ليلة في الدراز
2017-03-07 - 9:15 ص
مرآة البحرين (خاص):إنها عطلة نهاية الأسبوع، في هذا الوقت يبحث الكثير عن متنفس يروحون فيه عن أنفسهم، وعلى عكس ذلك، ها نحن نبحث عن منفذ إلى مكان يضيق الخناق عليه وعلى من داخله يوماً بعد يوم. هذه محاولتنا الثانية لتجاوز الحصار المفروض على قرية الدراز منذ ثمانية أشهر، وكما حال الاستنفار الأمني من وصولنا عشية الجلسة الأخيرة لمحاكمة آية الله الشيخ عيسى قاسم، كادت المحاولة أن تفشل هذه المرة أيضاً لو لم نفهم أن الخطورة كامنة بالأمس، واليوم، وغداً، وللوصول لا مناص من قفزة في الهواء، بها نعبر أو بها نسقط .. فقفزنا.
مضت أكثر من عشر دقائق الآن، ونحن نسير راجلين إلى عمق القرية، أو هكذا هُيّئ لنا. نبحث عن أي شيء يرشدنا وسط هذا الظلام الدامس وهذا الصمت المطبق، أخيراً عثرنا على أحدهم. سألناه: أين بيت الشيخ؟ فرد: أي شيخ! أنى لأحد أن يتوه عن أي شيخ نقصد، كان متوجسا منا وكانت هذه طريقته في الاعتذار عن الجواب. ربما نجح التضييق والتهديد من سلب أهل الدراز شعورهم بالأمان، غير أنه قطعاً لم ينقص شيئا من فطانتهم أولاً، ولباقتهم ثانياً.
شكرناه على كل حال، ووجدنا طريقنا إلى (ميدان الفداء) الصوت الصادح من مكبرات الصوت يغمرنا بالألفة، ويدفعنا لأن ننتظم تلقائيا في صفوف بدأت بالتشكل، مر صبيٌ يوزع على الحضور أوراق طبعت عليها صورة الشيخ، وبجانبها صور الشهداء الذين اختطفهم الغدر هذا العام، وما كانت إلا لحظات، حتى انطلقت المسيرة.
يطوف الجمع من زقاقٍ إلى زقاق، شباب وشياب يهتفون، والنساء تهتف من خلفهم. لا يبدو الأمر معقداً، فرد يلقي الشعارات عبر مكبرات الصوت، جمع يرد، وبضعة شباب يحملون آلات التصوير، يهرولون للأمام تارة وللخلف تارة أخرى، حشد متواضع، غير أن الانضباط يشي بأن هناك من يحكم قبضته على زمام الأمور، وفي الحد الأدنى، ينظم عملية التصوير بما لا يسمح بأن يُكشف وجهاً لأحد المشاركين فيتعرض للخطر.
تشعرك بعض الهتافات أنها تعيد إليك ست سنوات اجتثت من عمرك، إنها الهتافات نفسها التي كانت تعصف بوسط المنامة، تذكرك الآن بالأمل الذي عشناه آنذاك، وتنبئك أنه مهما تبدلت الأحوال هناك من ما زالوا على ذات الموقف. تعود الشعارات حول الشيخ مرة أخرى، ينطلق نداء من مكبرات الصوت: هو جزء من الحل، نرد: كيف يرحل؟ كيف يرحل؟
تقريباً في منتصف الطريق، أزكمت أنوفنا رائحة غاز كان يُرشق على قرية مجاورة. طفلة يحملها والدها بدأت تضربُ كتفه، أنزلها على الأرض، سحب وشاحاً من حول رقبته ولفه حول أنفها وفمها، أخذ بيدها وأكمل المسير وهي تُجهد الخطى بجانبه. على غير طباعهم لم يبكِ الأطفال ولم يتشاقوا، هم فقط يحملقون حولهم في صمت، كأنهم يتعلمون المطالبة بحقوقهم، يعتادون التعب، يألفون القمع ومسيل الدموع، يحفظون الدرس كي يحفظوه أولادهم غداً.
ينطلق نداء آخر من مكبرات الصوت: الأصل الدراز، نرد: وليس الجواز، إلى أن وصلت المسيرة إلى بيت الشيخ، نصرف بوجوهنا نحو القبلة، نقرأ مع الناس دعاء تعجيل الفرج، وفي ختامه تعلوا أصوات الجميع "إلهي حتى ظهور القائم .. احفظ لنا ابن قاسم" قلناها ثلاثاً وانفضت المسيرة.
صف بضعة شباب طعام العشاء على الطاولات، أخذ الناس ما يسد رمق جوعهم، وجلس كل جمع منهم في جهة. هم أيضاً لا يُسمع لهم صوت سوى الهمس ولا تشهد لهم حركة إلا نظراتهم الممتدة من أمكانهم إلى منافذ الميدان. هيبة تفرض نفسها هًنا، أهي هيبة الشيخ؟ أم هيبة الموت؟ أم هيبة الرجولة والفداء؟ شاغبنا أزيز الطائرة عن أن ندرك، يبدو أن الوضع في المنطقة متوتر، رغم رغبتنا في البقاء إلا أن وقت مغادرة القرية المُجَرَّم دخولها ومجالسة أهلها قد حان.
قفلنا راجعين، كلما نبتعد عن الميدان تتلقفنا الوحشة مجدداً، لكن هذه المرة كان خيال ما شهدناه يرافقنا. هل تظنهم مجانين يدورون حول أنفسهم ويهتفون دون أن يسمعهم أحد؟ هم في الحقيقة يهتفون ليذكروا أنفسهم، وليعلموا أبناءهم، تركناهم في ميدانهم، ثلة على أهبة الفداء.