كل شيء أبيض: قلبي، ثوبي، شعري(1 - 6)

2012-09-02 - 1:41 م



مرآة البحرين: (خاص )
البحرين - ابتسام صالح


ليلة 14 فبراير/ شباط دخلت فضاء الإنترنت أتقصى في مواقع (فيسبوك) عن ثورة 14 فبراير/ شباط الموعودة والمسماة "يوم الغضب"، حينها لم يكن تويتر منتشراً كما هو الآن. كنت أتـساءل : هل هي ثورة مثل تونس ومصر؟ كنت قلقة. حدسي يقول إن أمرا كبيرا مؤلما قادما في البحرين لا محالة. وحدسي يصدقني في الغالب: أن يحتشد الناس وتباغتهم ضربة أمنية موجعة من غير أن يحتسبوا. كيف.. لا أعلم؟

الدوار نبض البحرين

15 فبراير/ شباط كان أول اعتصام في الدوار. وصلت الساعة الثاثة عصرا، المتجمهرون لا يزالون قلة. أوقفت سيارتي بمحاذاة رصيف الدوار. لحظات وبدأت أرى حشودا تتدفق من كل ناحية، كنت مندهشة وخائفة من ضربة أمنية. أبعدت سيارتي إلى محيط مجمع الدانة، الناس تتدفق من كل الأعمار، أطفال، ونساء،و شباب، وكهول، ونساء حوامل، ومعاقون، وآخرون على كراسٍ متحركة. كان عرسا خياليا يتحول إلى حقيقة لم أستوعبه بعد وخصوصا أنه يحدث في البحرين. تحول نصب الدوار إلى قطب مغناطيس يجذب الناس إليه، تحول إلى كعبة والشعب في حج يتوافدون إليه من كل القرى والمدن، من كل مكان. امتلأت إطلالة الكوبري بسفحه الرحب الذي اكتظ بالناس، يغنون أغانيَ وطنية ويصفقون بأيد تتمايل في حركة واحدة وكأنها موج البحر، وهتافات استعاروها من بلدان الثورة : الشعب يريد إسقاط النظام، علقوا البنرات المنادية بنفس الشعار. ما زلت مغتبطة بهذا الحلم البحريني، لم أتوقع أن أهل البحرين متألمون إلى ذلك الحد، هذا الشعب لا يجمعه الفرح الآن بقدر ما يجمعه الهم والألم والذي حدا به للاعتصام خصوصا بعد سقوط أول شهيد. قررت ألا أعود إلى البيت للغَداء، ذهبت للعمل رحت أتفقدغرف الإنعاش .

منذ اليوم التالي تغير سياق حياتي إلى شكل مختلف، كنت أدرِّس في كلية العلوم الصحية وأنتهي الساعة 7 أو 8 مساء، بعدها أبدّل لباسي إلى بنطال جينز و(تي شيرت)، وحذاء رياضي، أحمل الروب الأبيض (Lab Coat) بأحلامي وهمومي وأطير مباشرة إلى الدوار. توقفت حياتي في البيت، كما توقفت حياتي الاجتماعية، صار الدوار هو مركز حياتي، مركز قلبي وأمنياتي، فيه أستنشق عبير الحرية. انطلقت فكرة نصب خيمة طبية هناك، دائما همّنا الأول هو صحة الناس وسلامتهم. كانت أول خيمة تنصب في الدوار، جُهِّزت بالمعدات تحت إدارة متطوعين من الكادر الطبي وسمحت د. مريم الجلاهمة بصرف الأدوية (وهناك مستندات تثبت ذلك)، عملنا فيها على تثقيف الناس تثقيفا صحيا، من أعراض الضغط والسكر، ومن حوادث السيارات. لم أكن أمشي على قدميّ وكانت النشوة والحماسة تحملاني، فلا أشعر بالتعب لأني أجد نفسي في مهنتي الحقيقية، في العمل التطوعي الذي أعشق، لذا كنت أتصل بالزملاء أيضا في المستشفى أسألهم أن أردتم مساعدة فأنا موجودة هنا وهناك، رِجلٌ هنا، ورِجلٌ هناك .

جرح الخميس

يوم 17 فبراير/ شباط ذهبت الساعة 6.30 صباحا إلى كلية العلوم الصحية التي أدرِّس فيها. لم أسمع بعد بضربة الدوار. في طريقي إلى السلمانية كانت الشوارع خالية وهادئة. وصلت الكلية ذهبت مباشرة إلى مكتبي وأعددت لي قهوة. بعدها رحت أتفقد الطلبة، لكنهم لم يحضروا والصفوف خالية، استلمت مكالمة من الكادر الطبي بالطوارئ يقول لي : "اتركي الكلية وتعالي.. انضرب الدوار". عدت أدراجي إلى مكتبي بدلت ثيابي إلى لباس الدوار وفوقه لبست الروب الأبيض. وصلت الطوارئ. رأيت أن الكادر يكفي فذهبت لمساعدة المسعفين، اتصلت بالخيمة الطبية بالدوار: "ويش الوضع؟" ردوا: "تعالي واحضري معك مواد إسعافية"، ركبت سيارة الإسعاف مع المواد المطلوبة. وصلت ورأيت مشهداً أهالني. زوبعة عارمة. غمامات غاز مسيل الدموع، أصوات مفرقعات، صراخ. نزلت من الإسعاف لأواجه أعاصير الزوبعة ومن عجلتي وقعت أرضا على ركبتيّ بالأغراض، ساعدني أحدهم ومسك يدي ليأخذني مسرعا إلى سيارته ليحميني، أدخلني السيارة لكني صرخت فيهم: "نزلوني طلعوني برة أبغي أساعد الناس ".

عندما خرجت من السيارة رأيت د. نبيل تمام فوجهته للسيارة التي نزلت منها، ساعده الشباب، خفت عليه خصوصا وأنه مريض سرطان، ركضت بأغراضي فصادفني شاب تبرع بسيارته البيك آب لحمل الجرحى قال لي : "اتجين ويايي؟" وافقت على الفور، وتحركنا باتجاه مجمع الدانة رأيت أمامي صفا كثيفا من قوات الشغب، كان المتطوع يسوق وشاب آخر يجلس بجانبه وأنا مع آخرين نلتقط الجرحى من الأرض، ومسيلات الدموع تلاحقنا. نركلها بأقدامنا ونواصل رفع الجرحى. السيارة امتلأت بالجرحى حتى أنّي وضعت أحدهم على رجليّ، وبالمناسبة البيك آب مفيدٌ للجرحى لأنه يوفر لهم هواءً متجددا وهو أفضل من سيارة الإسعاف المغلقة في هذه الحالة. بقينا نواصل أخذهم للمستشفى ونعود ثانية نصارع لإنقاذ أكبر عدد ممكن. (سألتها: كيف يتسنى لكم الذهاب والعودة والطرق مزدحمة) قالت: "حين يرى الناس الروب الأبيض يفسحون الطريق لأن هذه السيارة إسعاف".

الشهيد عبد الرضا بو حميد

 
إحدى مسيرات الكادر الطبي المتجهة للدوار
اغتيل الدوار. القلوب مشتعلة بالغضب من جراء الفجيعة. ذهبت إلى المستشفى بعد ظهر الجمعة 18 فبراير/ شباط، كنت أتوقع حدثا ما. لم يحدث شيء، خرجت عصرا، وصلت إلى الإشارة الضوئية في السلمانية متجهةً للسهلة حيث بيتي وإذا بي أسمع إطلاق رصاص متتابع حتى اهتزت السيارة، وقعت في رعب، لأول مرة أسمع رصاصا في البحرين، سمعته في غزة، في لبنان لكن هذه أول مرة أسمعه هنا. قررت الرجوع للمستشفى، لم أستطع الدخول بسبب حشود الناس الغاضبة، غيرت طريقي إلى البيت، في هذه الأثناء اتصلت بطوارئ المستشفى، سألتهم: "هل تحتاجوني؟" .. أجابوا: "لدينا طاقم يكفي". دخلت البيت حزينة وأخذت أبكي، وأتفقد الأخبار على نار لأعرف أن الرصاص الذي سمعته أطلق على تظاهرة لمنعها من التوجه لفتح الدوار بعد "كسار" فاتحة الشهيد مشيمع، وفي تحدي التظاهرة للمدرعات كان لـ عبد الرضا بوحميد نصيبٌ من ذلك الرصاص .

الدوار ..عرس الحرية

19 فبراير/ شباط أمر ولي العهد بسحب جميع القوات العسكرية من شوارع البحرين بشكل فوري، فعاد تدفق الناس للاعتصام في الدوار. في ذلك اليوم جاءت للكوادر الطبية دعوة من منصة الدوار تدعوهم للحضور لتكريمهم على دورهم المتفاني في اليوم الدامي. اقترحت أن نخرج في الليل بعد أن تكتسي السماء بسوادها. لنخرج في موكب شموع، موكب صموت ومهيب يليق بالشهداء ومكانتهم في قلوبنا. كانت مسيرة الكادر مؤلفة من جميع المستويات والتخصصات، أطباء، مستشارين، جراحين، ممرضين، صيادلة، مسعفين، فنيي أشعة، كل واحد منا لبس زيّ العمل الخاص به وحمل شمعة مضيئة. خرجنا من مستشفى السلمانية الطبي إلى الدوار ونحن في مرورنا المهيب كنا نسمع الناس تحيينا بفرحة : "شرفتونا ورفعتوا راسنا"، والسيارات تفسح لنا الطريق، أحدهم نزل من سيارته وانحنى أمامنا باحترام باهر. وكلما مررنا على موقع سقوط شهيد، توقفنا، قرأنا الفاتحة وقبلنا الأرض التي سالت عليها دماؤه ثم وضعنا في المكان شموعا لتضيء ذكراه .

أعيدت الخيمة الطبية، وشرع الشباب في إنشاء منصة بديكور جديد وأعيدت الحياة والمضائف وخيام الجمعيات السياسية، مثل وعد، الوفاق، أمل، وكذلك جمعية الحقوقين، جمعية المعلمين وغيرهم. فكرت في فكرة " 5 دقائق لصحتك" أقنعنا إدارة منصة الدوار أن توفر لنا هذا الوقت المهم. كنت كلما دخلت الدوار، أول ما أفعله هو أن أدور في المكان وأتفقده، أسأل الزملاء في الخيمة عن الحالات التي أسعفت مثل حروق انسكاب شاي أو زيت حار، وأسجل الأخطاء وأكتب الملاحظات ثم أطلع على المنصة أنصح النساء ومدخني الشيشة أن يبتعدوا عن الزحمة، وأن تحاذر النساء من جمرات الشيشة على حرير عباءاتهن السريع في الاشتعال وهكذا، كنت أحب أن أمازح الجمهور فأقول: "الشيشة برة برة... الشيشة شنو؟" فيرددون : " برة برة ". كان الناس يلجؤون للخيمة الطبية ونعالجهم من كل شيء كالرشح، وجع الظهر، التهاب حنجرة أو إذن، من نزلة انفلونزا، نسألهم : "لماذا لا تذهبون للمراكز الصحية؟" يجيبون : "ولماذا نذهب إلى هناك، هنا كل شيء أحسن وأحلى".

صارت الخيمة الطبية هي عيادة الدوار، وإن شئتم عيادة البحرين حتى خفّ الضغط على المراكز الصحية. اقترحت عليهم عمل ممرات بين الحشود لتسهيل الحركة. فوضعت قضبانًا حديدية، لكن طلبت تغييرها إلى حبال ممدودة لأنها أسلم. أمورٌ أخرى طلبتها من الشباب وهي أن يرقموا النخيل للاستدلال على الأطفال المفقودين، ثم تحددت خيمة خاصة للأشياء المفقودة، وشيئا فشيئا انتظم الدوار بوضع الكراسي للناس التي لا تسطيع الجلوس أرضا. بعد انتشار المضائف بكل أنواع السندويشات، غير الرز والهريس والأكلات الشعبية، صار حماس البحرينيين يتواصل في ذلك بعمل التنظيم والتنظيف. عملنا حملات توعوية للنظافة، والناس تستجيب هناك بسرعة لأنها تريد أن تعمل أي شيء في خدمة الثورة، يفعلونها بكل ممنونية "على حب الثورة ".

صارت الناس التي ترتاد الدوار تستزيد من حلقات النقاش السياسية الليلية. أو تمر على الخيام التي أصبحت مرجعا لهم عن أي سؤال، طبي، حقوقي، تعليمي وغيره. رأيت أجانب كثرًا في الدوار من أمريكان وإنجليز وهنود وفلبينيين، وكان الشباب يضاعفون من اهتمامهم بهم، لأنهم فيما بعد سيكونون شهود عيان على حضارية الاعتصام وسلميته. وفعلا كانوا كذلك فلم نشهد هناك لا عراكا، لا سرقات، لا سلوكيات غير لائقة. وأخذ الدوار ينتظم أكثر والخيام تتمدد في محيطه إلى أبعد ما يمكن .

الأيام الجميلة لا تنسى رغم الجراحات المثخنة التي مررت بها والتي ما زالت قائمة حتى هذه الساعة. ذكريات السلسلة البشرية من الدوار للفاتح كانت ابتكارًا نوعيًا فاق التصور، إبداعات البحرينيين مدهشة للعالم. المسيرات السلمية المرفرفة بالأعلام التي جابت شوارع البحرين، بالشعارات الداعمة لمطالب الإصلاح وتغيير الحكومة وغيرها.

في ظروف النكبة الأمنية

غير أن دور الكادر الطبي لم يقتصر على الدوار فقط، تطوعت في أماكن أخرى، فكوني رئيسة جمعية التمريض البحرينية كنت مع جميع الممرضين والممرضات المتطوعين المكونين من حوالى 70 شخصًا. فكرت يوماً أن نعمل سلسلة بشرية عند بوابة الطوارئ لتمنع الناس وقت قدوم سيارة الإسعاف، لأن الإسعاف يثير فضولهم بالتدفق إليه فيعيقون حركة المسعفين ونقل الجرحى بحيث لا تفتح السلسلة إلا حين يُقدّم الإسعاف. كانت مسؤوليتي أيضاً تحديد الحاجة حسب الاختصاص وحالة الجريح.

وقفت ذات مرة على منصة الطوارئ أعلنت في الميكرفون: "جاءنا خبر أن هناك بلطجية سيهجمون على المستشفى. قد يكون إشاعة لكن لا بدّ من أخذ الحيطة والحذر". فنبهنا الناس داخل المستشفى أنْ استعدوا قد يحصل ذلك. وعليه أعددنا خطة تقوم على عمل تمرين تجريبي، وهي حين يهجم البلطجية تدخل جميع النساء والأطفال ويتمركزون بهدوء في الممرات، لا يدخلون الأجنحة كي لا يزعجوا المرضى، فبإمكانكم التواجد في ممرات الطابق الثاني، والطابق الثالث. تم التمرين بنجاح .

في نفس الليلة حوالى الساعة العاشرة مساءً، سمعت صراخا ورأيت بأم عينيّ بلطجيا يركض قادما من جهة جامعة الخليج العربي حاملا لوحا خشبيا مغروزًا بالمسامير. كنت أقف قريبا من مدخل الطوارئ. تصدت له مجموعة من الشباب، آخرون لحقوا بهم وهم يصرخون : "يسقط حمد"، منعناهم من اللحاق بهم، ورجوتهم: "لا ترددوا شعارات سياسية مهيجة، هذا ليس وقتها، نريد الهدوء لمعالجة الناس.. رجاء صلوا على النبي".. فرددوا ورائي :" اللهم صلي وسلم على محمد وآل محمد". هذه الصلوات تهدئ المشاعر الجياشة.

ذات مرة قبل الحادثة أعلاه بفترة، وقف إبراهيم الدمستاني على المنصة قائلا: "رجاء لا تنادوا بالموت لآل خليفة، فمن بينهم ناس شرفاء، لا تطلقوا شعارات سياسية". ولما أعطيت الميكرفون أكدتُ: "لقد سمح لنا ولي العهد بالاعتصام في الدوار وليس هنا". لم أكن أشجع على الاحتجاج في ساحة مواقف الطوارئ. أنبههم من أجل فسح الممرات والطرق للمرضى.

خيمة الطوارئ

قبل ضربة الدوار الثانية بثلاثة أيام صدر أمر من إدارة وزارة الصحة، أن تنصب خيمة طبية في ساحة الطوارئ، خيمة كبيرة تسع حوالي 20 سريرا طبيا، استغرقنا في تجهيزها أربع ساعات. تبرعنا بوقتنا الكامل، براحتنا. يأتي الليل فيصعب على النساء من الكوادر الطبية أن تغادرن إلى بيوتهن، كنا نحن المتطوعين نجلس خارج المستشفى من أجل عدم إرباك الكوادر الطبية في الداخل، وكأننا حراسٌ على أعتاب أبوابه، ونحن نرتعد من برد الليل، لكن حب الوطن والواجب يرشح لنا دفئا يعيننا على هذه المهام الصعبة. أصبح المستشفى هو المبيت والملاذ من شرور قوات الأمن المتربصة بكل حركة في الشارع، الطرق غير آمنة. يتصل بي زوجي ليؤكد: "لا تستطيعين دخول السهلة، ابقي هناك أسلم لك". ثم فيما بعد، تدخل قوات درع الجزيرة ليتحول المكان الأسلم إلى ثكنة عسكرية .

وتحت ظروف النكبة الأمنية لم نستطع حضور جنازة الشهيد علي الدمستاني في 14 مارس/آذار الذي دهسته سيارة على كوبري الدوار، هذا بالإضافة إلى سبب أهم وهو نداء الواجب الإنساني والمهني، واستعدادنا وجهوزيتنا للحظات الأصعب. كان الجميع متعاونين ومتفانين يلبون الأوامر فيما بينهم بدون أية حساسيات. ننتبه لكل صغيرة وكبيرة، لا يغيب عن بالنا المسعفون القادمون وإسعافهم بالأكل والماء إذا كانوا جوعى، ونفعل الشيء نفسه داخل الطوارئ، والمتيسر من قليل الطعام هو للمرضى أولا، ونحن نأكل ما فضل منه، هذا إذا بقي شيء. لقد أعطيناهم عيوننا وكل طاقتنا التي نملك .

مجزرة سترة

 
بدأ الإرهاق والتعب يأخذ مأخذه من طاقتنا وأجسادنا، كنا ننام في النهار قليلا حين تهدأ الأمور. في الصباح أذهب إلى البيت للاستحمام وتبديل ملابسي وأعود سريعا للمستشفى. في ليلة سترة بدأت تشحّ الإمدادات الغذائية للظرف الأمني الصعب حتى صارت السندويشة تقسم إلى أربع قطع، كل شخص له الربع، لقمة تسد الرمق ولولا مضيف ساحة الطوارئ لما كنا نحصل عليها بالمرة .

في وقت العصر حدث القتل العشوائيّ، كشرت السلطة عن أنيابها ونقمتها على الناس، فتعرضت طواقم الإسعاف للاستهداف السافر حيث تعرضوا للضرب والقمع دون وجه حق. الصيلادني أحمد المشتت القابع في السجن الآن ذهب بسيارته الخاصة في ذلك اليوم ليُمِدَّ مركز سترة الصحي بالاحتياجات من الأدوية من مركز السلمانية الطبي. أما السيد محمد عبد الرحيم رئيس الإسعاف سابقا في مستشفى السلمانية مع د. أمين الساعاتي منعا من دخول سترة وضربا وأهينا. أذكر أنّا حملنا عبد الرحيم برفق خشية أن تتضاعف مشكلته في انزلاق غضروف الظهر slipped disc ، وللأسف شهد هذا الأخير ضد الكوادر الطبية فيما بعد .

وصل أحد الإسعافات ونزل منه د. إبراهيم العرادي ود. حنين البوسطة التي هرعت إلى حضني تبكي، قالت : "واحد ضربني كف وذلني". هذا يوم أليم لا يُنسى. قال أهالي سترة أنهم رأوا سيارة "فان " Van بيضاء عليها رسم هلال أحمر، وسائقا يلبس الروب الأبيض، كانت تتخفى بهوية سيارة الإسعاف لتطلق الشوزن على الناس. فيما بعد أطلقنا تعميما في (فيسبوك)، و(واتس آب) إلى الناس ألا يدخلوا إسعافا إلا وهم متأكدون أنه إسعاف المستشفى وعليه اسم وزارة الصحة .

جاءتني فتاة عادية لا أعرفها، بهرتني بشجاعتها وشهامتها، لقد أعطتني مفاتيح سيارتها (البرانيو) الجديدة وقالت لي: "هذه سيارتي في خدمتكم اعملوا بها ما تشاؤون"، فأزحنا من داخلها المقاعد كي يسهل تمديد الجرحى فيها وانطلقت إلى سترة. أيضا هناك نساء من الكادر الطبي، من سكنة سترة ومن يعرفن قراها وأزقتها، انطلقن بسياراتهن يرشدن المسعفين إلى الجرحى، قمن بعمل بطولي. في هذا اليوم تواصل جلب الجرحى حتى الساعة 11 مساءً حتى بلغ عددهم 785 حالة، من حالات اختناق وجرحى وغيره .

إلا الشهيد أحمد فرحان

حين قدِموا بالشهيد أحمد فرحان، رأيت رأسا ملفوفا بملاءة بيضاء، نعم لم يكن شاشا. تأملت وجهه المريح والوسيم، تأملت عينيه نصف المفتوحتين. كأنه ينظر إلينا، كأنه يكلمنا، علينا الانتباه لما تقوله هاتان العينان الشهلاوان، وضعت يديَ على رقبته كي أجس النبض وإذا بأحدهم يمسك يدي وهو يوشوشني: "هذا شهيد". ما أنسى مسكة اليد التي أوقفتني (تلمع عيون رولى ويختنق صوتها) كانت الناس تضج بالبكاء والعويل والتكبير لأنهم رأوه قبلي، آخرون سقطوا مغمى عليهم، الناس تسألني في الممر: "عايش لو ميت؟" أرد :" إن شاء الله عايش". ماذا في وسعي أن أقول وأنا أتوخى منهم التهدئة .

الجرحى يتدفقون بالمئات. الناس متعبة ونحن غير قادرين على السيطرة على انفعالاتهم وهيجانهم، لأننا أيضا غير قادرين على تحمل هذه المناظر والمآسي. فنحن الكادر الطبي كم رأينا في عملنا جرحى، كم رأينا دماء تنزف من الإذن، الأنف، الرأس أو من أي مكان لكن أن نرى رأسا مفتوحا خاليا تماما من أحشائه، من المخ، هذا لم نعلمهم إياه لأنه لم يخطر في البال ولا في الخيال .

أُدخل فرحان غرفة الإنعاش وأنا كنت خارجها، هنا أتاني أحدهم وأدار لي فيلم الفيديو للشهيد لأرى رأسا مفتوحا تتدلى قطع رأسه يمنة ويسرة كأنها مصاريع نافذة تتقاذفها الريح. في هذا المشهد لا أذكر من جاءني وقال : "لازم نجيب المخ من محطة البترول، المكان الذي صُرع فيه الشهيد"، فيما أستلم مكالمة هاتفية من سترة: "انجان تجون تاخذون المخ ما نقدر نطرش أحد؟" .. أحدهم تبرع : "أنا بروح أستاذة" لكني رفضت بشدة : "لا نريد شهيدا جديدا .. يكفي". ألح بالذهاب قلت له إذن أخبرني حالما تعود لأتاكد بنفسي من سلامتك .. كنت أتبع طريقة معينة فحين أرسل أيّ أحد من المسعفين أدوّن اسمه، ورقم هاتفه، ومنطقة سكنه، وأطلب منهم أن يأتوني شخصيا لأتأكد من وصولهم بسلام. وفعلا وصل هذا الشاب الشجاع المتبرع بجلب لفائف المخ المهترئة ليقول لي: "الأمانة وصلت". آااه .. لجمت ألمي وفزعي وقلت له " خذه للمشرحة ".

إن أسوأ حالة مرت علينا هي حالة الشهيد أحمد فرحان، ترتعد فرائصي كلما تذكرت الرأس المفضوخ، وتلك النظرة المليئة بالأسف والعصيّة على النسيان، أتأملها في خيالي حين التقت عيوني بنظرته الحسرى، كأنه يكلمنا ويقول: "انظروا ماذا فعل الظلم بي". وتارة كأنه يعتذر: "سامحوني لم أستطع أن أفعل شيئا لكم، لقد هزموني وقتلوني غدرا".

بس أحمد فرحان غير، حين خرجت من السجن كانت زيارة بيت الشهيد فرحان هي إحدى أولوياتي. ذهبت إلى أهله وحين عانقت والدته بكيت كثيرا، ولما سلمت على والده بكيت، وحين التقيت عبد المنعم منصور البطل الذي حمل البطل اعتصرني الألم وعلا نحيبي، يعزّ علي ألا أعزيهم في وقت العزاء لكنا كنا تحت وطأة الوحشية التي منعتنا من واجبات كثيرة، وأحمد فرحان سيبقى في قلبي، مثل ولدي .





التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus