عصمت الموسوي في شهادتها على الصحافة البحرنية: الربيع العربي وامتحان الصحافة البحرينية

2012-05-10 - 8:21 ص


عصمت الموسوي*

ربما كانت الصحافة هي أكثر القطاعات التي تعرضت  للاختبار والتقييم والمساءلة والمراجعة والتغيير عشية انطلاق الثورات العربية بدءا من تونس ومرورا بمصر وليبيا واليمن وانتهاء بالبحرين والأردن وسوريا، إذ وجدت الصحافة نفسها أمام " تسونامي " عارم من الأحداث والمعلومات والأخبار المتدفقة من مصادر عديدة غير تلك التي اعتادت عليها، فالصحافة المقيدة التي اعتادت السير في ركاب السلطة السياسية والامتثال لتوجهاتها وقعت في حيرة من أمرها أمام الشوارع العربية المنتفضة المطالبة برحيل طغاتها أو باستحقاقات وإصلاحات سياسية طال أمدها.

 وقد ظلت المنظمات المعنية بحرية الصحافة والكلمة تضع العالم العربي وصحافته في خانة متدنية جدا، إذ لا تتمتع هذه الصحافة بأي نوع من الحرية والاستقلالية باستثناء خمس دول عربية صنفت في خانة الصحافة " شبه الحرة "  وحسب تقارير التنمية الإنسانية العربية على مدى سنوات، فإن الحريات المنتقصة على كافة الأصعدة كانت أكبر عائق للتنمية السياسية في العالم العربي، ولنا أن نجمل الوضع البحريني الصحفي في التالي:

أولا: إن ضعف الصحافة في كل مكان مؤشر على انعدام الديموقراطية والحريات والحقوق والعدالة والمساواة والحكومة الرشيدة وحقوق الإنسان والقضاء المستقل. وفي العالم العربي ظلت الصحافة ذات منحى حكومي محض وذراعا للسلطة وممجدة لإنجازاتها وانتصاراتها ومغيبة وطامسة للرأي الآخر واحتياجاته وصوته، وقد انحازت بشكل فج وسافر لأنظمة الحكم وأصبحت ناطقة باسمها، ووجد العاملون في بلاطها أنفسهم محاطين بخطوط حمراء وقوانين وتشريعات وأعراف ورقابات يصعب تجاوزها.

 ولم تكن البحرين استثناء من ذلك، فبعد 30 عاما من زوال قانون أمن الدولة الذي أحكم سيطرته على الصحافة وكمم الأفواه والحريات السياسية،  دخلنا مرحلة جديدة مع المبادرة الإصلاحية لملك البحرين، فبعد إطلاق الميثاق الوطني وعودة العمل بالدستور المعدل دستور 2002 وما تبعه من عودة للحياة النيابية والجمعيات السياسية  لوحظ انتعاشا في مستوى الصحافة ومنسوب الحريات مما ساهم في الإقبال عليها وفي التفاعل الجماهيري معها، وقد انعكس ذلك إيجابا على إصدار الصحف وتنوع الأقلام، وشهدنا مرحلة صار يحسب فيها للصحافة حساب بعد أعوام من التجاهل أو اعتبارها مجرد ديكورا لاستكمال الدولة المدنية العصرية، بيد أن هذا الانفتاح الصحفي النسبي لم يواكبه انفتاح قانوني إعلامي اذ ظل قانون المطبوعات والنشر القديم حاكما وجرى تعطيل إصدار القانون الجديد في البرلمان - الذي يفترض أن يكون أحد نتائج مبادرة الإصلاح - عاما بعد عام بسبب رفض الجسم الصحفي له مرارا، كونه يغلظ العقوبة ويحد من استخدام حرية التعبير ويعتبرها عقوبة يستحق مرتكبها السجن والغرامات.

ثانيا: إن أكبر ضربة للصحافة جاءت على أثر قيام الدولة باستخدام سلطاتها القانونية والقضائية بمنع وحظر ما سمي بتقرير البندر في عام 2006، وهو التقرير المثير للجدل، والذي نشره المستشار في إحدى وزارات الدولة صلاح البندر، ويشير التقرير أن هناك جهازا سريا في الدولة يعمل على تقويض المجتمع وتفتيته وإضعاف وتوهين طائفة في المجتمع ونشر الخلافات بين أعضائها وجمعياتها ومواصلة نهج التجنيس السياسي لإحداث خلل ديموغرافي يجعل المعارضة أقلية، وقد نتج عن ذلك ارتفاع نسبة النمو السكاني إلى 7%، وقد ساد المجتمع منذ تلك الواقعة مناخ ملتبس ومشكك في كل المبادرة الإصلاحية للملك، واهتزت ثقة المجتمع البحريني في حكومته ونواياها وخططها، وانتشر الخوف والتوجسات والاتهامات المتبادلة، كما منع مجلس النواب من مساءلة ومحاسبة الوزير المسؤول عن هذا التقرير.

ثالثا: انعكست القضايا السياسية ذات البعد الإقليمي على مجريات الوضع السياسي والإعلامي في البحرين مما زاد من الاحتقان والتمترس الطائفي لدى المكونات والقوى السياسية، فانشغلت الصحافة بهذه الملفات على حساب الملفات والقضايا الجوهرية كالدستوروالمشاركة وصلاحيات المجلس النيابي والتجنيس والإستئثار بالقرار والثروات والأراضي والمشاريع الكبرى الخاصة.

ثالثا: تفاقمت الأوضاع السكنية والمعيشية في البحرين على أثر الأزمة المالية العالمية منذ العام 2008 فأصبح الشباب في أوطاننا قنبلة موقوته، فوعيهم السياسي العالي لم يعد يتناسب مع محدودية المشاركة السياسية ونظم الحكم الجامدة والمتوارثة والعصية على التغييرالديموقراطي.

رابعا: مزاحمة المجنسيين للبحرينين وحصولهم على الامتيازات في السكن والعمل على حساب المواطنين "والجدير بالذكر التجنيس السياسي محظور التطرق إليه تقريبا في كل الصحف الموالية، كما أن الندوات والفعاليات الشعبية التي تتحدث عنه لا نجد لها تغطية إلا في صحيفة الوسط ونشرات ودوريات الجمعيات السياسية المعارضة كالوفاق ووعد والمنبر الديموقراطي والتي جرى تقييد ومنع إصدارها وحظر مواقعها الالكترونية.

كل تلك العوامل كانت وراء إرهاصات الانتفاضة البحرينية التي استلهمت ثورتي مصر وتونس، فخرجت الجماهير يوم 14 فبراير 2011، ومنذ ذلك اليوم اتخذ الإعلام الرسمي وصحافته الموالية موقفا منحازا للسلطة ومعاديا للحراك الشعبي، فاقتيد بعض الصحفيين المشاركين في المسيرات والتظاهرات إلى السجن، فعذبوا وضربوا عقابا على استعمالهم لحرية التعبير المكفول دستوريا وعوقبوا على كتاباتهم وبياناتهم المنددة بقمع المتظاهرين أو بسبب المشاركة بالرأي والتعليق في الإعلام الخارجي أو وسائل التواصل الألكتروني، وهوجمت صحيفة الوسط واتهمها الإعلام الموالي بفبركة الأخبار وأخرج رئيسها من الصحيفة وحوكم لاحقا، وقضى ثلاثة صحفيين نحبهم (مدون، وناشر، وصحفي حر) نحبهم في هذه المعركة، وأُهين المصورون الفوتوغرافيون وسجنوا وصودرت كاميراتهم وحواسيبهم، وقد فصلت الصحف كتابها وصحفييها فصلا تعسفيا بتهمة المشاركة في الدوار، ومنعت الصحافة الأجنبية المستقلة أو المتعاطفة مع الحراك الشعبي من دخول البلد، وخصص التلفزيون الرسمي برامج خاصة للمهنيين وللإعلاميين المشاركين في التظاهرات أوالذين فروا إلى الخارج.

 والجدير ذكره أن تقرير لجنة تقصي الحقائق قد أقر بهذه الوقائع ووثقها ورأى أن هذه البرامج قد أهانت الصحفيين وحضّت على كراهيتهم وإنسانيتهم ومذهبهم وطائفتهم، إضافة إلى بعض مواقع التواصل الاجتماعي المدعومة رسميا، ولم تستطع لجنة تنفيذ توصيات اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق من إعادة المفصولين أو تعويضهم إلا في بعض المواقع في وزارة الإعلام، لكنهم احيلوا قسرا إلى وظائف جديدة ومغايرة لتخصصاتهم.

