» رأي
تجمع الوحدة الوطنية أم تجمع الفزعة الطائفية؟
يوسف مكي - 2012-05-17 - 10:46 ص
يوسف مكي*
كنا في مقالة سابقة عن ثورة 14 فبراير، في مرآة البحرين قد وعدنا القارئ الكريم أن نتناول "تجمع الوحدة الوطنية" بالتحليل لكي تكتمل صورة المشهد السياسي والاصطفافات الاجتماعية والسياسية في البحرين، وها نحن نفي بما تعهدنا به من خلال السطور أدناه.
أولاً: تجمع الوحدة الوطنية: في الاسم والمعنى والزمان والمكان
أطلق القائمون على هذا الحشد الجماهيري في 22/2/2011 اسم (تجمع الوحدة الوطنية) وهو اسم يوحي بأن هذا الحشد ليس حشدا طائفيا بل يشمل كل الطوائف ومكونات شعب البحرين، وبالتالي يمثل تجمعا/ إطارا لمختلف القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة في المجتمع البحريني. هكذا أُريد للاسم أن يكون جامعا، وشتان بين الاسم ومحتواه، إذْ التناقض كبير، والواقع والوقائع تكذب ذلك، فالتسمية في واد والمسمى في واد آخر، طالما أن قوى اجتماعية وسياسية كبيرة من الشعب البحريني لم تكن ضمنه، لا بل مثل النقيض لها.
أما في المضمون فإن بين الاسم والمسمى فجوة كبيرة وفاضحة لا يمكن ردمها لا بالخطاب ولا بسوسيولوجيا التجمع وقواه. ففي الوقت الذي أطلق القائمون على هذا التجمع تسمية جامعة تشي بالوحدة، نجد أن هذا التجمع يعاني تناقضا بين اسمه ومضمونه، يتمثل هذا التناقض في أن هذا الحشد أبعد ما يكون عن الوحدة الوطنية المدّعاة من أصحابه. فهو يقتصر على طائفة بذاتها وهي هنا الطائفة السنية للأسف الشديد، فهو لا يمثل من الوحدة الوطنية إلا الاسم فقط، والباقي يمثل نفَسَاً طائفيا تشطيريا تقسيميا، وضد حركة التاريخ، وضد تطلعات الشعب البحريني، لا بل زاد قيامه في غياب الوحدة الوطنية، وساهم القائمون عليه في تذريرها وشرذمتها. ونحن نفترض في بعض القائمين حسن نواياهم، لكن كما هو معروف أن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.
بناءً على ذلك فأين الوحدة الوطنية من تجمع يضم بين جنباته طائفة أو بعضا من طائفة دون أخرى ويقتصر على قوى محددة معروفة بانتماءاتها الطائفية وايديولوجيتها السلفية، والمعادية للتقدم والتغيير والديمقراطية. فالتجمع في حقيقة الأمر من حيث المضمون تجمع لوحدة الطائفة السنية ولأكثر قواها ظلامية، وليس للوحدة الوطنية ولا لقوى الطائفة السنية التنويرية، واستخدام اسم تجمع الوحدة الوطنية هنا هو خلاف ما هو قائم بالفعل، ونوع من التضليل المقصود من قبل القائمين عليه والداعمين لهم بطبيعة الحال. فكان أولى أن يُسمى تجمع القوى السلفية للطائفة السنية، لكي لا نظلم الطائفة السنية، لأنه لا يعبر عن الطائفة السنية كما سنوضح.
وفيما يخص زمن تأسيس هذا التجمع، فإن توقيت إنشائه مع الحالة الثورية العامة التي بدأت في 14 فبراير من العام 2011 وعلى النقيض من مطالبها، يعني أن قيام هذا التجمع في هذا الوقت بالتحديد أريد له أن يكون مقابلا تخريبيا للحالة الثورية، والحد من زخمها الثوري والسياسي وسقف مطالبها، لذلك فإن تأسيس هذا التجمع جاء في لحظة ذروة حركة 14 فبراير، بعد أسبوع من الحركة، ليقطع عليها استمراريتها واتساعها وتمثيلها وقيادتها الشرعية/ الثورية للشارع، فكان اختيار الزمن بالنسبة للقائمين على هذا التجمع مقصودا ومحسوبا بدقة. ومن خلال هذه الملابسات الزمنية فإن هذا التجمع هو أقرب إلى الفزعة الطائفية منه إلى الوحدة الوطنية، إنه رد فعل غريزي وليس فعلا عقلانيا، إجراء مضاد للثورة، أو ثورة مضادة في التحليل السياسي.
والفزعة هنا بمعنيين، معنى المعاونة وهي رد فعل غريزي كما هو معروف في الإرث الاجتماعي التقليدي للمجتمع البحريني (إغاثة المحتاج)، ولا ندري معاونة مَنْ ضد مَنْ، ومعنى الفزع، أي الخوف من الثورة ومن الحراك الشعبي بالاتكاء على أكثر الولاءات تخلفا – الولاءات الطائفية والمذهبية والعرقية – أي الضد وطنية. وعليه فلا بد من فزعة حتى لو تحت اسم وطنية أو ما شابه، المهم الوقوف في وجه الثورة، تحت أي صفة كانت، ولتكن "الوطنية" هذه المرة، ودعم النظام، إنه الخوف/ الفزع، والتواطؤ.
بالنسبة لتجمع الوحدة الوطنية فيما يتعلق باختيار المكان "مركز الفاتح"، فمن الواضح أنه يهدف إلى أمرين اثنين كما نرى:
الأمر الأول: هو ما يحمله المكان من رمزية تاريخية بالنسبة للعائلة الحاكمة وحلفائها، وهي رمزية الفتح/ الغزو ودوره في استمرار سرديات وأساطير الفتح بالنسبة للحكم من جهة، والمحكومين من جهة أخرى. فاختيار المكان يهدف تذكير المحكومين بحضور سيف الفتح/ الغزو، وغلبة آل خليفة، وأنهم حماة السنة من إخوانهم الشيعة، المغزوين من قبل أحمد "الفاتح"، وبالتالي من دخل مركز الفاتح من السنة فهو آمن، ومن تسول له نفسه في تحدي حكم آل خليفة من الشيعة، فسيف الغزو هو الحَكَمُ والفيصلُ.
الأمر الثاني: رمزية دينية، بمعنى أن هذا التجمع انطلق من مكان ديني سني هو جامع الفاتح، وأن الحركة المنطلقة منه هي حركة دينية تحشيدية
بإزاء حركة سياسية، يحاول هذا التجمع أن يوحي من خلال هذا الاصطفاف إلى نتيجة مفادها أن ما يحدث هو حركة أهل السنة والجماعة في البحرين إزاء حركة الشيعة أتباع ولاية الفقيه، أي حركة طائفة تجاه طائفة أخرى في الوطن الواحد. جماعة الفاتح في مواجهة جماعة الدوّار، بهدف تضييع الجوهر السياسي الوطني في الحركة الجماهيرية لثورة 14 فبراير، ودمغها بسمات دينية وطائفية ليست منها.
ثانيا: تجمع الوحدة الوطنية: في البنية والاشخاص والوظيفة
اعتقد المخططون والقائمون على هذا التجمع أن يتطابق وحجم الطائفة السنية، ولكن الوقائع لم تسعفهم في ذلك. وعليه فإن التجمع لا يمثل الطائفة السنية، إنما يمثل القوى والشخصيات التي انضوت ضمنه، في حين أن قوى سنية أخرى لم تكن معنية به.
ونظرة فاحصة على بنية هذا التجمع ومكوناته تدلنا على أن مكونات التجمع تنتمي إلى مجموعة قوى سنية هي جمعية المنبر/ إخوان مسلمين، والأصالة/ سلفيين، وتيار عبد اللطيف المحمود إضافة إلى قوى تدعي أنها ليبرالية وقومية وعروبية ويسارية متقلبة لكنها ليست ذات تأثير في الشارع السني، وكذلك عدد من الجمعيات المحسوبة على السلطة، كما لا ننسى المرتبطين بالنظام من القوى الأمنية والعسكرية والمخابراتية وأعداد لا بأس بها من المجنسين، وحتى بعض الجاليات الأجنبية، وشخصيات موالية، وغير موالية لكنها انضمت إلى التجمع لأسبابها الخاصة، حتى أن بعض هذه الشخصيات كان مع حشود المعارضة في دوّار اللؤلؤة، لكنها سرعان ما التحقت بالمقلب الآخر، وغيرت من خطابها الثورجي إلى الخطاب السلفي.
ومع كل هذه القوى وعددها فإن التجمع لم يتمكن من تمثيل الطائفة السنية لا سياسيا، ولا عدديا. فعلى الصعيد السياسي هناك قوى وشخصيات مرموقة ووطنية لم تنضوِ ضمن التجمع، ولم تكن راضية عن تشكيله، بل استشعرت خطورته على الوحدة الوطنية، وأن يد السلطة تلعب في تحريكه.
أما على الصعيد العددي فيمكن القول إن أكبر حشد للتجمع الذي حدث لأول مرة في 22 فبراير لم تصل أعداد المشاركين فيه إلى 40 ألف مشارك على أبعد تقدير، وليس 300 ألف مشارك كما يدعي تلفزيون البحرين الذي غطى الحشد والصحافة المحلية الموالية التي زادت العدد إلى 400 ألف مشارك. وهي أرقام فلكية مشكوك فيها، لسبب موضوعي هو أن مساحة المكان الذي تم فيه الحشد لا يتسع لأكثر من 30 ألف مشارك فكيف جاءت هذه الأرقام المبالغة. إنها تزوير إرادة أهل السنة واختطاف لإرادتهم بأرقام زائفة، وعلى الرغم من أن القائمين عليه أرادوا من ضمن ما أرادوه أن يكون هذا التجمع إطارا لكل أهل السنة، لكنهم فشلوا في ذلك، حيث الرقم الحقيقي يدلل على الحجم الحقيقي للتمثيل.
أما فيما يتعلق بشخصيات تجمع الوحدة الوطنية، فهي ليست على حد سواء من حيث الأسباب والأهداف. فبعض الشخصيات ساهمت في التحشيد من الأساس لهذا التجمع انطلاقاً من أيديولوجيتها الطائفية والسلفية والحزبية وقربها الحميم من السلطة وهي شخصيات موتورة، وتنفذ أجندة النظام، والبعض الآخر من الشخصيات تم استغلاله بالنظر لمكانته وقبوله من السنة والشيعة على حد سواء وإبرازه في الواجهة لإعطاء التجمع طابع الاعتدال، وأنه ليس موجها ضد أحد، ولكنه قدم خدمات كبيرة للنظام بوعي، أو دون وعي، وكان يتبنى وجهة نظر النظام مما أفقده مصداقيته واعتداله، هذا فضلا عن ظهوره المفاجىء بعد طول غياب عن الساحة، في حين أن النظام لم يكن يريده لذاته، إنما كان يستعمله لأهداف النظام نفسه، وقد برع النظام في ذلك، وسرعان ما ركنه في الصف الخلفي من بين شخصيات التجمع، وأبرز شخصيات أخرى أكثر ثقة لديه وأكثر طائفية، وأكثر ولاءً، وسخاءً في تنفيذ ما يطلبه النظام.
وبين هؤلاء وأولئك برزت شخصيات لا لون لها ولا طعم ولا رائحة اللهم إلا البحث عن نصيب من الغنيمة التي تلوح في الأفق، والمتمثله في الامتيازات والسفرات والمناصب والرزة، ونعم النظام والمصالح الانتهازية والأنانية. فهو بهذا المعنى تجمع تقاطع المصالح، وليس تجمع الوحدة الوطنية. وما بين مكوناته وشخصياته من التناقض والفرقة أكثر مما بينها من توافق واتفاق. إنه تجمع خلطة غريبة عجيبة.
بين كل هذه التفاصيل والملابسات التي لازمت تكوين ومسيرة تجمع الوحدة الوطنية. ما هي الوظيفة المحددة من قيامه؟
لا نذيع سراً عندما نقول إن النظام بشكل عام هو وراء تأسيسه بعد أن سبقه تحشيد مذهبي غير مسبوق من قبل النظام، ليكون التجمع هو النتيجة المنطقية لهذا الشحن الطائفي، ويمكن القول إن جناحا منه بشكل خاص وراء قيامه ورعايته - وقد شاهد الجمهور تغطية التلفزيون الرسمي لفعالياته، واستقبالات المسئولين لقياداته وتثمين فزعتهم - وكان يهدف من ورائه أداء وظيفة محددة تتمثل في وقوفه في وجه الحركة الاحتجاجية الآخذة في الاتساع، وإبرازه وكأنه خط الدفاع الأخير للطائفة السنية من خطر محدق بها من إخوانهم في الطائفة الشيعية.
بمعنى آخر خلق اصطفاف طائفي مصطنع من قبل السلطة بين الشيعة والسنة، وتصوير النظام الحاكم بأنه يفصل بين المتخاصمين، وفوق الصراعات. هناك طرفان يتربص كل منهما الآخر، والنظام يقوم بمنع أي صدام بينهما باعتباره طرفا ثالثا حياديا يقف دون حدوث حرب أهلية طائفية. بينما المشكلة الحقيقية في البحرين هي مع النظام، لا بين الطوائف، ولكن تجمع الوحدة الوطنية أدى الدور المطلوب منه بالكامل.
لكن إضافة إلى هذه الوظيفة/ التمويه والتلبيس على حقيقة الصراع القائم بين النظام من جهة والمعارضة من جهة أخرى، كان النظام يهدف من رعايته لهذا التجمع بكل معنى الكلمة هو القيام بثورة مضادة لثورة الدوّار، أو قيام معارضة للمعارضة. وهو ما شهدناه من مناكفات وبيانات وتصريحات قيادة التجمع السلبية والمتناقضة تماما مع مطالب المعارضة وحركة 14 فبراير، تحت الشعار المشهور للشيخ عبد اللطيف المحمود (ولنا مطالب).
ومكافأة للقوى الفاعلة في التجمع (حزب الأصالة وحزب المنبر) على الخدمات التي قدماها للنظام، فقد تم استيزار شخصيتين من هذين الحزبين مؤخرا، الأول وزير دولة للشئون الخارجية، والثاني وزير دولة لشئون حقوق الانسان.
في الختام:
نصل أخيرا إلى القول إن تجمع الوحدة الوطنية هو صناعة النظام، أراده لأهداف محددة، أسوة بأي صناعة من صناعاته، ينتهي بتحقيق هذه الأهداف، وقد استطاع النظام أن يحقق أكبر قدر من هذه الأهداف من خلال تجمع الوحدة الوطنية، حيث خلق بلبلة في المجتمع غير مسبوقة، أرادها النظام، ومزق المجتمع شر ممزق. ويبدو أن تجمع الوحدة الوطنية قد أصابه مرض التمزق والتكالب على الغنائم، وانقلب السحر على الساحر، وانتهت وظيفته بالنسبة للنظام، منشئه وراعيه.
*باحث بحريني متخصص في علم الاجتماع.