مآتم البحرين بعين المستشار البريطاني "بلجريف": لا عين جافّة في هذا المكان.. الكل يبكي!

ليل عاشوراء جوار مسجد الشيخ إبراهيم الحشاش بالمنامة، لوحة مائية  من رسم بلجريف
ليل عاشوراء جوار مسجد الشيخ إبراهيم الحشاش بالمنامة، لوحة مائية من رسم بلجريف

2020-10-08 - 7:00 ص

مرآة البحرين (خاص): "ما إن استقرّ الخطيب على المنبر حتى بدأ يجرّ الصوت بهدوء، بنعومة جعلت المستمعين يصغون إليه بسكون وانتباه شديدين. ارتفع صوته قليلاً عندما صار يروي قصة الحسين الحزينة. تعالت تنهدات مختنقة متفرقة في أرجاء المأتم من واحد أو اثنين من الرجال الأكبر سناً. أصبح المشهد أكثر درامية عندما أخذ الخطيب يصف مشهد المعركة في كربلاء... بينما تحوّلت القصة -في بعض الأحيان- ترنيمة بصدى في مكان خال. عند هذه اللحظة صار الرجال يبكون بلا توقّف، بلا قيود، تتمايل أجسادهم جيئة وذهاباً. وبصوت الخطيب المليء بالبكاء بدأ يروي لحظات الحسين الأخيرة، جروحه، تعبه، غارق خارج خيمته، جثة ابنه الصغير بين ذراعيه، قد تمكّن منه العطش وغلبه. دفن الخطيب وجهه في وشاحه الأخضر وهزّ بكاؤه جسده. الكلّ يبكي، لا عين جافّة في هذا المكان حتى الشباب الجديد يبكون ويتمايلون. لحظات وجاءت الذروة، بدأ الخطيب -الذي صار في وضع غير مستقرّ على المنبر، نهض على حافة مقعده، جسده كله مائل على مئات من الرجال المتمايلين، الغارقين في البكاء- يصف استشهاد الحسين، وكيف داس الأعداء جسده بسنابك الخيل. الآن لا شيء غير عاطفة في منتهى إثارتها. لطم رجال صدورهم، وآخرون على جباههم، وضجّ المأتم بالصراخ والأنين. لا أحد حتى أنا، يمكنه - في هذا المشهد- أن يزعم أنّه لم يتأثر بأحداث هذه الملحمة منذ أكثر من ألف عام".
لماذا إذن يا بلجريف لا يهز هذا المشهد حكّام هذه البلاد؟ لماذا لا يُحسّون بالعاطفة التي تغرق بها منابر المآتم ومراسم عاشوراء كما أحسست أنت بها؟ لماذا لم تُعد فهمهم للتاريخ والتشيّع وثقافة التضحية؟
لماذا نراك تحضر كل عشرة محرم ومواكبها في المنامة تقديسا واهتماما دون الحاجة لأن تكون إنجليزيا متشيّعا، بينما لم نر على مر كل هذا التاريخ فردا واحدا من عائلة آل خليفة الحاكمة أو أحد مسئوليها يشارك المواطنين الشيعة هذه الشعائر بشكل رسمي، كما فعلت أنت منذ حوالي 90 عاما؟
"اعتدت على قضاء بعض ليالي محرم في المآتم والإصغاء للخطباء، وإذا ما أهملت لسبب ما زيارة المآتم المشهورة أرسلوا إليّ يستفسرون عن المانع من ذلك! ... غادرت منزلي مشياً نحو المنامة، وحدي أعبر الممرات المظلمة... مرّت بي نسوة - في عجلة- يخفين وجوههن تحت عباءاتهن. سمعت ضحكاتهن، غمغماتهن في الكلام: (المستشار.. المستشار)! ... أحضر ثلاثة مآتم أو أربعة في الليلة الواحدة غالبًا، أحبّ القديمة منها، تلك التي تهبط أرضيتها عن مستوى الشارع عدّة أقدام. وعلى الرغم من أنني أعرف المدينة جيداً من الداخل والخارج إلا أنني -أحيانا-أجدٰ صعوبةً في تحديد المواقع في ليل عمر قمره عشر ليال".
على مدار 10 ليال، نشر الكاتب والمصوّر البحريني حسين المحروس على حسابه في انستجرام مقتطفات مترجمة من الفصل التاسع عشر في سيرة مستشار الحكومي البريطاني السابق تشارلز بلجريف "العمود الشخصي (1960)"، والذي كان كلّه حول تجربته في عاشوراء في البحرين. يقول المحروس إن الكتب المترجمة لسيرته ومذكرات بلجريف تجاوزت هذا الفصل وأهملته تمامًا ولم تترجمه!
هكذا أصغى بلجريف لخطباء المآتم، هكذا رآها وعاشها وصوّرها، هكذا فهم تأثيرها وآليات خطابها وهكذا اقترب من ثقافة أتباعها، لا بل صار ضيفا دائما في مجالسها الحزينة والمثيرة.
"تحت قوس مدخل المأتم انحنيت للدخول فاستقبلتني نفحة فيها مزيج من رائحة التبغ اللاذع والقهوة والإنسانيّة. وجدت نفسي في قاعة كبيرة، سقفها مدعّم بأعمدة حجرية، مغطاة بقماش السواد... على أعمدة الممرّات في الجهات الأربع للمأتم تنتصب أقواس، تحمل سقفاً منخفض العلو. ذكرني المكان بكنيسة سكسونية. مصابيح زيتية تنشر إضاءة صفراء خافتة في أرجاء المكان... يأتي النّاس تباعاً كلّ دقيقة، ولا أعرف كيف يحصل كلّ واحد منهم، وبطريقة ما، على مكان له"

تشارلز بلجريف
"المآتمُ قاعات تشبه -إلى حدّ ما- قاعات الكنائس في بريطانيا... بعض مباني المآتم قديمة لكنّها خلابّة في عمارتها.... وصلت المأتم قبل أن يبدأ الخطيب، رأيت النّاس يدخنون السجائر ويشربون القهوة. تقدّم الرؤساء نحوي، وبدأ الجدال المعتاد في مثل هذه المواقف، قال أحدهم: سأحضر لك كرسيّاً، فأجبته: لا.. شكرا لك. أفضل الجلوس على الأرض! لكن الحاج العجوز بدا حزينا جداً. يمكننا استعارة كرسيّ من المنزل المجاور، قال: ستكون أكثر راحة على الكرسيّ! لكنني أقنعتهم في النهاية بالسماح لي بالجلوس على الأرض، على سجادة قديمة جداً صنعها واحد منهم. كنت سأشعر بالحرج والفوقيّة على الآخرين لو وافقت على ذلك! أنهيت شرب قهوتي فوصل الملا... بينما بدأ الملا يدخل من زاوية بعيدة في المأتم... كان يرتدي بشتاً أسود، عمامةً سوداء، قد لفّ وشاحاً أخضر حول رقبته، يستخدمه للتأثير الدراميّ أثناء الخطبّة. صوته أجشّ تقريباً، لكثرة مجالسه في اليوم الواحد خلال الأيام الثمانيّة التي مرّت! لكنّه ما أن بدأ حتى أشعل المأتم، داخله وخارجه ووصل صوته للذين خلف النوافذ المغلقة. أصغيتُ لما يقوله، متمكن، يمتلك مهارة تأثير مسرحيّة لمؤلف تراجيدي، فكتوري".
لم يكتب بلجريف عن عاشوراء البحرين وحماستها فحسب، بل رسمها أيضا، ونشر لها مجموعة من الصور التي التقطها بنفسه.
"وفجأة دون أدنى إشارة نهض الرجال واقفين، ضجّ المأتم، تنحى المسنون منهم إلى الأروقة والممرات، صار الشباب ينزعون ثيابهم، لفوها حول خصورهم بحزم وحماس. الأصدر عارية وكذا الأذرع. شُكّلت حلقة من الأجساد في وسط المأتم، داخلها دائرة، في وسطها دائرة أخرى منهم، كلّ حلقة تدور ببطء شديد، مدروس. يد كلّ واحد على خصر جاره بينما ترتفع اليد الأخرى وتهوي بقوة على الصدور، يرددون، في صوت واحد: يا حسين، يختمونها بلطم شديد على الصدر. وقفت بجانب الباب أنظر للمشهد القاسي. يا له من موضوع لو قدر عليه فنان! حاولت رسمه عدّة مرّات لكنّي أحتاج لمهارة الفنان غوستاڤ دوريه، ينصف هذا اللمعان في الأجساد العارية، الأضواء الصفراء الخافتة، وتلك الأقواس القاتمة في الخلفيّة، والشكل الكئيب للخطيب، جالساً على المنبر، منغمساً في مشهد الرجال الذين أيقظ فيهم الحماس وملأهم بالإثارة."
لم يفوّت بلجريف مراسم عاشوراء على مدى 30 عاما، ولكن نجل الملك وممثّله ناصر بن حمد لا يحضر سوى الاحتفالات الدينية للطائفة الهندوسية!
ذات هذه المآتم وذات عاشوراء أنتجت انتفاضة هيئة الاتحاد الوطني التي طالبت بعزل المستشار بلجريف (1954-1956). حتى ذلك لم يمنعه من الاحتفاء بعاشوراء في سيرته!