جنان بنت الشهيد جعفر حسن: سنزين قبر أمي ليليق بقبة قبر أبي

2012-06-04 - 8:23 ص


مرآة البحرين (خاص): جِنَان ومُحَمَّد، طِفلان سيتذكران ثورةَ الرابِع عَشَر مِن فِبراير بِوَجَع، لسنواتٍ طويلةٍ قادِمَة. لم يَكُن العام 2011 عامَ سعدِهُمَا، كَمَا لَمْ يَحمِل لهُمَا العامُ الذي تلاهُ بوادِرَ النسيان. الموتُ الذي اختَطَفَ والدَهُمَا، وتَركَهُما يتيمين، عادَ ليأخُذَ أُمَّهُمَا. كانَ منَ المُمكن أن يعيشا كأيِّ طفلينِ عاديين، غيرَ أنَّ الَقدَرَ كانَ يَدَّخِرُ لهُما قصةً تجعلُهما يتَصدَّران أبناءَ الشهداء انكسارًا وغُصَّة. في الثامنِ عشرَ من سبتمبر 2011 رَحَلَ والِدُهما، الشهيد جعفر حسن من دِمِسْتَان، مُتَأثِّرًا بجروحٍ وإصاباتٍ تَسَبَّبَ بها اعتداءُ رجالِ الأمنِ عليه أثناءَ اقتحامِ منزِلِهِم بحثًا عن شقيقِه. لم يُمهِل القَدَرُ الطفلين الذَين بالكادِ استطاعا المُضِي عن رحيلِ والدِهِمَا، فعاجَلَهُمَا بموتِ والدتِهِمَا في السادسِ والعشرين من مايو الماضي.

منذُ وفاةِ والدِها، تتَّصِلُ جِنان كُلَّ أسبوعٍ بعَمَّتِها، تطلبُ منها القدومَ لتذهبا معًا لشراءِ باقةِ وردٍ وبعضِ المشموم، وزيارةِ قبرِ والدِها. تبدو هذهِ الطفلة قَدَرِيَّةً جدًّا رَغْمَ إدراكِها لمعنى الموت، في الثامنة من عُمُرِها، تُودِّعُ أباها بشيءٍ مِنَ الصبر، ثُمَّ تعودُ لتُودِّعَ أُمَّها بكثيرٍ من الرضا. تعرِفُ جيّدًا أنّها لن تراهُما بعدَ الآن، لن تنامَ قُربَهُما، لن تشمَّ رائحَتَهما، لكنَّها رَغمَ ذلك لا تبكي، وتبتسم، وتُناقِشُ أُمورًا يُوجِعُ الكبارَ طرحُها، لكنَّها تفعلُ بقَدَرِيَّةٍ مُؤلِمَة.

تقولُ عمَّتُهما دلال، التي قابلتها مرآةُ البحرين في منزلها:"طَلَبَتْ منِّي جِنَان أنْ نَشتري باقةَ وردٍ لتأخُذَها لقبرِ أُمِّها. أشعرُ بقلقٍ بالغٍ عليها، فلم أرها تبكي إلا مرةً واحدةً مُنذُ وفاةِ أُمِّها، لقد تُوفِّيَتْ والدَتُهُمَا بذاتِ الجناحِ الذي تُوفِّيَ بهِ والدُهُمَا. ارتفعتْ حرارتُها، لكنَّها لم تتعدَ الثامنةَ والثلاثين أو التاسعةَ والثلاثين. أَخَذَتْها والدَتُها للمُستشفى، تمَّ إدخالُها للمُكوثِ وتلقِّي العِلاج، لكنّها أُصِيبَتْ بتشنّجٍ وبَقِيَتْ بالمُستشفى أربعةَ أيّام. في اليومِ الخامِس اتصلوا بإخوتِها يُخبرونهم أنَّهم مُضطرون لإدخالِها للإنعاش. لا نعرف تمامًا ما كانَ مرضُها، قالوا أنّها تُعاني من التهابٍ في الصدر، وقالوا رُبَّما التهابٌ في الرأس، حتّى الآن لا نعرِفُ سبَبَ موتِها"

كم حَمَلَ هذا الجناحُ من أوجاعِ هذينِ الطفلين، لقد كانَ هوَ المكانَ الأخيرَ الذي لَفَظَتْ فيهِ أُمُّهُمَا أنفاسَها، كما فَعَلَ والدُهما مُنذُ عام، حينَ عادَ من رحلةَ علاجٍ قصيرةٍ بالأردن، بعدَ تَعَرُّضِه لإصاباتٍ جرَّاءَ الاعتداءِ عليهِ مِن قِبَلِ رِجالِ الأمن. كان مُتعَبًا، رَفَضَ بِشِدَّة أنْ يراهُ ابناه على هذهِ الحال. لم يكُن بمقدورِهِ التحرُّك، جسمُهُ كانَ ضعيفًا، أرادَ أنْ يحتفظا بصورةٍ جميلةٍ له، فضّلَ أنْ يراهما حينَ تَتَحَسَّنُ صحّتُه. لكنَّ السريرَ الأبيضَ كانَ آخرَ مكانٍ ذهبَ إليهِ قبلَ أنْ يمضي إلى قبرِه.

قَبْلَ أَنْ تموتَ والدَتُهُما، رَأَتْ حُلُمًا غريبًا، أَخْبَرَتْ بهِ أُمَّها حينِ صَحَتْ. قالت:"رأيتُ رجلًا طويلًا يسحبُني، لكنّنِي لا أعرِفُه". لم تُدرِك زينبُ حينَها أنَّ الموتَ كانَ يسحبُ أنفاسَها من الحياةِ دونَ أنْ تدري، وأنَّ ذاكَ الحُلُمَ كانَ مُجَرَّدَ إشارةٍ لرحيلٍ طويل، لم يَتَزَوَّد لهُ طِفلاها. سألتُ جِنان: لو طلبتُ منكِ أنْ تذكُري أجملَ ما كانَ بينَكِ وبينَ أمِّكِ ماذا ستقولين؟ أجابتْ الطفلةُ ببراءةٍ وذكاء: الحُب، لقد كانت تُحِبُّنا كثيرًا، وأبي أيضًا كان يُحبُّنا، أفتقِدُ حُبَّهُمَا فقط.

في عزاءِ والدَتِها، جَلَسَتْ جِنان لصيقةً بجَدَّتِها. جاءتْ امرأةٌ فأعطت بيدِ الجدَّةِ ظرفًا، سألتْها جِنان ماذا أعطتكِ، قالتْ الجدَّة: ظرف. ردَّتْ ما بِه؟ قالت أعتقدُ أنَّها نُقود، أجابتْ الطفلة: أتعرفين يا جدّتِي ما سنفعلُ بهذهِ النقود؟ سنبني بها قبرَ أُمِّي، سنُزَيِّنُهُ، ونضعُ عليهِ الورود، تمامًا كما هو قبرُ أبي، بهِ قِبَّةٌ، وشكلُهُ جميل.

لا يُدرِكُ أحدٌ مقدارَ الوجعِ الذي يُخَلِّفُهُ الموتُ في أرواحِ البشر، اليومَ أو غدًا، لكنَّ الطفلةَ جِنان، التي ترتدي ملابسَ سوداء، لحدادٍ لا يبدو أنَّها تُدرِكُه اليومَ بعُمقِهِ ووَجَعِه، رَغمَ ذلكَ تعلو وجهَها مسحةُ حزن، لكنَّها تُمضي وقتَها كأيِّ طفلةٍ، تلعبُ وتضحك. أمَّا شقيقُها مُحمَّد، فلا يبدو أنَّهُ يُدرِكُ تمامًا معنى الفقدِ حتّى الآن.

ستَفْتَقِدُ جِنان خطواتِ أُمِّها، لحظاتِهما معًا، عبثَهما في المطبخ، نُزهاتِهما الصغيرة. وسيشتاقُ مُحَّمد لضحكاتِ والدِه، لصهيلِ الخيلِ وهوَ يمتطيها برفقتِه، قال: أُحبُّ والدي لأنَّهُ يُحِبُّني، يأخُذُني للألعاب، يُطعِمُني بيدِه، يشتري ليَ الثياب. سَيَفْتَقِدُ مُحمَّد كُلَّ ذلك، تمامًا كما يفتقدُ الأبَ حينَ غادر في التابوتِ صامتًا، كما سيفتقدُ أُمَّهُ النائمةَ تحتَ التُراب، سيفتقِدُ رائحَتَها حينَ كان السريرُ لثلاثة، هو وأُمِّه وشقيقتِه.

رابط المقال باللغة الأنجليزية

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus