قصة طبيب شاب: إلى أين ينتهي بنا هذا الدهليز؟

عوضا عن أن تحتفي السلطة  بالأطباء المتخرجين فإنها تقول لهم: لا طاقة لي لاستيعابكم
عوضا عن أن تحتفي السلطة بالأطباء المتخرجين فإنها تقول لهم: لا طاقة لي لاستيعابكم

2021-02-28 - 12:42 م

مرآة البحرين (خاص): الحديث عن وأد الأحلام لا يحتاج إلى مقدمات، أنت في البحرين، جزيرة الناس الطيبين المتعلّمين، التي صار بنوها وبناتها يولولون كل عام على مجزرة جديدة من "مجازر البعثات".
لقد شرح تقرير سابق بعنوان "كيف يقتل النظام طموح آلاف الطلبة في البحرين منذ العام 2006 حتى الآن"، كيفية صناعة دهليز ملتوٍ لا يؤدي إلى شيء تم صنعه لتحطيم الطلبة الراغبين في الدراسة الجامعية وتأخير تحقيق أحلامهم، وفي هذا التقرير نكشف ماذا يحدث للمحظوظين من هؤلاء المتفوقين، ممن استطاعوا الهروب بطموحهم نحو كليات الطب، وكيف تمت صناعة دهليز معقّد يدخلهم في رحلة طويلة تمتد لسنوات، تتحول فيها طموحاتهم وأحلامهم إلى مجرد سراب.

المرحلة الطبيعية: من الخرّيج إلى الاستشاري

لنفهم معاناة خريجي الطب، علينا أولاً أن نتعرف على رحلة الطبيب منذ يوم تخرجه حتى يصل إلى مستوى أن يكون طبيبا استشارياً ذا تخصص محدد، يستوجب شهادات مهنية خاصة، لا شهادات نظرية مثل الماجستير والدكتوراه.
يبدأ المشوار بدراسة تستمر لست سنوات يحصل فيها الطبيب على درجته العلمية في الطب البشري (بكالوريوس طب). لكن هذه الدرجة لا تخوله لممارسة المهنة مباشرة دون إشراف.
ولكي يتمكن من ذلك، عليه أن يمر عبر فترة تدريبية من 12 شهرا تعرف بـ "سنة الامتياز". خلال هذه السنة يتنقل الخريج بين تخصصات الطب الرئيسية، ثم يخضع في نهايتها إلى امتحان شامل لكل ما تلقاه من معلومات خلال سنوات دراسته الست. فإن اجتازه، حصل على رخصة مزاولة المهنة.
بعد ذلك، يقضي الطبيب سنوات من التدريب في أحد التخصصات الطبية، يسمى حينئذ "طبيب مقيم"، ويطلق على هذه السنوات التي تتراوح بين ( 4 - 7 حسب الاختصاص) اسم الإقامة الطبية (الريسدنسي). تختم هذه الفترة بامتحان من المجلس المنظم للمهنة (يسمى بالإنجليزية البورد)، في حالة البحرين، تمنح شهادة هذا الامتحان من المجلس العربي للاختصاصات الصحية.
تقر شهادة المجلس بأن الطبيب قضى فترات العمل والتدريب المطلوبة لاختصاصه، وإنه ملم به تماماً. وتمكنه من المضي في دراسة تخصص فرعي ينبثق من تخصصه الرئيسي. تسمى هذه المرحلة الثالثة مرحلة الزمالة، وبإتمامها يكون الطبيب "استشارياً".
إنها رحلة طويلة ومرهقة، لكنها واضحة: امتياز، فإقامة، فزمالة، مراحل يمر عبرها الأطباء في جميع أصقاع العالم، لكي يكونوا استشاريين في اختصاصاتهم. ولكن رحلة خريج الطب في البحرين ذات شكل مختلف.

بداية الدهليز: فصل التدريب عن التوظيف

قديماً، كان الأطباء البحرينيون يشتكون بأن الاختصاصات لا توزع بعدل على الأطباء الذين يتم توظيفهم فور إتمام سنة الامتياز، إذ إن بعض التخصصات المرغوبة كانت ترفع عن القائمة وتمنح لأهل الواسطة.
بعد العام 2014 صارت الشكوى من هذا الأمر ترفاً، حيث بدأ فصل تدريب الأطباء حديثي التخرج عن التوظيف. بمعزل عن التبريرات التي ساقتها وزارة الصحة التي أصبحت بيد ضابطة سابقة في الجيش (عائشة مبارك بوعنق)، فإنّ حقيقة ما حصل هو أن الحكومة امتنعت عن توظيف الأطباء (الشيعة) رسميا خلال سنوات عملهم الأولى (الإقامة الطبية) وأحالت مسؤولية دفع رواتبهم إلى صندوق العمل (تمكين).
إثر هذا الفصل، تم حرمان كل طبيب شاب من المساهمة في برنامج التقاعد، وكذلك من أجر ساعات العمل الإضافي التي تبلغ (90 - 150 ساعة في الشهر). كما أن توظيفه بعد إكمال التدريب واجتياز امتحان البورد ليس مضمونا بل خاضعا "للحاجة"، ولمعايير التمييز الطائفي التي تطبع عملية التوظيف في الأجهزة الرسمية.

دهليز أضيق: التدريب ليس للجميع

في العام (2014) تم قبول جميع الخريجين وفق البرنامج الجديد، لكن في العام التالي (2015) لم يتم فتح باب التسجيل أصلاً ولم يقبل أحد، في العام الذي يليه قبلت مجموعة وتركت مجموعة أخرى، وبعد ذلك صارت الواسطة التي كانت فيما مضى شرطاً للحصول على الاختصاص المرغوب، شرطاً جديدا للحصول على التدريب كطبيب مقيم من الأساس.
يتم فتح باب التسجيل في شهر أبريل من كل عام دون الإعلان عن الأعداد المطلوبة لكل تخصص، يتقدم الراغبون بالتسجيل بأوراقهم مشفوعة بشهادة حسن سيرة وسلوك حديثة تصدر من وزارة الداخلية، وتقام له مقابلة شخصية مليئة بأسئلة سمجة من قبيل "لماذا لم تتطوع في فريق البحرين". يُقبَل من يُقبَل، ويهمل البقية دون حتى أن يكترث أحد بإخبارهم وإعلامهم بأنه لم يتم قبولهم.


بدعة ماجستير طب العائلة

للتخلص من كومة الأطباء الذين ينتظرون دورهم في التدريب، ابتدع مؤخرا المجلس الأعلى للصحة بالتعاون مع جامعة الخليج وصندوق تمكين برنامجاً جديداً أسموه ماجستير طب العائلة، هذا البرنامج الذي لا يعترف به أحد سوى هؤلاء الثلاثة يحيلك طبيباً للعائلة بعد سنتين فقط.
هل رأيت لماذا اصطحبناك في رحلة الطبيب الطويلة والمعقدة؟ لكي تضحك معنا على هذه النكتة. يريدون اختزال سنوات الإقامة، وشهادة "البورد" وسنوات الزمالة في سنتين وورقة ماجستير لا تعني لبقية العالم شيئا.
هذا البرنامج طريق مسدود، يحرفك عن المسار المتعارف عليه في مهنة الطلب، وما إن تنهيه تفقد الفرصة في أن تكون طبيبا استشارياً إلى الأبد.
مع ذلك قام 140 طبيباً ممن ضاقت بهم السبل بطلب الانضمام إليه، سيتم قبول أربعين واحدا منهم فقط، ومن هؤلاء الأربعين سيتم توظيف من تقتضيهم "الحاجة".

ولا حتى امتياز

لحظة واحدة، فالتضييق على الأطباء لم ينته بعد، فبعد فصل تدريبهم عن التوظيف، ومن ثم حرمانهم حتى من التدريب (الإقامة الطبية)، تم حرمان جميع الأطباء الذين درسوا خارج البحرين من سنة الامتياز والحصول على ترخيص مزاولة المهنة بذريعة عدم وجود طاقة استيعابية.
وهكذا، من نجا بنفسه من بطش وزارة التربية والتعليم، وفعل المستحيل ليدرس الطب رغم التمييز في توزيع البعثات، وغلق الأبواب عبر سحب الاعتراف عن عدد من الجامعات التي يسافر لها المتفوقون الفقراء، يجد نفسه الآن عرضة لبطش جديد من وزارة الصحة، التي تحاول أن تكمل ما عجزت وزارة التربية والتعليم عن فعله.
هكذا عوضا عن أن تحتفي السلطة بهؤلاء الأطباء الذين جدوا واجتهدوا طوال ست سنين، فإنها تقول لهم: لا طاقة لي لاستيعابكم. لأن الطاقة الاستيعابية لأي شيء في هذا البلد موجودة بحسب معايير سياسية طائفية لدى السلطة، ولم تعد تستثني الأطباء من ذلك.
من ليس لديه واسطة من هؤلاء الخريجين قام ببلّ شهادته وشرب ماءها، ومن يقتدر ذهب يطرق أبواب المستشفيات في الدول العربية، ليعرض عليهم المال مقابل تدريبه أملا في الحصول على البورد وبعدها الطريق نحو درجة الاستشارية.