مترين، وعرضه لا يتجاوز 120 سم "كنت أنام ورجلاي على الجدار، لم نكن نستطيع أن نرى أي شيء خارج الزنزانة، ولم نحس بأننا في سجن حقيقي إلا حين نقلنا إليه"

 
سجن الكاتراز - أمريكا (اضغط للتكبير)
هذا السجن لا توجد به إلا خمس زنازين، قاسي البرودة، لا يسمح فيه للضوء بالدخول إلا من فتحة طولها 40 سم وعرضها 10 سم، زنزانة محكمة من كل الجوانب، باب فولاذي، جدران إسمنتية، وفتحة صغيرة لدخول الهواء من الأسفل، كان الغبار لا يقف عنه، كان أقذر سجن، شديد القتامة وموحش جدا.

كثير من الناس تزلزلت نفسياتهم فيه، أحد المعتقلين حاول أن ينتحر هناك، دخلوا إليه وهو يضرب جبهته بالباب! "الكاتراز" سجن تأديب للعسكريين، ينقلون إليه عند ارتكابهم مخالفات أثناء قضاء عقوبة ما، كان من المستحيل أن يستحمله أحد.

في هذا السجن، بقي عبد الجليل السنكيس، عبد الهادي المخوضر، سعيد النوري، إبراهيم شريف والحر الصميخ ، من منتصف شهر مارس، ولمدة شهرين، أي إلى أن نقلوهم ووضعونا مكانهم.

"نقلنا نحن إلى هناك في أواخر شهر مايو وبقينا ثلاثة أسابيع، وبعد أن حولونا إلى المحكمة، أتت النيابة العسكرية وبدأت للتو تتعرف على وضع كل سجين، أحيل البعض إلى المحكمة وأفرج عن آخرين، بينهم فهمي البقلاوة، وأمرت النيابة بأن ينقل الجميع من هذا السجن، فأرجعنا إلى العمبر القديم"

لم يكن يستطيع التاجر أن يرى، وبالكاد كان يتنفس. لم يعرف من يقبع في الزنازين الانفرادية الأخرى، حتى بدأت المحاكمات في شهر يونيو.

 
هل أنت أبو ديب فعلا؟

 
يرجع التاجر للعمبر القديم، للتو صار يستطيع أن يرى "لن أنسى شكل إبراهيم كريم – أحد المعتقلين- حين رأيته أول مرة، كان يبدوا ككهل يعيش في الإسكيمو" عرف أنه يجاور مهدي أبو ديب رئيس جمعية المعلمين، وصار يتكلم معه خلسة، حين رأى أبو ديب، ظلا نصف ساعة يحدق أحدهما في الآخر، أبو ديب يسأله: هل أنت محمد التاجر حقا؟ والتاجر يسأله: هل أنت مهدي أبو ديب؟

لم يصدق الآخرون أن محمد التاجر موجود معهم، كانت الأسئلة تنهال عليه، كل واحد منهم يريد أن يعرف وضعه القانوني. صار سجناء القرين يسعون للحصول على القليل من الأخبار من الشرطة أو الممرضين، كانوا يخافون كثيرا من الحديث معا، كل كلامهم يكون خلسة من تحت الباب.

أحد الحراس الباكستانيين، كان يجلس قريبا من الباب ويضع رجله عليه تفاديا لدخول أحد الضباط بشكل مفاجئ، حين يكون هذا الحارس المتعاطف هناك يجد التاجر ورفاقه متنفسا في الحديث بحرية. دخل مدير السجن ذات مرة وهم يتحدثون معا، بعد حوار هادئ أعطاهم إذنا بأن يتكلموا ولكن دون أن يسمعهم أحد! "هو مدير السجن لكنه خائف حتى من الضباط الأقل منه رتبة!" بعد أيام خففت القيود بشكل رسمي أكثر.

استمر بقاؤهم هناك 10 أيام ثم نقلوا إلى عمبر آخر أطلقوا عليه سجن "تشاينا تاون"- (China Town)- وهو عمبر جميع فيه كل الشباب المتهمين بالقتل والخطف وما شاكل، ومع الوقت صدرت أحكام ضدهم ونقلوا إلى سجن جو.
 
من هؤلاء الشباب علي الطويل، علي الجزيري، علي عطية، خليل المدهون، حامد المدهون، محمد ميرزا وشباب آخرون. "كثير منهم كانوا موكليي واجتمعت معهم في زنزانة واحدة لأول مرة" كان المتهمون في قضية "الدهس" - والذين توكل التاجر عن أحدهم قبل اعتقاله - كلهم في هذا العمبر كذلك، قبل أن ينقلوا إلى سجن جو.

 
خريطة سجن القرين

سجن القرين العسكري، مكون من 4 عنابر: الكاتراز، وهي تسمية أطلقها التاجر ورفاقه عليه لشدة قتامته وضيقه (نسبة إلى سجن الكاتراز الذي يعتبر أسوأ سجن في أمريكا)، وهو ليس له اسم عندهم. فيه حمام، و5 زنازين، وفي الخارج برج مراقبة، بوابة، عيادة، حمامات جماعية لم يدخلوها إلا نادرا، و"كانتين" لم يفتح إلا آخر الأيام.

في هذا السجن كذلك: عمبر رقم 3 الذي أطلقوا عليه اسم "سجن شاينا تاون" وعمبر رقم 2 الذي مر التاجر في زنزاته السابعة حين دخل القرين أول مرة، ومر على هذا السجن قبله الطبيب علي العكري.
 
 
محمد حسن برويز
وفي هذا السجن كان مع التاجر القيادي في حركة أمل محمد العلوي، ورئيس جمعية المعلمين مهدي أبو ديب، وداعية حقوق الإنسان عبد الهادي الخواجة، وكذلك رجل الدين الشيخ عبد الجليل المقداد، والناشط الحقوقي محمد حسن برويز (خال الناشط نبيل رجب) والأستاذ محمد علي رضي (المتهم ضمن قضية 21)، وأحضروا فيه كذلك الشيخ عبد العظيم المهتدي (أحد القيادات العليا في التيار الشيرازي) قبل أن ينقل لاحقا، وفي إحدى المرات أحضروا شخصا لبناني كان المعتقلون يسمعون صوته وهو يعذب، ثم نقلوه.
 -
"أستطيع تشبيه سجن القرين بالقلعة العسكرية" ألحق بهذا السجن في مكان ما سجن آخر أضيق وأسوأ، لم يستطع التاجر التعرف على موقعه بدقة، وكانت المخابرات العسكرية تستخدمه للتحقيق مع المتهمين عند الاعتقال، ومن ثم يرمونهم هناك. "يفترض أن تدير هذا السجن الشرطة العسكرية، أو ما يسمونها المؤسسة الإصلاحية، ولكنها لم تكن هي من تديره فترة وجودنا واعتقالنا، بل كان في عهدة المخابرات العسكرية"
 
"نحن في البداية لم نكن نعرف شكله، ولم نستطع أن نرسم له أي تصور، ولا نعرف أين يقع، وهل هو في بحر أم في بر" مع الوقت عرف التاجر أن سجن القرين يقع في مكان مرتفع من البر ولكنه قريب من البحر، وهو عبارة عن جزء مسور ومغلق تابع للجيش وعليه حراسة مشددة ودبابات من كل جهة، وتحيط به أبراج المراقبة، وعدة بوابات متتالية.
 
"حين تخرج من السجن، يكون على يسارك القاعدة البحرية، وعلى يمينك قاعدة الشيخ عيسى الجوية، وهذا شيء عرفناه يوم الإفراج عنا، لأنهم أخرجونا لأول مرة غير مصمدي العينين" كل هذه المناطق غير مسموح بالوصول إليها (محظورة) وكلها واقعة تحت سيطرة الجيش. "في أول جلسة لي أمام المحكمة عرفت أنني أحضرت من سجن القرين!"

 
التحقيق في سجن القرين

 
تسلم المحقق العسكري "خليفة الجلاهمة" كل أوراق التحقيق الذي جرى مع التاجر في قسم التحقيقات الجنائية   وبنى الاتهامات عليها "كان في قمة العنت، بحيث لم يسمح لي حتى بالجلوس أثناء التحقيق، أو حتى وضع يد على يد، كان قاسيا معي جدا، لم يحترم حتى سني ولم يحترم مكانتي القانونية بالرغم بأنه ملازم حقوقي"

كان الجلاهمة يسأل التاجر عن عدد كبير من المحامين، كان يبدو أنه يريد اعترافا منه عليهم لتوريطهم في تهم وقضايا ملفقة، إذ كان من المخطط تفصيل قضية كبيرة تستهدف المحامين، على غرار المعلمين والكادر الطبي، وقد استدعي حسن رضي وجليلة السيد للتحقيق فعلا ولكن لم توجه لهما أية اتهامات فيما بعد.

كان التاجر يعرف هذا الأسلوب جيدا، ويعرف تبعاته، لم يكن لينطلي عليه "حاولوا أن يأخذوا مني معلومات عن كل المحامين الذين يتابعون قضايا سياسية، سألوني عن كل محام شيعي، ما دوره وما هو موقفه؟ وركزوا كثيرا على هيئة الدفاع، وكذلك المسئولين معي عن خيمة المحامين في دوار اللؤلؤة"

صور وأفلام فيديو عرضت أمام التاجر ليحدد هوية من يظهر فيها، لكنه أنكر معرفته بهم وعرّف بعضهم بمحامين صغار تحت التدريب، أو بحجّاب أو زوار "حاولت قدر ما أستطيع أن لا يتورط أحد آخر غيري في هذه القضية، تهربت من أي سؤال متعلق بالمحامين الكبار، أبعدت الاتهام عن الكل"

في ختام التحقيق قلب التاجر الطاولة على الجلاهمة "أنا مدني لا يجوز أن يحقق معي عسكريون" قال له بشكل جريء إن الأحداث والانتهاكات التي كان يتكلم عنها وكانوا يصفونها بـ "الأخبار الكاذبة" تحصل الآن في هذا المكتب "تحتجزوني وتوجهون لي اتهامات باطلة فقط لأنني قمت بعملي، فمن يشوه صورة البلاد الآن؟"

في الحلقة الرابعة والأخيرة، سيدخل المحامي محمد التاجر المحكمة، من باب قفص الاتهام، وسيلتقي عائلته لأول مرة، وكما كان سجنه مع موكليه شهادة للتاريخ، ستكون محكمته التي لا تزال مستمرة، شهادة أخرى ستملأ تاريخ هذا النظام عاراً إلى الأبد.




التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus