أنا الآن لستُ رولى الصفار، أنا سُهى بشارة (2- 6)

2012-09-06 - 9:00 ص


مرآة البحرين (خاص)

البحرين - ابتسام صالح



"أنا الآن لستُ رولى الصفار، أنا سُهى بشارة، سأخرج من هنا لا محالة كما خرجتْ سُهى بشارة" بهذه الكلمات راحت رولى تُهدهِد نفسها، فيما هي تواجه مصيرها المجهول وسط زنزانةٍ مُظلمة مُخيفة، وفي توقيتٍ هو الأسوأ في تاريخ البحرين، لا أحدَ يعلم ما الذي ينتظره عند يد البطش، لا مكان لغير الانتقام الأسود. من جرأة الورد على الكلام، راحت رولى تُردّد على نفسها هذه الكلمات، تَمنحُ نفسها (بشارة) تكفيها للصمود، وللخروج مُنتصرة.
 
من هي رولى الصفار؟ قضتْ خمسة أشهر في سجون السلامة الوطنية، يُصنّفها البعض بمستوىً أكاديمي ومِهَني أكثر من مُمرّضة وأقل قليلًا من طبيبة، لكنّ الشعب البحريني أطلق عليها لقب "الدكتورة".

أوّل مُمرضة في البحرين تَحصَل على ماجستير تمريض العائلة، ماجستير آخر في الطوارئ والعناية القصوى، وثالث في تعليم التمريض. تعملُ في الحقل الطبي منذ 1988. بدأتْ في أمريكا ثُمّ البحرين عام 1996، لتُواصل عملها كأستاذٍ مُساعد في كُلّية العلوم الصحيّة، ورئيسة المركز العالمي للتدريب في نفس الكلية، ورئيسة برنامج تمريض الطوارئ.
 
الصفّار تعمل إذًا في كُليّة العلوم، وتُدرّب في مركز السلمانية الطبّي، وتُدرّس الأطباء والمُمرضين على الإسعافات الأولية، كذلك الإسعافات الحيوية المُتقدّمة.
 
تسعى جمعية التمريض البحرينية التي ترأسُها رولى إلى تطبيق برنامجٍ يَهدفُ إلى تدريب 2000 متطوّع، بحيثُ يتوفّر مُسعف مُتدرّب في كلِّ قرية، وكلِّ بيت، وكلِّ حي، وكلِّ زقاق.
 
بدأ المشروع قبل 14 فبراير/شباط 2011، اليوم شهد العمل عليه تكثيفًا أكثر، لأنّ الحاجة إليه باتت ماسّةً أكثر. من إنجازات الجمعية أيضًا كسبِها للقضيّة التي أُثيرت عام 2005 حول المُطالبة بتغيير الكادر التمريضي، ففي العام 2008 عُدِّلت درجات جميع المُمرضين من الدرجات العمومية إلى الدرجات التخصّصية، مع رفع العلاوات الأخرى كعلاوة الملابس أو علاوة الخطر. اليوم تسعى وزارة الصحة لإرجاع المُمرضين إلى الكادر القديم.

إذا حَضَرَتْ مَلَكَتْ..

 

من يعرف رولى الصفار قبل 14 فبراير/شباط، سيعرف أنّها ذات شخصيةٍ قوية، لا تُهادن، لا تُجامل، صارمة، لا تخشى عواقب أفعالها مهما بلغت خطورتها، وفي ذات الوقت فإنّ حُضنها حنانٌ مُتدفّق يحتضن كلَّ دمعة. يقول عنها أصدقاؤها ´حين تكونُ في مِحنة وتراها أمامّك تلقائيًا تندفع إلى حُضنها باكيًا، تتكسّرُ الدموع على صدرِها، ويَسكُن رَوعُ القلب بهَدْهَدَتِهاª. ولأنّها رئيسة لجنة دعم مرضى السرطان، فقد حرصتْ على دعم جميع النساء اللاتي تمكّنتْ من الوصول إليهن ممّن تعرّضنَ للإصابة بالسرطان، لهذا سُمّيتْ رفيدة البحرين، أو تريزا البحرين.
 
اجتماعيًا، عُرف عن رولى أنّها "إذا حضرتْ المكان ملكتْهُ بحضورها، صاخبةُ بمُشاكساتِها، بضحكاتِها المُجَلجِلة، (بقفشاتها) مع الصغير والكبير، امرأةٌ ممتلئةٌ حيويةً ومرح، ما لم تستدعِها الشدة والكرب".
 
مع أحداث 14 فبراير، وبداية القمع الذي أسفر عن سقوط قتلى وجرحى ومصابين، ركضت رولى ببياض قلبها الذي أدماه الألم على أبناء بلدها، وببياض ثوبها الذي انفتح كجناحي طير، راحت تضمُّ الجرحى والغارقين في دمائهم.هرعت فزعةً مع الثوار يحملونهم إلى سياراتٍ خاصة، كان ذلك في الخميس الدامي 17 فبراير/ شباط.
 
وفي 15 مارس/ آذار يوم مذبحة سترة، رابطت رولى في المُستشفى تُمارس واجبها المهني والإنساني. ولأنّها ذات مكانة مُقدّرة بين طلّابها وزُملائها، فقد كانت كلمتُها مسموعة، طَلَبَتُها ينتظرون منها الإشارة، تدفع سيارات الإسعاف، تمنع شبابًا مُندفعًا خشية سلامته. وفي كلِّ الأحوال يأتيها الجواب : حاضر أستاذة. 

مرآة البحرين التقتْ رولى، أخذتْ منها تفاصيل تجربتها داخل المعتقل، الذي دخلته ثَمَن مُعالجتها للجرحى والمصابين من المحتجين. في الحلقة الأولى تحدثنا عن رولا في دوار اللؤلؤة، وابتداء من هذه الحلقة  سنروي على لسان رولى تجربنها في السجن.

هُنا التحقيقات..

اجتمعتُ مع عائلتي يوم الجمعة، آخر جمعة تسبق اعتقالي، هيّأت زوجي وأخي لذلك، أوصيت: لا تخشوا عليّ. أعطيتهم رقم هاتف محاميَّ الخاص، كذلك أرقام زملائي كي يستطيعوا مُساعدتي، وهُنا بكتْ ابنة أخي وهي تقول : لا تقولي ذلك، قد لا تُعتقلين!
 
تُكمل رولى: كنتُ جالسةً على عتبة مدخل بيتي أشرب الشاي، للتو غادرتني كلٌّ من الدكتورة نهاد الشيراوي والدكتورة جليلة العالي. كُنّا متهيئاتٍ للحظات الصعبة القادمة لا محالة. بعثتُ برسالة نصّية للصديق إبراهيم الدمستاني أسأله : شحوال أولادك؟ جاءني الرد: الحمد لله.  شككتُ في رده الذي لم يأتِ بالشكل الذي أتوقع. ثم عاد مُتصلًا بي، أجبتْ: أهلًا إبراهيم. يباغتني ردٌّ صاعق : "هُنا التحقيقات .. نريد أن ندردش معك". 
 
عرفتُ أنَّ الدمستاني قد اعتُقِل، وأنّهم كلموني من خلال هاتفه. كانت السابعة والنصف مساءً، فاعتذرتُ لهم عن الحضور. قُلت: سآتي إليكم غدًا، لا تتوفّر لديَّ سيارةٌ الآن. ردّوا بلهجةٍ آمرة: اركبي تاكسي وتعالي. اعتذرتُ ثانيةً: صار الوقت ليلًا وزوجي نائم، غدًا أفضل. زاد تعنّتهم: " اتجين وإلا نجرجرك من بيتك؟"
 
ارتديت بدلةً رسميةً أنيقة واتصلتُ بالمُحامي أُخبره عن اتصالهم وعن لباسي، قال لي : أنتِ مطلوبةٌ للاعتقال وليس للدردشة، غيّري لباسك إلى لباسٍ بسيط ومُريح، ففعلت. اتصلتُ بأخي وأعزِّ صديقاتي لأخبرهما بذلك. أخذني زوجي إلى هُناك. في الطريق بين العشر الدقائق والربع الساعة كانوا يتّصلون ليسألوا: أين وصلتِ؟ 
 
عندما وصلت منعوا زوجي من الدخول وقالوا له: تعال بعد ساعتين ونصف لتأخذها. خلعتُ الساعة والدبلة وأعطيتُها زوجي. قالت الشرطية : " ما في داعي" هُنا اطمأنيت، لكن ما إن دخلتُ بين مخالبهم حتى صمدوا  عينيّ، وكبّلوا يديّ خلف ظهري. وضربني رجلٌ هو ذات الرجل الذي فتح لنا البوابة، من حركةٍ معيّنة عرفتُه. 
 