وقد أشار التقريرالمذكور من ضمن توصياته إلى ضرورة إفساح المجال لقوى المعارضة بمنحها مساحة لقول رأيها وكلمتها في الإعلام الرسمي المحتكر للسلطة فقط، كما رأى ضرورة أن يكون لها إعلامها المستقل الخاص بها سواء كان مرئيا او مكتوبا أو مسموعا.

إن الوضع الصحفي والإعلامي الراهن لا يختلف عما كان عليه عند انطلاق الانتفاضة أوعشية تطبيق قانون السلامة الوطنية العام الماضي، فقد عادت الصحافة المنحازة وبرامج التلفزيون الرسمية مؤخرا إلى سالف عاداتها وممارساتها وخطابها في محاولة للسيطرة على الرأي العام وتوجيهه ونشر حقائق ومعلومات ذات مصدر واحد، مجتزأة من المشهد العام بهدف استعداء الشعب على المتظاهرين، في مقابل التعمية والتجاهل لعشرات الفعاليات والندوات الحقوقية والمسيرات الحاشدة اليومية ذات الطابع السلمي.

 إن إبراز بعض المظاهر الشبابية العنيفة كاستخدام القنابل الحارقة وتفجير اسطوانات الغاز وحرق الاطارات وغلاق الشوارع عنف غير مبرر ومؤذ للحركة الشعبية، ومشوه لصورتها وتدينه المعارضة دوما، إلا أنه عنف مضاد ومتأت  في الأساس من قمع المظاهرات السلمية وعرقلتها أو مهاجمتها، ووحشية التعامل الأمني معها، والقتل والتنكيل بالمشاركين فيها، وممارسة العقاب الجماعي للقرى والمناطق المنتفضة، وإغراقهم بالغازات السامة والمدمعة، وإرسال فرق " البلطجية " لتخريب الممتلكات العامة وسرقة المحلات برعاية الشرطة وتحت أنظارها، وتجاهل تطبيق اللجنة المستقلة للحقائق تطبيقا أمنيا وشاملا، وبث خطاب شديد الانحياز لطرف ووجهة بعينها - هي الجهة الرسمية - والعمل على " شيطنة " الحراك الشعبي وتضخيم أخطائه واتهامه بالعمالة والاستقواء بالخارج، يعاونها في ذلك إعلام خليجي وغربي داعم ومؤيد ومتواطىء، وغاض الطرف عن كل سوءاتها، إضافة إلى عدة شركات علاقات عامة جرى توظيفها واستجلابها لتلميع صورة الحكم وتبرير أخطائه وتشويه صورة وخطاب المعارضة والمتظاهرين وحرف انتباه الرأي العام عن الخروقات والانتهاكات في سيرورة التعاطي مع حقوق الإنسان.

واللافت لمتابعي الشأن البحريني هو تدني المستوى المهني لبعض الصحف وغياب معايير العمل الصحفي الشامل والمتكامل والموضوعي وطمس متعمد لكل الاحداث التي سادت في فترة السلامة الوطنية او بعدها فلا تجد فيها اثرا للاعتقالات او للقتل او المداهمات الليلية للمناطق المنتفضة في مقابل فرد مساحات كبيرة لأخبار أقل اهمية ذات صلة بالاجراءات الحكومية ودفن أخبار المعارضة في مسيراتها وندواتها ومطالبها ونداءاتها في الصحفات الداخلية.

ولعلنا نرى أن جمعية الصحفيين البحرينية وقفت ككثير من جمعيات المجتمع المدني " المختطفة  حكوميا " لصالح صحف وكتاب وموظفي السلطة، وقفت أما موقفا منحازا لها أو سلبيا تجاه منتسبي المهنة من الكتاب وأصحاب الرؤى الأخرى أو المعارضة، وحالت دون التعددية التي طالما تشدقت بها، ولم تقم بأي دور فيما خص القتلى من الإعلاميين، ولم تصدر بيانا استنكاريا للصحفيين الذين سجنوا وضربوا وغرموا وفصلوا من أعمالهم، وقد تعرضت الجمعية لمساءلات عديدة من قبل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، ورابطة الصحافة البحرينية ومنظمة مراسلون بلا حدود، واتحاد الصحافة العالمي، ولا تزال مساءلة ومحاسبة عن مجمل الاستحقاقات المؤجلة فيما خص الشأن الصحفي والإعلامي .

إن المجتمع الإعلامي والصحفي البحريني الذي تعرض لهجمة شرسة وجد ضالته في هذه الفترة الموغلة في الوحشية والتعديات وتجاوز القانون في صحيفة (الوسط) المستقلة التي ظلت وفية لمصداقيتها، أمينة مع قرائها قدر المستطاع وهي العلامة الوحيدة المضيئة في صحافتنا، كما وجدتها في صحيفة (مرآة البحرين) الالكترونية التي غطت من موقعها ما أخفق في التعبير عنه الإعلام المحلي، وأما التأييد والمناصرة فقد استمده الصحفيون البحرينيون من رابطة الصحافة البحرينية التي أخذت على عاتقها ومنذ تأسيسها ولغاية اليوم مسؤولية الدفاع عن الصحفيين والتعبير عن تطلعاتهم ونشر الحقائق المغيبة في إعلام السلطة، وقد أنجزت الاخيرة ما فشلت فيه جمعية الصحفيين فكانت صوتا للمغيبين وللقابعين خلف القضبان أو الذين لا يزالون ينتظرون الأحكام والتعويض فيما وقع عليهم من ظلم وتعسف.

 وإذ يستذكر الصحفيون البحرينيون هذه الأشهر المريرة التي مروا بها فإنهم يتجهون مجددا لتأكيد حقهم في الوجود على الساحة الصحفية ولتقوية صفوفهم والدفاع عن مكتسباتهم ومصالحهم، إن تأسيس مجموعة 19 بحرين مستمد من المادة 19 في العهد الدولي الخاص بحرية التعبير، وهو تكتل يأتي في وقت مهم وعصيب، سيضطلع هذا التكتل بمهمة تحرير الإعلام من قبضة الحكومة وتأكيد مسؤولياته ودوره كرقيب نزيه وشفاف على أداء الحكومة والمعارضة معا، وكشف كل الممارسات والانتهاكات بحق حرية التعبير ونشرها وتوثيقها محليا ودوليا، وسيسعى للتنسيق والتعاون مع التنظيمات والجماعات المماثلة في الداخل والخارج لتعزيز حرية التعبير والضغط على الحكومة وإجبارها على كسر الحواجز والخطوط الحمراء في صحافتنا وإعلامنا المحلي، والعمل على سن قانون صحفي عصري وديموقراطي يسمح بتدفق المعلومة ويمنع احتكارها ويضمن حرية التعبير ويحميها كما يحمي الصحفي.

 إنه - ربما - الوقت الملائم للتخلي عن الصحافة التقليدية الخائفة والمنحازة والتي فقدت مصداقيتها وثقة الناس فيها بعد تراجع أرقام توزيعها ومبيعاتها وإعلاناتها، والبدء بتأسيس الصحف المستقلة الجديدة المؤيدة للديموقراطية والتي يتشارك الصحفيون في تأسيسها والاستجابة لكل الشعارات الحقوقية والديموقراطية التي رفعها المتظاهرون في ساحات الربيع العربي حول الحقوق والحريات والاستقلالية والتعددية، إن هذا التحول لشريحة كبيرة من القراء إلى فضاءات التواصل الاجتماعي والصحف والمواقع الالكترونية الأكثر حرية والأقل قيودا لهو دليل على أننا بصدد زمن صحفي جديد، إن عالم الصحافة العربية الجديد - والبحرين من ضمنه - موعود بالأيام الأجمل في ظل نشوء الصحافي المواطن الذي يجول بكاميرته وهاتفه وحاسوبه الجوال ناقلا المعلومة والصورة إلى المحطات والصحف الأخرى دونما حاجة إلى ترخيص أو تسجيل (مئات الصور المنقولة على الفضائيات راهنا جاءت من فوتوغرافيين وهواة وصحافيين أحرار).

يحتفل الصحفيون البحرينيون يوم الثالث من مايو المقبل بيوم الصحافة العالمي بالتأكيد على أن حرية التعبير لا تطلب لذاتها إنما من أجل تعزيز الديموقراطية وتداول السلطة والمشاركة وتمكين الشعب من نيل حقوقه وحرياته وفضح الفساد والاسئثار بالسلطة.


*صحافية بحرينية، كاتبة عمود يومي، عضو مؤسس وعضو مجلس إدارة في جريدة الأيام، مراسلة هيئة الإذاعة البريطانية 88-1989.فصلت من جريدة الأيام في 1إبريل 2011.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus