الشهيد حسام الحداد يغادر بعين مفتوحة على جرح الوطن وابتسامة بنصر قريب سيأتي

2012-08-20 - 2:41 م


مرآة البحرين (خاص): اليوم هو 28 من شهر رمضان، الجمعة 17 أغسطس 2012، الساعة بعد الثامنة مساءً، في «فريج الحيّاك»، فتيةٌ تتراوح أعمارهم بين الـ 12 والـ 18عامًا، في مُواجهة مع رجال قوّات الأمن، الذين يستقدمهم النظام من الخارج، ليقمعوا كلَّ حركةٍ احتجاجية في الداخل.

مُواجهات تشهدُها البحرين كلَّ ليلةٍ من شهر رمضان في معظم مناطق البحرين، لكن ثمّةَ ما يفرق هذه المرة في الزمان والمكان. فالزمان هو: يوم القُدس العالمي، يُحتفل به كلُّ عام في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان. هذا العام اتّخذ مع الإحتجاجات شكلًا آخر، بدأت فعالياته مُنذ الصباح، واستمرّت حتى ساعاتٍ مُتأخّرة من الليل في معظم المناطق. الفرق الثاني هو المكان: إذ يقع «فريق الحيّاك» في المحرّق، وهو مكانٌ مُختلط بين سنّةٍ وشيعة، بين مُوالين ومُعارضين.

* طلقتان..



الشهيد بزي الكشافة في ساحة "فريج الحياك"
اشتدّت المواجهات بين الطرفين، كان «حُسام الحدّاد»، الفتى ذو الستة عشر عامًا، في الصفِّ الأول من المُتظاهرين، أطلقتْ قوّات العسكر الغازات الخانقة باتجاههم، ولم تُفوّت كعادتها استخدام رصاصات الشوزن المُحرّمة دوليًا، تلك التي تستخدمها عندما تنوي تصعيد القمع المفتوح بلا ضوابط وبلا خطوط ممنوعة، تسبّبت في قتل عشرات المُحتجين مُنذ فبراير 2011 حتّى الآن، كما تسبّبت في فقد أكثر من 60 شخصًا لأعينهم. لم يُوقِف النظام استخدامه لرصاصات الشوزن إلا فترةً بسيطة بعد تقرير بسيوني، قبل أن يُعاود استخدامها بشكلٍ انتقامي مُفرط وأهوج.

كانت الطلقة من مسافةٍ قصيرة، تناثرت خراطيشها لتُصيب عددًا من الفتية بإصاباتٍ سطحية، لكنّ إصابة حُسام كانت أبلغ، ترنّح فاقدًا توازنه، لم يتمكّن من الهرب مثل بقية رفاقه، لم يتحرّك العسكري لاعتقاله أو القبض عليه، وكان ذلك سهلًا بفعل الإصابة وقُرب المسافة، بل عاجله بطلقةٍ أخرى كانت نصيبَه وحدَه، تهاوى من فورِه على الأرض.

مرآة البحرين التقت بعددٍ من الصِبية الذين كانوا مع حُسام وقت وقوع الحادث. نقلوا للمرآة لحظة سقوطه، وما تلاها ممّا شهدوه قبل أن يفرّوا عن الموت بعيدًا. يقولُ أحدهم: "بينما كنّا في مواجهتنا مع قوّات النظام، لمحنا أحدهم مختبئًا وبيده شوزن، فاحتمينا بالجدار، لكنّ الشهيد لم يفعل، ربّما لم ينتبه، لا أعرف، لم يهرب. فأُصيب بالطلقة في ظهره وقليلٍ من الشظايا في كتفه، لم يتحرّك هذه المرّة أيضًا، ربّما لأنه لم يعُد يقدر على الحركة، عاجَلَه العسكري بطلقةٍ ثانية، هذه المرّة جاءت كلّها في ظهره، حاول الركض لكنّه لم يتمكّن، فاصطدم بسيارةٍ كانت متوقّفةً هناك، وسقط بعدها. حاولنا العودة، لم نستطع بسبب إطلاق القوّات رصاص الشوزن نحونا. رأيتُ الشرطي يقف فوق رأس الشهيد ويُطلق علينا، قبل أن يختفي المشهد تمامًا".

* بنذبحك.. بنقتلك

يُمسك الخيط آخر ويقول: "خرج اثنان من قوّات النظام من خلف مركبة الأمن، أحدهما يحمل سلاح الشوزن والآخر طلقاتٍ من الغاز الخانق، أطلق الشوزن نحونا مُباشرةً. لم تكن الإصابات تُذكر، لكنّ حُسام قال لمن كان قُربه "ظهري"، كان قد أُصيب في ظهره وكَتِفِه، وكان يَهمُّ بالهرب حين عاجلوه بطلقةٍ أخرى. هذه المرّة لم يُخطئه الشوزن، ترنّح، كانت شظايا الشوزن استقرّت في العُمق، فقد توازنه، اصطدم بسيارةٍ كانت مُتوقّفة قُربه، ثم تهاوى إلى الأرض. صرخ أحدُ الرفاق: "واحد طاح ... واحد طاح"، عُدنا لنحمله، كنّا سبعة، فأطلقوا علينا الرصاص الانشطاري، اضطُررنا للانسحاب. كانوا ثلاثة، أحدُهم وقف فوق رأس الشهيد، واثنان لحقا بنا، رأيتُ قبل أن أبتعد امرأةً خرجت من أحد المنازل، وأخذتْ تصرُخ بالمُرتزقة لقتلهم الشهيد، لكن لم أشهد ما حدث بعد ذلك لأنّي اضطررت للهرب".

ثالثٌ يُكمل: "جاء أحد المدنيين ممّن كانوا يُلاحقوننا، ترجّل من السيّارة، ورأى حُسام ملقىً على الأرض، ثمَّ جاء معه سبعةٌ آخرون، وقاموا بضرب الشهيد، حاولنا العودة لأخذه لكنّهم أطلقوا نحونا الشوزن فاضطررنا للهرب، سمعتُهم يقولون وهم يضربونه (بنذبحك...بنقتلك).

رابع يُضيف: "رأيتُ شخصًا مدنيًا ينزل من سيارة جيب ذهبية بعد الإطلاق على الشهيد وسقوطه على الأرض، رأيتُه يضربه ثمَّ نَقَلَه لمكانٍ آخر، لممرٍّ مُظلمٍ نوعًا ما، وهُناك جاء معه ثمانيةٌ آخرون، شاركوه الضرب والتنكيل، وكانت قوّات الشغب تُحيط بهم لمنع تصوير الواقعة أو أيِّ شهودٍ مُحتملين، بعدها بمُدّة حضر الإسعاف ونقل الشهيد."

* أحرِقوه..

إحدى النساء القاطنات في الحي الذي وقعت به الحادثة، رفضت في البدء أن تنقل لنا ما شهدته، كانت مُنهارةً تبكي، قالت: "لا أقوى على الحديث، لا أملك قدرة تذكّره مُمدّدًا على الأرض تتقاذف جسده أقدامهم بالركل، لم أستطع الوقوف بوجودهم، تظاهرتُ بالذهاب للبقالة، من هُناك نظرت عبر الجدران الزجاجية، رأيتُهم يضربونه في الممر، كانوا قُرابة الثمانية، نزلوا من سيارة جيب ذهبية تحمل الرقم 341948، جميعهم مدنيون، أصواتهم علت بالصُراخ، سمعتُ أحدهم يقول: "حطوا في رقبته حبل ... شنقوه"، ردَّ آخر:"حطوا عليه جاز وأحرقوه"، بعضُهم كان يقول: "لا تخلّون واحد منهم"، كانوا يضربونه دون رحمة، فوق رأسه، بطنه، ظهره، أحسستُ أنّ هذا الجسد الذي ينهالون عليه بغير رحمة قد قضى بين أرجلهم، خرجتْ نسوةٌ من الحي، إحداهُن كانت تقول: "عندكم إياهم ذبحوهم لا تخلونهم". الشغب المتواجدين لم يُحاولوا إيقافهم عن ضربه، بل بدوا كأنّهم تحت إمرتهم، سمعتُ أحدهم يصرخ بأحد أفراد الأمن يُعنّفه لطلبه الإسعاف للشهيد، قائلًا: "شلون تتصل في الإسعاف خلّه يموت، انتوا اللي مستسهلين الأمور لهم".

* صلاحيات ممنوحة..


ابتسامة الموت على المغتسل
في المشرحة، ماطلت السُلُطات للسماح لعائلة الشهيد بمعاينة جُثّته، ككلِّ المرّات التي يسقط بها الشهداء، تتعمّد قوّات العسكر استفزاز مشاعر الأهل المُلتهبة سلفًا، أنكروا في البدء وجوده، ثم منعوهم من رؤيته، وانتهى الأمر باستدعاء قوّات الشغب لمُستشفى السلمانية لإجبارهم على الرحيل، مُتجاوزين حرقة قلوبهم ووجع فراق ابنهم، وعلى غير عادة وزارة الداخلية في الكذب وتزييف الحقائق، عمدت إدارة الإعلام الأمني لإصدار بيانٍ في وقت مُتأخّر من الليل توضّح به ما حدث من مُواجهات "انتهت بوفاة أحد الإرهابيين بعد تعامل قوّات الأمن معهم بالصلاحيات الممنوحة لهم". هذا ما ذكره بيان الداخلية، والذي يؤكّد أنّ صلاحية قتل المُحتجين لا شيء يمنعها أو يوقفها. كلُّ الصلاحيات مفتوحة على القمع حدَّ القتل. هذا هو القانون في دولة القانون والمؤسّسات.

* ليرحل من أجل الحرية

في المُستشفى كان والد الشهيد علي الشيخ يحتضن أخ الشهيد حُسام الحدّاد، شهيدان جمعهما ذات العيد، ليس في فرحٍ بل في قبر، وموتٍ، وفراق.

في اليوم التالي بدا جسد الشهيد حُسام فوق المُغتسل شبيهًا بجسد الشهيد محمود أبو تاكي، ثقبت الشظايا جسده مخترقةً الرئتين، قاضيةً على أنفاسه، مُستلّةً من جسده الروح، أحدهما رحل نائمًا، والآخر هاربًا من بطش بنادقهم. النتيجة مُتشابهة، ظهورٌ مثقوبةٌ بلا رحمة، وأطفالٌ يُخلِّفون ملابس العيد وهداياه إلى غير رجعة.

في وقتٍ لاحق بُثّت لوالد الشهيد كلمة، بدا فيها مُنهارًا رغم صلابته، قال: "إن الحكومة قد أعطتنا عيديتنا، قتلت ابننا، فليرحل فداءً للوطن، ليرحل من أجل الحرّية، وإنّي وإن بكيت فليس من ضعف، لقد أعطاني ابني الشرف، وإني أحتسبُهُ عند الله شهيدًا". وأمام جسد الشهيد تعالى تكبير النساء، صرختْ إحدى قريباته: "رفعت راسنا يمه.. رفعت راسنا، اللهم تقبل منا هذا القربان". أما والدته فكانت تحتضن رأسه، تمسح بيدها وجهه الجميل، تحتضنه، تبكيه دون صُراخ، وتُردّد :"يقول أحبج يمه... أنا وايد أحبج يمه"، تترنّح وسط دموعها، تتلقفها الأيدي، تأخذها للخارج، فيما هي يكاد يُغمى عليها.

وكتُهمة يوسف التي برّأه منها قميصُه الذي قُدّ من قُبُل، كذلك برّأ الشهيدَ من تُهمة المواجهة ظهرُه المثقوب من الخَلْف، لم يكن قميصًا يستبدله، لقد كان ظهره المثقوب عن عمد، كان فارًّا بروحه التي استُلّت بقوّة بنادقهم. المحامي عبدالله الشملاوي كتب في إحدى تغريداته: "كيف يكون قتل الشهيد حسام دِفاعًا عن النفس وكلُّ الرصاص في ظهره، فأينكم عن قيمص يوسف الذي قُدّ من دُبُر، هل نسيتُم القرآن".

* التشييع..


جانب من التشييع
عصر اليوم التالي، السبت 18 أغسطس، تمَّ تشييع جُثمان الطفل الشهيد في مدينة مُختلطة مذهبيًا، وتُعاني فورانًا طائفيًا بسبب الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد. التشييع حضره الآلاف، الذين لم يمنعهم وجودهم بمدينة تمتلئ بالمُوالين للسلطة من ترديد شعار يسقط حمد في أرجاء شوارع مدينة المحرق والشعارات المُناهضة للسُلُطات القمعية، التي تقتل المواطنين، وتُثير الناس ضدَّ بعضهم طائفيًا لصالح بقائها. عمد بعض الموالين إلى الوقوف على أطراف خط سير التشييع والاعتداء لفظيًا على جموع المُشيّعين، كما رشقوهم بالبيض الطازج وزغردت النسوة المفجوعات فرحات بزفاف الشهيد اعتزازاً وافتخاراً، بينما نساءٌ أخريات وصفن المشيّعات "ببنات المتعة " ، في محاولةٍ لاستفزاز المُشيّعين، وتحويل توجّه المشاركين به لصدامات طائفية، لكنّ مسيرة التشييع سارت مُتعاليةً على الاستفزازات المُتعمّدة، وهذه هي المرة الأولى التي يختلف خط مسار تشييع جنازة في المحرق، فقد فرضت جماهير المشيعين مساراً جديداً في الشوارع الرئيسية الحيوية في المحرق تحديّاً وفضحاً لجرائم السلطة مروراً بموقع سقوط الشهيد حتى مثواه الأخير. فيما انطلقت مساءً مسيرةٌ للشموع جابت أرجاء "فريج الحيّاك" شارك بها جمعٌ من أهالي المحرّق مواساةً لعائلة الشهيد.

بدا موكب التشييع مهيبًا، رغم إغلاق السلطات للجسور الثلاثة المؤدّية إلى جزيرة المحرّق. شُيّع الشهيد من مأتم الحجّة الواقع في دهاليز المحرق في "فريج الحدادة" و القريب من حي الصاغة. استنكرت جمعية الوفاق تعمّد النظام فصل جزيرة المحرق عن بقية أراضي الدولة. علّقت : "قامت قوّات النظام المدجّجة بالسلاح بإغلاق جميع الجسور المؤدّية إلى جزيرة المحرّق، وذلك بهدف منع المواطنين من المُشاركة في تشييع الطفل حُسام الحدّاد الذي قتلته القوّات بشكلٍ وحشي وهو من سكنة جزيرة المحرق، حيث أغلقت قوّات النظام البحريني ثلاثة جسورٍ رئيسية تربط بين أراضي البحرين وجزيرة المحرق". وأكّدت أن "قوّات الأمن البحريني مدعومةً بمليشيات مُسلّحة قد قتلت الطفل حُسام الحدّاد بدمٍ بارد، بعد أن مزّقت جسده بالرصاص الانشطاري، وأغرقته في دمائه، وتمّ الاعتداء عليه بالركل والضرب حتى الموت". وكانت جمعية الوفاق قد أعلنت في وقتٍ سابق تنكيس أعلامها وإعلان حالة الحداد ثلاثة أيام لمقتل الطفل حُسام الحدّاد مُعتذرةً للمواطنين عن استقبال المُهنّئين أيّام عيد الفطر المُبارك، كما أمِلتْ من جماهير المُعارضة ترك أجواء الفرح حدادًا وتضامُنًا مع عائلة الشهيد".


أمّا حُسام الحدّاد، فقد مضى مُبتسمًا مفتوح العينين، مثلَ كلِّ الشهداء الذين رحلوا بأعينٍ لم تُغلق، أعينٍ مفتوحةٍ على جُرح الوطن الصاخب، وعلى نصرٍ قريب لا بُدّ أن يأتي..



التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus