موت المحرق: هكذا تستعيد نفسها «2»
2020-10-11 - 8:17 ص
مرآة البحرين (خاص): لا يمكن لزاعم الزعم اليوم بأن مدينة المحرق هي رافعة النضال المعاصر أو قاطرة المشروع الوطني أو مرجل الوحدة القومية المعاصرة أو واجهة التصدّي لأعباء الإصلاح الرّاهنة ودافعة أكلافه. إن جميع مساهماتها على هذا المستوى أصبحت أرشيفاً.
تبدو المحرّق اليوم في وادٍ آخر تماماً من الانشغالات. وادٍ تغلب عليه هموم المعاش اليومي والمنافع الآنية والتقوقع على الذات.
واحد من أهمّ الدروس المستخلصة من التحركات الشعبية خلال النصف الأول من القرن العشرين الماضي التي انخرطت فيها المدينة بقوة قبل أن تُجَرّف وتصير إلى ما صارت إليه اليوم، هو أنّ فعّالية المدينة ولحظتها الملهمة المشرقة كانت تتبدّى بمقدار الجسور التي تقوم بمدها مع الضفة الأخرى؛ أي المنامة وضواحيها لا عبر عزلتها الخاصة. بمعنى آخر إن الخروج على الذات المتمركزة والاتصال ثقافيا وسياسيا بمختلف أوجه النشاط الإنساني في بقية أرخبيل البحرين هو الذي كان يصنع التاريخ الغني للمدينة.
فإضراب المدارس 1930 الذي جاء عقب قيام الإنجليز بطرد الشيخ حافظ وهبة مدير مدرسة الهداية الخليفية المعروف بمواقفه المعادية لهم وتعيين مدير عام جديد للمعارف جاء ليجمع كلاً من "طلبة المدارس والمعلّمين في المنامة والمحرق" على السواء، كما تخبرنا الوثائق البريطانية. وتخبرنا أيضاً عن كيف أن منشورات حركة 1938 التي تعد بمثابة أول حركة شبه منظمة في البحرين "كانت توزع في كل من المنامة والمحرق".
وجاءت هيئة الاتحاد الوطني 54 - 1956 لتشكل تتويجاً لكل جهود وصل المدينتين وتيّارهما العام ببعضهما. فالمناوشات الطائفية التي بدأت بالتسخين بين متعصبين من المحرق ومثلهم في المنامة ثم تدحرجت وصولاً إلى ما عرف بـ"فتنة محرم" انتهت إلى قيام "كتلة تاريخية" من السنة والشيعة رفعت مطالب موحدة إلى الحاكم.
وهكذا جاءت انتفاضة 1965 ردا على قرار شركة نفط البحرين تسريح 500 عامل من الشركة لتستنهض الإضرابات والتظاهرات من المحرق إلى المنامة وصولاً حتى الدراز. يخبرنا عبدالله المطيويع في مذكراته عن حادثة ذات دلالة حول هذه الانتفاضة "لقد أخذت أحمد الشملان الى المحرق ولم يعد لبيته في أم الحصم إلا العام 1967 بعد إطلاق سراحه".
بوسعنا ذكر المزيد من الأمثلة. لكن ما سلف كاف للبرهنة على أن لحظات الغنى في تاريخ المحرّق قد تشكلت من خلال حواريتها مع الضفة الأخرى المقابلة وبحثها عن مشتركات معها. أي من عبورها جسر المحرّق إلى أفياء المنامة وضواحيها مع ما تمثله المدينتان من ثقل واختلاف ثقافي ونسيج طائفي مركّب.
لقد بدأ الشيخ عبداللطيف المحمود اشتباكه مع الشأن العام من خلال تبني هذا اللون من المقاربة عبر مساهمته في لجنة العريضة الشعبية 92 - 1994 التي جمعت فرقاء من أطياف مختلفة. وكذلك عبر نسج علاقة مع عدد من شيوخ الشيعة كالشيخ عبدالأمير الجمري. وقد تمكن بذلك من فتح ثغرة في الجدار الطائفي فصار اسمه يردد في شيلات العزاء والمواكب الحسينية مثل تلك التي أنشدها فاضل البلادي "ما ضرّكَ لو قال السنّي/ عُمَرٌ من بعد أبي بكرِ؟/ بالإسلام وبالقومية/ المحمودُ شقيق الجمري".
وقد تدخلت السلطات لوضع حدود لتطور هذه العلاقة مع ما تمثله من قيمة رمزية كبيرة. أبرز محطات هذا التدخل كانت في تصدي وزارة الداخلية لمنع ندوة "مسجد الخواجة" في المنامة العام 1993 في مناسبة أسبوع الوحدة الإسلامية التي كان من المقرر أن ينتدي فيها كل من المحمود والجمري معاً.
باستثناء جهود نخب اليسار والقوميين المحرقية فقد مثلت بادرة المحمود المحاولة الأولى والأخيرة (منذ 1965) لوصل جزيرة المحرق وشارعها بامتدادها الوطني الطبيعي في المنامة وتبني مطالب مشتركة ذات هم عام.
غير أن المحمود سرعان ما وجد له عذرا لكي يتراجع عن هذا النهج وعاد إلى قوقعته. وقد قاد الشيخ عبدالأمير الجمري خطوة في الاتجاه المعاكس عند زيارته جمعية الإصلاح في المحرق 2001، وهي الزيارة التي لم يتم البناء عليها. إذ سرعان ما وجدت الجمعية مع التيار الذي تمثله «إخوان» عذرها هي الأخرى لكي تفرمل هذه الاندفاعة نحو الضفة الأخرى. أما التيار السلفي فإن هذا آخر همه.
قاد المحمود تجمع الوحدة الوطنية 2011 رافعاً شعار "لنا مطالب" ومبشراً بكيان جديد يتجاوز التشكيلات الطائفية القائمة وسلبيات التيارين السنيين الرئيسين في المدينة، السلف والإخوان. وراح يحدثنا بتفاؤل عن ضم اليهود والمسيح والبهائية والسيخ الهنود. لكن رداً على اتفاقية السلام البحريني - الإسرائيلي فقد اختار لتنظيمه الخروج بمعية التنظيمين السنيين الرئيسين وجمعية سنية رابعة ليست ذات أهمية دون سواهم ببيان هزيل عبارة عن وصلة مدحية بائسة حول "الموقف المبدئي والمستمر لقيادتنا السياسية المؤيد للقضية الفلسطينية وقضية الأقصى الشريف". وقد قدم ذلك على المشاركة في بيان آخر كان يضم إليه كافة مؤسسات المجتمع المدني البحريني وقواه الحيّة. أي أنه اختار أن يكون "سنيا" فقط وليس سنيا مع إضافات أخرى.
أضحت المحرّق أسيرة "غيتو" المحرّق مرة أخرى. فحتى المحاولات النادرة اليائسة لإخراجها من عزلتها ووصلها بالمجال العام انطلاقاً من قضايا يمكن تأليف إجماع عام حولها مثل رمزية القضية الفلسطينية كانت تعود القهقرى نحو المزيد من العزلة. إن ذلك يعطي فكرة عن الصعوبات التي يمكن مواجهتها عند التفكير في خلق إجماعات حول قضايا خلافية كالإصلاحات السياسية ونوعها؛ خاصة في ظل هيمنة النخب الحالية على المدينة.
نشأ "ائتلاف شباب الفاتح" كانفلاق شبابي في المعمار الداخلي لتجمع الوحدة الوطنية. وقد طرح وثيقة مثلت رؤيته للإصلاح السياسي التي هي شبيهة بالتنظيم الذي انسلخ عنه مع بعض التحديثات الطفيفة لكن بقي "الكعب الأخيل" هو هو. أي الخروج من المتاريس وعبور جسر المحرّق إلى اليابسة التي تقع وراءه. يتحدث شباب من التيار الديمقراطي بمرارة عن محاولات قادوها خلال الأعوام 2013 - 2014 لجمع أطراف من الائتلاف الشبابي الوليد مع نظرائهم من قرى ومدن الشيعة في مجالس عادية حتى من دون التطرق إلى الشأن السياسي. وهي المحاولات التي قوبل جميعها بجدار من الرفض.
تعطينا الشواهد المذكورة فكرة عن حجم ردّة النخب المحرّقية الجديدة على مزاج مدينتهم الخمسيني والستيني والسبعيني. وهي الردة التي حولت شخصية المدينة من شخصية عمومية اتصالية مضارعة تنبض بالحياة والرفض إلى شخصية "مضمحلّة" وخانعة رأسمالها الوحيد المتبقي هو تاريخها. لا عجب والحال هذا أن تعجز "بور سعيد البحرينية" عن تأمين رافعة حقيقية إلى أحد أهمّ رجالاتها بل أهم رجالات التاريخ الوطني المعاصر للبحرين وهو المرحوم المناضل عبدالرحمن النعيمي في انتخابات 2006. إن استعادة مشهد إسقاطه وحده أمام المترشح السلفي عيسى أبو الفتح يشي بالكثير حول ما آلت له طبائع الأحوال في المدينة العروبية التي خرجت ذات يوم لتحية عبدالناصر! خرجت لتحية عبدالناصر لكنها أسقطت عبدالرحمن النعيمي! يا لها من مفارقة!
وفيما تفتخر النخب المحرقية الشابة بزعامات هيئة الاتحاد الوطني التي كانت تجوب قرى ومدن البحرين وتعقد اجتماعاتها في مسجد "العيد" بالبلاد القديم و"حسينية الحاج أحمد بن خميس" في السنابس، وتستدمجها في ذاكرتها، فإنها في المقابل تضع حجابا سميكاً بينها وبين جمعية "وعد" لأن لديها ائتلافا مع الشيعة. يا لها من مفارقة أخرى!
يروي المؤرخ مبارك الخاطر في تأريخه لسيرة ناصر الخيري، وهو من مواليد فريق الفاضل في المنامة وأحد أبرز أوجه الطبقة المثقفة البحرينية في عشرينات القرن الماضي، مسألة لافتة حول مساهمة الأخير في النادي الأدبي بالمحرق. "كان لبنة من لبناته، يؤيده ويدافع عنه؛ حتى أنه كان يبيت الليلة والليلتين في المحرق بسببه". تكشف لنا هذه المسألة عن كيمياء العلاقة بين الضفتين والتي لا يمكن فهمها إلا عند وضعها في سياق تلك الفترة وما تتطلبه مساهمة مثل هذه من مشقة عبور البحر.
في مقابل ذلك فإن لدى المدينة أربعة جسور معلقة الآن تربطها مع المنامة. مع ذلك فهي اليوم أكثر بعداً عنها وعن مزاجها العام مما كانت عليه قبل قرن. وتلك هي أم المفارقات!
هناك طريق واحد كي تستأنف مدينة المحرق فعّاليتها التاريخيّة التي وشمت وجهها المشرق الفريد وما تفاخر به اليوم. لابد لها من عبور الجسور الأربعة واستئناف الفعّالية داخل ورشة أكبر. الورشة العمومية.