حسين يوسف: عن الذات التي لا تُمس؟

جعل الملك ذاته مصونة لا تمس في دستور 2002 وبدلاً من أن يحمي الدستور الوطن قضمت الذات الدستور (ح. ي)
جعل الملك ذاته مصونة لا تمس في دستور 2002 وبدلاً من أن يحمي الدستور الوطن قضمت الذات الدستور (ح. ي)

2019-03-10 - 8:10 ص

حسين يوسف*

كان أول لقاء مباشر يسبق توليه مقاليد الحكم، سنة 1995/1996، وبمعية وزير الصناعة المرحوم يوسف الشيراوي، كان حمد بن عيسى ولي العهد آنذاك يتمنى على فريق مركز العلوم العائد تواً بجائزة الكويت وضع سجل إلكتروني لزوار الديوان في الرفاع. حاولت تكوين صورة عن شخصيته من حديثه، هل تعبّر ابتسامته المستمرة في ذلك اللقاء عن حفاوة وتفاؤل أم تخفي وراءها هم بلد تشعله المطالبة بتفعيل الدستور. ولكن هذا الفريق الشاب من المبدعين والمخترعين تحوّل في حديثه إلى مجرّد "عيال يوسف" (الشيراوي). عبارة تختصر منهج الرجل في الحكم والتقييم، أنت من أنت ابنه، ولا شيء في ذاتك أنت. أنا معك ما دمت أقرؤك في امتداداتك معي، ترتفع معيتك بامتداداتك وتنتفي بانتفائها المعيّة والقربى. جملة تكاد تعرّف مفهوماً منتقى في الذهن لقيمة المواطنية، وهكذا كان. فقد قدّر لي أن أنتفي من مواطنيتي بقرارٍ من الملك نفسه في العام 2015، بعد عشرين عاماً على اللقاء الأول.

يعاني الملك ما يعانيه رئيس الوزراء: شخصنة العمل الوطني ومحورية "الذات". وهذه المحورية التي برزت في تكوينه رمزاً لميثاق العمل الوطني، وتتويج ذاته إعلامياً "كملك القلوب" وجعل الذات الملكية مصونة لا تمس في دستور العام 2002م (دستور المنحة) في الوقت نفسه الذي تجمع فيه رؤوس كل السلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية، فضلا عن الموقعية العسكرية. ما يجعل جميع الموازنات والمؤسسات التابعة للملك والديوان الملكي خارج إطار الرقابة المؤسساتية والشعبية.

خلال عشرين سنة من توليه الحكم منذ 1999م تضخمت ذات الملك في كل موقع في البحرين. فعلى أعتابها ترتفع موازنة الديوان الملكي من 6 ملايين دينار في عقود سابقة إلى قيمة تقديرية بأكثر من 600 مليون دينار، في الوقت الذي قفز فيه الدين العام إلى أعتاب 12 مليار دينار. وزاد عدد التشكيلات الأمنية الخاصة، فقبل أن يستحدث الحرس الملكي كان قد شكل جهاز الأمن الوطني الموالي للديوان الملكي حصراً.

وبموازاة الهموم الاقتصادية والأزمة الدستورية الفاقعة، يبرز اسم الملك كأب روحيٍ لمشروع التجنيس السياسي. فقد تم تعديل قانون الجنسية ليتيح للملك من باب الاستثناء منح شرف الجنسية خارج أطر المعايير القانونية، لكن هذا الاستثناء تم توظيفه كمدخل لتجنيس ما يزيد عن 120 ألف شخص بأهداف سياسية صرفة دون اكتراث لآثار هذا الفعل على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية من جهة، ولا إلى الإجماع الشعبي برفض هذا المشروع. يبحث الملك عن صوت موالاة الذات "الآن وفوراً"، ولكن مآلات ذلك على المستوى الوطني باتت كارثية.

في دستور "الذات"، يملك الملك تعيين 50% من مقاعد البرلمان هم أعضاء مجلس الشورى، ويملك في اليد الأخرى رسم الدوائر الانتخابية وترجيح كفة أكثر من 50% من الدوائر الانتخابية، وبالتالي تعد 75% من أصوات الناخبين ملك يمين "الذات". ولكن هذا المجلس أيضاً لا يملك سيادته، فقد اجتمع في المرة الأولى في تاريخه بغرفتيه (النواب والشورى) في جلسة استثنائية دعا لها الملك في صيف 2013م لمناقشة طلب تغليظ العصا في وجه المواطنين، وهو ما ترجم حتى اللحظة بإسقاط جنسية أكثر من 800 مواطن، وكأن الجنسية أو الانتماء الوطني هو جرّة قلم تفيض بها "الذات" على وثيقة سفر.

عشرون عاماً تحوّلت البحرين فيها إلى بلاد مفضلة لليد العاملة الدولية، وحوصرت اليد العاملة الوطنية إلى منطقة الإقصاء. وبات  العمال البحرينيون يشبهون شعبهم: أقلية في بلد مليوني مكتظ، تقرأ عنه في كتب التاريخ أنه كان جزيرة حضارة وتاريخ.

عشرون عاماً من الإنهاك الوطني تبرز فيها الحاجة لتأطير "الذات" وإبراز الوطن. تأطير يذكّر بتوقيع "الذات" على وثيقة الغريفي، ويستحضر وعود الميثاق ويطلق المصالحة الوطنية. تأطير يحمل "الذات" من منطقة الإشكال إلى منطقة "الإجماع" والاجتماع، في زمن لم تعد تذوب فيها الأوطان في "الذوات" ولا تحل الأخيرة بديلاً عن تعريفها.

عشرون عاماً بدأت مشوارها ومطلب الحياة الدستورية حيٌ في شوارع البحرين، وتنتهي وثنائية "الذات" والدستور تختصر إشكال الوطن. كان يجب أن تحمي "الذات" الدستور، وأن يحمي الدستور الوطن. ولكن "الذات" قضمت الدستور، فتدهور الوطن.

كان يجب أن تحمي ذات الملك التي لا تمس الدستور؛ لكنها قضمت الدستور. عشرون عاماً من الإنهاك الوطني تبرز فيها الحاجة لتأطير "الذات" وإبراز الوطن.