لستُ رولى الصفار

وقفتُ معصوبة العينين، مُقيّدة اليدين خلف ظهري، أُجرّبُ أولى وجباتِ التعذيب، اعتبرتُ نفسي في مغامرة وعليّ خوضُها مُجبرةً أو مُكرهة، لكنّي سأقهرها بالانتصار. قطعتُ على نفسي هذا الرهان. أنا الآن لستُ رولى الصفار، أنا سهى بشارة، سأخرجُ من هنا لا محالة كما خرجتْ سهى بشارة، بدأتُ درسي الأول مع نفسي، أتلو في سرّي على نفسي وهي تُصيخ السمع وتُنفّذ الأمر، أتلو عليها دعاء الفرج. أُغالب الألم برحمة الدعاء، إنّه محفوظٌ في قلبي وسريرتي، أوزّع بركاته على جميع جسدي الرازح تحت سياطهم، فأَخرجُ من الجسد وأتركه لهم يركلونه ويصفعونه، لكنَّ روحي هي مُلكٌ لي، تبقى حرّةً مُتحرّرة من دناءاتهم وبذاءاتهم التي لم أعرفها قبلًا، ولن أسمح لها أن تتمكّن منّي أو تهزمني.
 
ابتكرتُ هذه الطريقة. أُعيد التلاوة بإصرار التمرّد والتحدي، فأَخرج من أنياب قبضاتهم وقُضبانهم، بذلك أُنعش الأمل وأُحييه قبل أن يتعثّر أو يتقهقر، أجعله شعلةً تُبدّد الخوف والظلام. في هذه المحنة أكتشف نفسي بما وهبني الله تعالى من قدرةٍ عظيمة على مُقاومة شتّى صنوف الإذلال والخوف، فالحمد لله الذي ساعدني على قدرة الانفصال عن الجسد، عن الألم بأقصى ما استطعتُ في وجه أعتى الجلادين حقدًا وقسوة.  

لن أبكي

فترة التعذيب، تبدأ من الثالثة عصرًا إلى الثالثة والنصف فجرًا. في اليوم الثالث شدّوا شعري وقصّوه بطريقة عنيفة ومُهينة، أكاد أتذكّر من ورائي صوت قضمة المقص لخُصلة الشعر. ومن ورائي أيضًا أتذكّر كيف علّقوا على ظهري ورقةً مكتوبًا عليها ما معناه : اضربها، اصفعها، لك أن تفعل بها ما يحلو لك. 
 
تُكمل رولى: هُناك في قسم التحقيقات يطولُ العذاب كلَّما طال العناد، والعنادُ من طبعي ولا سيما مع هؤلاء المُجرمين. امتدّت الأيام أسبوعًا بُغيةَ كسري والتلذّذِ بإذلالي، ولكن هيهات أن ينالوا من روحي وكرامتي. احترفتُ الصبر بمعونة الله، واستلهمتُ من سهى بشارة صمودها.
 
في أول ليلة وقفتُ معصوبة العينين، واليدان مُكبّلتان خلفي، وبرد المكيّف على أخفض درجاته يُثلج أطرافي، ويستبدُّ بمفاصلي، كان ذلك في يومٍ من أيّام الربيع في البحرين، حيثُ الطقس باردٌ نسبيًّا في هذا الوقت، والتاريخ يُسجّل : الإثنين 4 أبريل/ نيسان 2011 – أؤمر أن أقف دون حركة، صامتةً دون تنهيدة حتى، يمنعونني من الاستناد إلى جدار يُريحني، يوقفونني بعيدةً عنه، يضمون رجليّ لمزيدٍ من التعب والإرهاق فأسقط مُغشىً عليّ.
 
الجسد لهم، يعيى، يسقط، لكن الروح الوثّابة تُنهضه ثانيةً، واقفًا، شامخًا. يأتي نهارٌ ثانٍ فأُعيد على نفسي درس الجَلَد، وأستعين بالدعاء نفسه. بالمناسبة دعاء الفرج كنّا نتلوه في تجمّعات الاحتجاج بساحة قسم الطوارئ بالسلمانية، هذا الدعاء يُلامس شغاف قلبي وينقلني إلى مكانٍ رحيمٍ وآمن، ويعني لي الكثير من فرط الارتياح الذي أشعر به، كنّا أيضًا نتلوه في غُرَف الإنعاش في ذروة المِحنة، فبه تسكنُ خواطر الناس وجروحهم.

لماذا يُفتِّشون دمي؟  
 
خلال الأسبوع الأول وأنا مُكبّلة بأصفادٍ موجعة، كانوا يأخذون عيّنةً من دمي ويتمُّ ذلك في مُنتصف الليل، عادةً أُفاجأ بدون استئذان أو تهيئة بسحب يدي فيغرسون إبرة مصِّ الدم دون تعقيم، وإن صدرت مني آهه ألحقوني بشتيمةٍ بذيئة، قاموسهم اللغوي جاهزٌ لإطلاق كلِّ مُفردات الفحشاء الفاقعة. يقبض أحدهم على فكي بهمجية، يفتح فمي ويأخذ عيّنةً من  اللعاب، كان ذلك يتمُّ كلَّ يومين. ذاتَ مرّة أُخذتُ للقلعة لأخذ هذه التحاليل، حتى دمي يُخضعونه للتفتيش، لكن لماذا؟ هذا الأمر يُرعبني لأنني لا أعرف لماذا يفعلون ذلك؟ هل هو لفبركة مسرحيات أخرى تدينني، خصوصًا وأنّ مرفقي أصبح مُزرقًّا من تكرار ذلك؟ 

سبعة أيام بلا نوم..

سبعة أيام من اللا نوم والتعذيب المُستمر ليل نهار، معصوبات العيون، جليلة العالي ونهاد الشيراوي وأنا، سارتْ بنا السيارة ما يُقارب الساعة والنصف، أوهمننا أنّهن سيأخذننا للسعودية، قلتُ في سري: أكيد إلى الدمام. ولكن بعد أن نزلنا من السيارة سمعتُ كلامًا هامسًا يدور بين الشرطيات، قالت إحداهن وهي مُمرّضة عرفتها من صوتها لأنّني درّستُها : "هذي أستاذة رولى الصفار، آي عليها، حسافة عليها." حتّى تلميذتي تتهمنني بالجرم. المهم عرفتُ أننا لم نُغادر البحرين.
 

 

قالت الشرطية : " بنوديج شقق سكن، وكل وحدة لها غرفة بحمام خاص" فاعتقدتُ أن قسم التحقيقات هو سكن بنات. وإذا بي أتفاجأ من الأعداد الهائلة من النساء في ذلك التوقيف، نساء المخدرات والدعارة. سألت : كيف هي القوانين هنا؟ ردّت الشرطية : "بعدين بتعرفين" كنتُ مبهورة ومُرهقة ومُستاءة ومشدوهة من هذا الفوج النسائي الغريب عنّي وعن عالمي، أتلفّتُ حولي وأتساءل أين أنا؟ فيُقاطعني سؤال الشرطية؟: من الصديقة الأكثر قُربًا منك؟ قلت : لا فرق كلّهن قريبات، كلّهن صديقات. ففرّقونا كل واحدةٍ في زنزانة مع إحدى تلك النسوة. بالزنزانة سريرٌ ذو طابقين وكان نصيبي أن أتقاسم المكان مع مُدمنة مُخدّرات. طلبتُ منها أن أنام في الأعلى، وفي الأعلى سريرٌ خالٍ من الوسادة والملاءات، أو حتى لحافٍ يدفئني من برد المكيف القارس الذي بات وكأنّه يعاونهم في البطش بنا.
 
اعتليتُ السرير بثيابي الوسخة، لا أملك إلا فوطتي، رغم ذلك سعدتُ أنني سأُمدّد جسدي وأُريحه بعد أسبوعٍ كامل من الوقوف في العذاب والآلام، أخيرًا سأنام. التحفتُ فوطتي لكنّها لم تُعنّي على البرد. ظلّ جسدي يرجف ويرتعد فيرتعد معه السرير. استيقظتْ شريكتي في الأسفل وتبرّعتْ لي بلحافها، ورغم أنّني من النوع الذي يوسوس كثيرًا في أمور النظافة، وأتخوّف من استخدام أغراض الآخرين، إلا أنّني قَبِلتُ عرضها، غطّتني بحنان وحين سألتُها وأنتِ؟ قالتْ : سأتصرف. هذه المرأة لن أنسى لها هذه الرحمة ما حييت.
 
استيقظتُ برعب وانزعاجٍ شديدين من صراخ أفزعني، بعد دهشةٍ قصيرة ميّزتُ الصوت أنّه الأذان، كان يَصدر من مُكبّرات الصوت على أعلى درجة مُمكِنة. إنه الفجر إذًا، طلبتُ أن أُصلّي، طلبتُ الحمّام، رافقَتني إحدى الشرطيات للحمّام كي تستعجِلني بإزعاجٍ مُتواصل، هُناك لا نذهب للحمّام على راحتنا، ولقضاء الحاجة، أيّ حاجة، كُنّا نُعطى دقيقةً واحدة فقط، للاستحمام ثلاث دقائق فقط. تقف الشرطية وراءَ الباب تستعجلنا بالطرق المُتواصل. بعدَ أداء الصلاة تُذاع أغانٍ وطنية بنفس درجة الصوت العالي بشكلٍ مُتواصل ومُزعِج حتّى السابعة صباحًا. استمرَّ هذا الوضع إلى شهر يونيو/حُزيران حيث أخذوا بشكوانا.


هوامش:

  • كتاب مقاومة (سهى بشارة) الصادر عام 2000 - دار الساقي - يحكي تجربة بشارة في معتقل الخيام بجنوب لبنان مدة عشر سنوات.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus