إعلان الاستقلال الثاني

عادل مرزوق - 2012-06-03 - 8:13 ص



مرآة البحرين:
لم يكن الخامس عشر من مارس العام 2011 مزحة بين ملك وشعبه، لم يكن حدثاً اعتيادياً في تاريخ هذا الشعب، ذاكرته، ومستقبله. هو تأسيس لتاريخ جديد، وفهم جديد لحال هذه الجزيرة، لدى كل من عايش تلك اللحظات بأدق تفاصيلها المؤلمة، وأوجاعها المتتالية.

لم تكن استباحة دماء البحرينيين في الشوارع وكرامة هذا الشعب مجرد فصل من تفاصيل حكاية نكتبها كصحافيين للذكرى أو التوثيق، أو صفحات اعتيادية من التاريخ سيرويها السياسيون حين يشيخون كما قرأنا قصة عبدالرحمن الباكر وعبدعلي العليوات من البحرين إلى سانت هيلانه.

كان الخامس عشر من مارس تحولاً تاريخياً، يجب احترامه، والتعامل معه بالجدية التي يستحقها. كان يوماً بآلاف السنين بما حمله من وجع وألم ومعاناة. كان لحظة التأسيس ليعلن هذا الشعب استقلاله الثاني، حين أزاحت مجنزرات الجيش وطلقات الرصاص في صدور الأبرياء الغبار عن المشهد الوطني، لنرى الأشياء على حقيقتها، وبوضوح.

بات من ثرثرة الكلام، التأكيد على أن لا عودة لما قبل الرابع عشر من فبراير العام 2011، وأن لا قبول بأنصاف الحلول قبل أرباعها، وأن لا مرور من ملف المحاسبة قبل أن يقف أمام قضاء عادل كل من أدار لعبة القتل والعبث بمصائر القاطنين على هذه الارض. هذا التأكيد ليس رسالة لمؤسسة الحكم، بل هو مقدمة أي قول (معتبر) في توصيف ما حدث، إن كنا ندرك فعلاً أن ما حدث للبحرينيين لم يكن نتيجة صراع سياسي أو مقاومة طبيعية للتغيير نحو الديمقراطية، بل كان في تجليه الأوضح، حرباً مفتوحة على شعب أعزل، وأن الإعلام المفتوح وعيون الشرفاء حول العالم كانت المانع الوحيد لمؤسسة الحكم من أن تأمر بسحل جثث البحرينيين في الشوارع.

حين تتغول الدولة وتسحق شعبها دون رحمة لا تكون أكثر من قوة إحتلال مجنونة، لا شرعية لها إلا بما يستطيع عسكرها أن يؤمن لها من حاكمية وقوة. حين تصبح الدولة جسماً غريباً على المجتمع فله أن يتمرد، وأن يؤسس دولته التي ترعى مصالحه وتحترم إرادته. حين تنفك آخر خيوط الثقة بالحكم يكون للمجتمع أن يؤسس دولته ومشروعه ومستقبله الذي يؤمن بأنه خياره، وخيار من سيأتون بعده.

على الأرض، سحبت الأغلبية الشعبية اعترافها بشرعية الحكم، الدولة اليوم ليست أكثر من عائلة حاكمة ووزيرين للداخلية والدفاع يحميهم جيش غالبيته من المرتزقة. وتستطيع هذه الأغلبية أن تؤسس مسارها وأن تمضي في مشروع استقلالها الوطني ليكون فرضاً على أرض الواقع. وهو ما يؤسس لضرورة أن تتحول هذه الأغلبية بكل مكوناتها الوطنية من فضاء رد الفعل إلى فضاء الفعل نفسه. وهو تحول سلمي سياسي اقتصادي واجتماعي ستلحق به الجغرافيا، اليوم أو غداً. وهو بتعبير أدق، حالة مقاطعة متقدمة، ليست لسلعة، أو تاجر، أو منطقة.. بل للدولة كلها.

منذ العام 1975 والعائلة الحاكمة تدير هذه الأرض كإقطاعية مملوكة، الأرض فيها ملك خاص، والناس مستأجرون تحت رغبات الإرادة الملكية، إقطاعية تمنح أبناء الشعب ما تشاء وتنزع منهم ما تشاء. ملكية قبلية لا تليق بشعب يقف العالم كله إحتراماً لتضحياته وشجاعته ومنجزه الحضاري في قلب الخليج العربي المأسور بمشيخات النفط والمال. ملكية قبلية تتلاعب بالدساتير والقوانين والأعراف والمعاهدات الدولية ولا تقيم وزناً لمفاهيم هي في حقيقتها عصية على أن يفهمها من لا يرى أبناء هذا الشعب إلا بوصفهم عبيداً طيعين لإرادة (الشيخ) وغرائزه، لحواره الوطني الذي يحاور فيه نفسه، لدستوره المنحة، لقوانينه وانظمته التي يقيمها ويرفعها وقتما شاء، وكيفما شاء.

في التاسع من مارس الماضي أكدت الأغلبية الشعبية بكافة مكوناتها الوطنية أنها من تستطيع أن تملأ الطرقات والشوارع بأنفاس المتطلعين لدولة الحرية والديموقراطية والكرامة، وإن الشرذمة الحقيقية هي تلك التي لا تملك ممراً في قرية صغيرة إلا بما تطلق من أسلحة القتل والدمار. وعاد الشارع في الثامن عشر من مايو ليؤكد ما نصت عليه أدبيات الإستقلال الأول. ولهذه الأغلبية اليوم أن تؤسس - بمفردها - حركة انتقالية سياسية في البلاد دون الرجوع لسلطة قبيلة واحدة لا تزيد شيئاً في البلاد إلا بما تملك من أدوات القتل والتنكيل التي هي محط إدانة كل الأنظمة الديمقراطية حول العالم.

إن الأغلبية الشعبية التي لا تعترف بالدستور المنحة قادرة على أن تنظم نفسها في مؤتمر وطني لتتدارس وضع دستور وطني جديد، قادرة على أن تؤسس حراكاً مدنياً ديمقراطياً عبر هيئة اتحاد وطني منتخبة وشرعية في البلاد، هيئة تؤسس لخيارات الغد بكل تحدياته وتفاصيله.

وهي أيضاً قادرة على ابتكار آليات سياسية جديدة لإسقاط الديكتاتورية في البلاد والتأسيس لدولة مدنية جامعة لكل أطياف الشعب، دستورها وآدبياتها هو ما نصت عليه المواثيق والعهود الدولية التي توافقت عليها الإنسانية بعد أن تخلصت من عهود الإقطاع والملكيات المزيفة. وسلاحها هذا الشعب، الذي محال أن يعود دون إنجاز انتقال ديمقراطي يوازي ما سقط من دماء، وما بذل من تضحيات.

إن ألق وجوه الراحلين في ذاكرتنا، آهات الارامل واليتامى، صرخات المعذبين في السجون، أوجاع المحاصرين في القرى بالغازات الخانقة، كلها أمانات ثقيلة على من يدير تفاصيل المشهد. لا يمكن لهذا الشعب أن يقف لينتظر من الضبع ما قد يتركه من جسد هذه الأمة، بل إن تشكيل هيئة اتحاد وطني منتخبة في الداخل بات خياراً ملحاً. فهيئة الاتحاد الوطني التي تأسست في عهد ما قبل الإستقلال لم تنتظر موافقة المستعمر ولا العائلة الحاكمة، كانت حركة شعبية شرعية بصوت الأغلبية، فرضاً لواقع جديد مهد للإستقلال وأسمعَ من لا يريد أن يسمع إلا صوته، والمشهد اليوم لا يختلف، بل هو أكثر إلحاحاً وحاجة.

لن ينجز هذا الشعب إستقلال وطنه وقتلة الفرحان والعشيري وفخراوي والمؤمن ومشيمع والمتروك طلقاء يمشون في الطرقات. لن ينجز الاستقلال والغرباء القتلة والسُراق يجوبون المدن والقرى للتنكيل بهذا الشعب وانتهاك حرماته. لن ينجز الإستقلال وأكثر من نصف البلاد مسجلة كأملاك خاصة لعائلة واحدة. لن ينجز الإستقلال ونحن نستعطف لقمة العيش من فم التنين. عله يتركنا أحياء لنموت قهراً، جوعاً، أو سجناء رأي نطلب الحرية فيما تسمينا دولة الوحش.. إرهابيين!

وللحديث تتمة...


عادل مرزوق
* كاتب بحريني.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus