يوم قتلت المحكمة الفتى الشهيد «علي نعمة»!

2012-10-01 - 10:05 ص


مرآة البحرين (خاص): خلال فترة الطوارئ، وفي غرفة الانتظار بمبنى القضاء العسكري في الرفاع، اجتمع ذات مرة مجموعة من كبار المحامين في البحرين، في انتظار بدء المحاكمات، وبشكل ساخر، نظر أحد المحامين إلى الموجودين في القاعة وخارجها وقال: هل تلاحظون أمرا ما؟ كل من في المحكمة من المحامين والمتهمين وعوائلهم هم من طائفة معينة، وكل الشرطة والقضاة من طائفة أخرى؟ 

في الوقت الذي كان الناس في البحرين يتعرضون فيه إلى أبشع أنواع الانتهاكات، حتى باتوا لا يأمنون على أنفسهم وهم في بيوتهم، كانت المحاكم العسكرية تعمل على قدم وساق، في جر آلاف المعتقلين السياسيين الذين لا يمكن أن يكون أحد منهم لم يتعرض إلى التعذيب.

هكذا بدت الصورة على الأرض، فترة قانون الطوارئ: جرائم وانتهاكات في كل مكان، في الشارع، في البيت، في السجن، في المستشفى، وحتى في مكان العمل، وفي المقابل: محاكمات، ولكن ليس لمرتكبي هذه الجرائم، بل لنفس الأشخاص الذين يتعرضون لها!

تخيّل أن شابا يضرب جهارا نهارا في الشارع ويداس على صدره بعد أن ينزل من سيارته عند نقطة تفتيش دون أي سبب، سوى الانتقام منه لأنه من طائفة معينة محسوبة على المعارضة، وبعد كل ذلك، وفي سياق مجنون، يحال إلى المحكمة العسكرية بتهمة "الشروع في قتل رجال الأمن"!!

خطاب تاريخي

في أول فترة قانون الطوارئ، رفع مجموعة من المحامين خطابا تاريخيا إلى "النائب العام" لإلقاء الحجة على "النيابة العامة" التي يفترض أن تكون مؤسسة قضائية مستقلة، حتى لا تكون "شريكا في الإجراءات التعسفية وغير القانونية" كما ورد في الخطاب.

كان الخطاب يطالب النائب العام بتحمل مسئولية سلطته في الإشراف على السجون، لحفظ حقوق المعتقلين، والكشف عن مصيرهم، وفك احتجازهم الذي كان خارج القانون بكل تفاصيله، وتقديم من قام باحتجازهم للمحاكمة، مسميا ما حصل بأنه انتقال إلى "دولة بوليسية".

وأكد الخطاب على عدم وجود مناص من تطبيق نصوص القانون، مما يستوجب أن تبسط النيابة العامة يدها عليه لتوقفه حماية للحقوق والحريات التي تعتبر النيابة العامة أحد حصونها. 

آلية مستقلة

بعد تقرير لجنة تقصي الحقائق، اتضحت معالم هذه الصورة، وكمّ الانتهاكات على مستوى نصوص القانون، وأعمال القضاء، وسلوك أجهزة الأمن والجيش، مقابل ما أسماه البروفيسور بسيوني "انتشار ثقافة الإفلات من العقاب".

ولأن من يرى هذه الصورة لا يمكن أن يثق بعدالة واستقلالية القضاء والنيابة العامة، أو إمكانية إصلاحها، فقد قال بسيوني، إن مساءلة ومحاسبة المسئولين الحكوميين الذين ارتكبوا هذه الأعمال، بمن فيهم ذوي المناصب القيادية، مدنيين وعسكريين، تتطلب "آلية مستقلة" (فقرة رقم 1716)

هذه التوصية، كشقيقاتها، لم تعمل بها الحكومة. عوضا عن ذلك، حوّلت القضايا إلى "النيابة العامة" المؤسسة نفسها التي رفضت أن تتحمل مسئولية العدالة فترة قانون الطوارئ، وسمحت لكل من هب ودب، أن يعبث بحريات الناس وأمنهم وكرامتهم بل وآدميتهم، في السجن، في البيت، في العمل، وفي الشارع.

بعد النيابة العامة، تحولت قضايا هؤلاء القتلة والمجرمين، إلى القضاء "العادل والنزيه والمستقل".

النيابة العامة شريكة في الجريمة

 
3 قضايا قتل باستخدام "رصاص الشوزن الانشطاري"، من جملة القضايا التي حقق فيها تقرير بسيوني، قدمت إلى المحاكم المدنية، إثر قرار وزير الداخلية بإحالة القضايا التي من هذا النوع والمتهم فيها عسكريون إلى النيابة العامة، لا إلى العسكرية، باعتبارها جهة قضائية مستقلة ومحايدة. هذه القضايا تخص الشهداء عيسى عبد الحسن، علي المؤمن، وهاني عبد العزيز.

النيابة العامة، خلصت في تحقيقاتها على اتهام شخص واحد في كل قضية، واتهمتهم جميعا بالضرب المفضي إلى الموت، لا بالقتل العمد، مخالفة بشكل صريح النتائج التي توصل إليها السيد بسيوني ولجنته (فقرة 867 من التقرير)

وجدان المحكمة

وحين تحولت القضايا إلى المحكمة الجنائية، قررت تعديل الوصف والقيد في التهمة إلى "القتل العمد"، ما يعني، بحسب قانونيين، أنه قد ثبت يقينا لدى المحكمة من أوراق الدعوى أن أركان جريمة القتل العمد قد توافرت في الوقائع الثلاث.

في 27 سبمتبر/أيلول 2012 حكمت المحكمة على المتهم بقتل الشهيد "هاني عبد العزيز" بالسجن 7 سنوات، بعد أن عدّلت الوصف والقيد في تهمته مجددا إلى "الضرب المفضي إلى الموت"! 

يصف قانونيون ما قامت به المحكمة في حالة عبد العزيز بالسابقة الغريبة وبالأمر الخارج عن المنطق السليم، وما جرى عليه العمل في المحاكم، لماذا عدلت التهمة إذن؟ لماذا لم تقم بإصدار الحكم في الجلسة السابقة؟ كيف تعدل الآن مجددا وفي يوم النطق بالحكم عن تعديل الاتهام إلى القتل العمد؟ لماذا تخالف ما وصل إليه 5 من كبار القضاة الدوليين في أن ما حدث في هذه الحالة (11) وغيرها هو قتل عمد (فقرة 867 مجددا)

لا يمكن أن يفسر هذا التخبط، إلا أن يكون هناك من يأخذ القرار خارج أروقة المحكمة! هناك مؤثر خارجي قوي يزعزع عدالة المحكمة ويهز وجدانها أكثر من جريمة القتل البشعة التي ارتكبت في هؤلاء وغيرهم. هي لا تزال ليست صاحبة القرار على كل.

المتآمرون

في اليوم نفسه برأت المحكمة المتهمين بقتل عبد الحسن والمؤمن، لعدم كفاية الأدلة، في أنهما القاتلان! لم تعدل المحكمة عن تعديلها التهمة في هاتين الواقعتين إلى القتل العمد لعدم الحاجة إلى ذلك، كون الغرض قد تحقق، في إفلات المتهمين من العقاب.

في السياق ذاته، لن تقوم النيابة العامة، التي ادّعت سابقا أن الواقعة ليست إلا قتلا خطئا، باستئناف الحكم، أو بإجراء تحقيق جدي لجلب القتلة الحقيقيين، وتقديمهم إلى القضاء.

أما وزارة الداخلية، فبدلا من أن تحدد القتلة، وتجلب شهودا لإثبات التهمة عليهم على اعتبار أنها من حددتهم، جلبت شهودا لتبرئتهم، كان من بينهم الضباط الذين أعطوا الأوامر بإطلاق النار، رغم أنهم كان يجب أن يكونوا ضمن المتهمين، باعتبارهم شركاء في جريمة القتل، حسبما أقر به تقرير بسيوني.

الداخلية هي المسئولة الأولى عن تحديد المتهم الذي قام بالقتل، في قضية عبد العزيز قال بسيوني إن الداخلية حددت القاتل، ولذلك، لم يكن هناك مجال لتبرئته، لكن الأمر استقر على تخفيض التهمة عنه مجددا، على يد المحكمة، وبشكل درامي!

تستطيع الداخلية بسهولة أن تعرف من هو القاتل، فهي كما أقر الضباط الشهود، تعرف من يحمل سلاح الشوزن بالتحديد، ومن هي الفرقة التي تعاملت مع المجني عليهم، لكنها لم تفعل، ولا تفعل، ولن تفعل!

يبدو التآمر والتنسيق مفضوحا بين المحكمة الجنائية، النيابة العامة، ووزارة الداخلية، في هذه القضايا، كما يبدو مفضوحا في القضايا الأخرى التي يدان فيها المتهمون بأسهل ما يمكن، دون دليل سوى الاعترافات المنزوعة تحت التعذيب، وتوقع عليهم أقصى العقوبات، حين يكونون من المحسوبين على المعارضة.

منذ عهد "خالد بن علي" وحتى اليوم

 
لم تأت هذه الأحكام بجديد على الحالة البحرينية التي فصلها بوضوح تقرير بسيوني، فمنذ عهد خالد بن علي آل خليفة (عزل عام 1923) وهو جد أب وزير العدل الحالي وحاكم سترة الذي طالبت الحكومة البريطانية بالقبض عليه ومحاكمته شخصيا على ما قام به من جرائم وانتهاكات، منذ ذلك العهد وحتى اليوم، والمجرمون مفلتون من أي عقاب، على اختلاف درجاتهم!

حين يكون الإعدام خارج القانون، بالنهج ذاته، في الدوار، وفي الشارع، وفي السجن، فإن تقرير بسيوني لا بد أن يخلص إلى "فشل القيادات العليا في منع الاستخدام المفرط للقوة من خلال القيادة الفعالة والرقابة على مرؤوسيهم في هذا العمل الميداني" كما جاء في الفقرة 889.

تطبيق توصيات بسيوني في محاسبة هؤلاء، كانت بترقية عدد كبير منهم، وإقامة حفلات التكريم لهم، وتوزيع النياشين والأوسمة عليهم!

قتل مخطط

بعد محاكمات يوم الخميس الماضي، كان من السهل فهم ما سيجري في اليوم الذي يليه. كان يوما مأساويا شهد تصعيدا غير مسبوق في استخدام رصاص الشوزن الانشطاري (الذي قتل أكثر من 14 شهيدا وفقد أكثر من 80 أشخص أعينهم بسببه، بينما لا زال المئات يعيشون ببقايا الشظايا في أجسامهم منذ أكثر من عام)

لا يمكن أن تفهم هذه الجرأة والهمجية إلا في هذا السياق، لقد تأكد أفراد الشرطة والمرتزقة من أنهم لن ينالوا أي عقاب حتما، مهما فعلوا، لذا عليهم أن يواصلوا تنفيذ أوامر القيادات العليا، بالقتل ما وسع السلاح! يحق لهم الآن تماما أن تأخذهم العزة بالإثم.

لقد كان من الواضح أن التصعيد منظم ومعترف به، والقتل منظم ومعترف به ومخطط له، بحسب بيان الداخلية، يدعم ذلك ما جاء في نفس الليلة في برنامج قناة العربية وتلفزيون البحرين، كلها تقول أن هناك مزيد من القتل قادم.

المحكمة محل الاتهام

إنه تحول خطير، لا يقف خلفه هذه المرة الجيش والداخلية وأجهزة الأمن، جنودا وقيادات، بل تقف خلفه مباشرة مؤسسات القضاء "المستقل والنزيه": النيابة العامة، والمحاكم المدنية! لقد كانت نتيجة هذا التحول سريعة جدا، أسرع مما يمكن تصوره، لقد خطفت أجهزة القضاء العادل بأحكامها روح فتى آخر، من فتيان هذه الثورة، عن 17 ربيعا.

سواء كشفت هوية قاتل الشهيد أم لم تكشف لم يعد ذلك يؤثر في شيء، فشهادة الوفاة هذه المرة اعترفت صراحة أنه أصيب من الظهر! لن يكون هذا دليل إدانة أبدا، إنه دليل إصرار على القتل، تبجح فيه، واعتزاز به، هو رسالة تقول: سنقتل كل من يخرج منكم، سواء كان فارا أم مواجها، وستبرأنا المحكمة!

حين تقول الداخلية، بأن ذلك، تعامل مبرر ضمن القانون، فنحن لا نحتاج هنا أفقه منها في فهم القانون، فلا النيابة العامة، ولا القضاء سيخالفانها هذا الفهم القانوني. الداخلية هذه المرة لن تحقق في مقتل الشهيد، ولن تقدم أي متهم للقضاء، ولا إلى لجنة تحقيق، بل ستبحث عن الذين كانوا معه لتقتلهم، لأنهم كانوا يحملون قنابل مولوتوف، هكذا قال بيان الداخلية

القوانين التي يشرف على تطبيقها والحكم على أساسها قضاء تابع إلى الديكتاتور الحاكم وقبيلته، لا يمكن أبدا أن يحفظ روح الفتى علي نعمة، فدمه أرخص بكثير من كرسي الملك لدى هذا القضاء "النزيه"، لذلك فالمتهم الوحيد اليوم في دم الشهيد نعمة هو محاكم القضاء ومن عيّنها!

في ظل هذا النظام، لم يعد يمكن تفسير القضية والحكم فيها بالقانون، هي لا تخضع إلا إلى قواعد الحرب، التي لا تفرق بين الكار والفار، المسلح أو منزوع السلاح، وربما لا تسعها هي أيضا هذه البشاعة!


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus