المُحاكمة السياسية: ما نتيجتُهُ معروفةٌ سلفًا

2012-09-04 - 3:00 م



"وإذا فقد أغلبية المواطنين ثقتهم في النظام تقوّضت شرعيتُه، ويُصبح الحديث عن
 (نقض الشرعية) أو (فقد الشرعية) أمرًا بديهيًا. إنَّ أيَّ حكومة ديمقراطية في
العالم تقوم بتجديد شرعيتها كلَّ 4 أعوام، تزيدُ أو تَنقِصُ قليلًا، ولا توجد حكومة
 تستمرُّ شرعيتُها مدّة 40 عامًا دون انتخابٍ أو تجديدٍ للتفويض الشعبي كما هو
 الأمر في بلدنا"

مرافعة سجين الرأي، إبراهيم شريف


مرآة البحرين (خاصّ): ما هي المُحاكمة السياسية؟ هي ما قاله في اختصارٍ بليغ إبراهيم شريف في مُرافعته التاريخية: "ونحنُ على يقين أنَّ فاقد الشيء لا يُعطيه، وأنَّ نظامًا لا يعرف العدالة لا يستطيع أن يُطبِّقها. إنّنا نعرف سلفًا نتيجة هذا الامتحان بين العدالة الحقيقية التي تنتصر للمظلوم ولو كان ضعيفًا، والعدالة الزائفة التي تنتصر للقوي ولو كان ظالمًا".

مُحاكمة نتائجها معروفة، تلك هي المُحاكمة السياسية، ونتائجُها معروفةٌ ليس لأنَّ قانونها واضح وجريمتها واضحة، بل لأنّها غيرُ حيادية (انظر: المُحاكمة السياسية، نبيل أديب عبدالله المحامى). ونتائجُها معروفة لأنَّ قُضاةَ هذه المحاكمة لا يحتكمون إلى البيِّنات التي تُقدَّمُ لهم، ولا يأخذون بمرافعات المُتّهمين والمحامين التي تُقرأ أمامهم، بل يحتكمون إلى البيانات التي تقرأها السلطة السياسية عليهم، لذلك هؤلاء القضاة لا يَفصِلون في خصومةٍ قانونية، بل هم يَفصِلون في خصومةٍ سياسية. والفاصلُ ليس الضميرُ الذي يَحكم، بل الضامنُ الذي يُعطي. هذه هي المُحاكمة السياسية، مبنيةٌ على عدالةٍ زائفة، وهي عدالة القويِّ الظالم.

في المُحاكمة السياسية، يكون دور المحامي محدودًا، لأنّ المحكمة في قبضة الحاكم السياسي، والقاضي أداةٌ من أدواته التنفيذية. وللتغطية على هذه القبضة، ربّما تُبالغ المحكمة في إظهار التزامها بالإجراءات الشكلية، ويكون وضع المحامين ضمن هذه الإجراءات الشكلية، أي أنّ مَحكمة الحاكم السياسي تسلب من المحامين ومن القضاة شخصيّاتِهم الاعتبارية وتحوّلهم إلى شكلٍ يُغطّي (ما نتيجته معروفة سلفًا)، لذلك نجدُ حرص رئيس النيابة وائل بوعلاي في مؤتمره الصحفي على تعداد مظاهر حفلة (ما نتيجته معروفة سلفًا = المحاكمة السياسية).

وقد جاء في قائمته التالي: توفير هيئة دفاع اختارها المُتّهمون مكوّنة من 17 محاميًا، وجلساتٍ علنية بحضور دبلوماسيين، ومنظماتٍ حقوقية، ومنظماتِ المجتمع المدني، ووسائلِ الإعلام المحلّية، وعدم وضع المُتّهمين في قفصِ الاتّهام، وجلوس المُتَّهمين بحرّية تامّة بجانب مُحاميهم دون أيِّ تقييدٍ لحرِّياتهم في المحكمة. المحامون حصلوا على حقّهم الكامل في لقاء المُتّهمِين قبل وأثناء وبعد المُحاكمات، في جلسات ٍفردية وجماعية. الفُرصة أُعطيت لكلِّ مُتَّهم خلال الجلسات للحديث والدفاع عن نفسه، واستمرّ دفاع المُتّهَم الواحد في بعض الأحيان لأكثر من ساعتين مُتتاليتين. كما قرأ بعض المُتَّهمين حوالي أربعين صفحة للدفاع عن أنفسهم.

إنَّ كلَّ هذه الإجراءات ليس فيها ما يُغيّر مِن (ما نتيجته معروفة سلفًا = المُحاكمة السياسية) فما يُغيّر من النتيجة هو استقلال القضاء كلِّه عن السُلطة التنفيذية.
ما سيبقى في التاريخ من المُحاكمات السياسية، ليست هذه الإجراءات، ولا هذه المحاكم. ستبقى شهادات المُدانين، ومُرافعاتهم، ستبقى شاهدًا حيًّا على العدالة الزائفة في البحرين، وعلى القبضة الظالمة للدكتاتورية، كما بقيت شهادة مرافعة نيلسون مانديلا، الذي نحّى مُحاميه جانبًا وتولّى الدفاع عن نفسه، وبقيتْ كلماتُه شاهدًا في تاريخ العدالة "إنّني لا أجد نفسى مُلزَمًا سواءً من الناحية القانونية أو الأخلاقية، أن أُطيع قانونًا أَصدَرَه برلمان ليس لي حقُّ التمثيل فيه، ومن الناحية الأخرى فإنّني لن أحظى بمُحاكمةٍ عادلة، لأنّه في مثل هذه المُحاكمة السياسية التى تتعارضُ فيها آمالُ الشعب الإفريقي، مع مصالح الرجل الأبيض، فإنَّ محاكمَ البلاد بتكوينها الحالي لا تكون مُحايدة ومُنصِفة".

وهنا، ستبقى مرافعة إبراهيم شريف شاهدًا تاريخيًا على زيف هذه المحاكم الملكية وهو يقول "ورغم ذلك فإنني لا أرى أي علاقة بين القول المنسوب لي حول “الغزو” و”الاستبداد بالثروة” من قبل العائلة الحاكمة والمادة (165) عقوبات، إلا إذا اعتبرت النيابة “نظام الحكم” و”العائلة الحاكمة” شيء واحد وهو ما لم تفصح به ولا تستطيع إسناده من الدستور والقانون رغم إنه أمر واقع بحكم الممارسة. كما أن النيابة لم تبلغني بوجود شكوى من واحد أو أكثر من أبناء الأسرة الحاكمة الكريمة يحتج عن الكلام المنسوب لي. فإن وجد فلا يمكن استخدام هذه المادة لتوجيه تهمة “التحريض والازدراء” بالنظام".

سيحتفظ التاريخ بشهادة إبراهيم شريف دليلًا على أنّ القانون الذي طُبِّق في مُحاكمة الرموز على نشاطهم السياسي في ثورة 14 فبراير، لا يُقصد به حمايةَ الدولة، بل حمايةَ العائلة الحاكمة، أي حمايتَها من أيِّ مُحاولةٍ لفكِّ تطابُقِها مع نظام الدولة، فالدولة هي العائلة الحاكمة، والعائلة الحاكمة هي الدولة. كان نشاط 14 فبراير السياسي يُحاول فكَّ هذا التطابق من أجل إنشاء فضاءٍ عامٍّ للدولة، يجد فيه الناس وطنًا مُشتركًا، بدل أن يكون حيّزًا خاصًّا تعتبره العائلة مزرعةً خاصّةً بها ومَترعًا لفسادِها.

سيكونُ دفاع المحامين والرموز عن حرّية رأيهم في النظام وشكله جزءًا من تاريخ الحرّية في هذا الوطن الصغير، وتوقيع إبراهيم شريف في مُرافعته التاريخية (سجين رأي) سيكون جزءًا من تاريخ المحاكم القديم التي تسجن الناس على آرائها، وستأتي علينا اللحظة التي ألغتْ فيها الجمهورية الفرنسية الثالثة جرائم الرأي، بحيث لم يعد مُعاقَبًا إلا على جرائم القانون العام، وذلك في قانون 29يوليو 1881. وقد ألغى هذا القانون جريمة التحريض على قلب نظام الحكم أو كراهيته أو الازدراء به، وجريمة الطعن في الأسرة الملكيّة، وجريمة كراهية أو بُغض بعض السلطات العامة.

سيبقى ذلك حلماً كما قال سجينُ الرأي السياسي "يستطيعون حبسنا ولكنّهم لن يستطيعوا اعتقال حلمنا .. حلم الحرية لشعبنا، والكرامة لأهلنا".

المُحاكمة السياسية اليوم، تقولُ ما دامت السُلطة القضائية محكومةً بـ (ما نتيجته معروفة سلفًا) فإنَّ السُلطة السياسية ستكون على ما هي عليه سلفًا: تَعنُّت، وحكمٌ مفرد، ودكتاتورية صلبة.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus