برويز ونبيل من التشييع إلى التشجيع

2012-10-05 - 10:25 ص


مرآة البحرين (خاص): كان الساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحا حينما فتح باب الزنزانة. كان محمد جواد المشهور (ببرويز) حينها يقرأ القرآن بينما كان رفاق الزنزانة في هدأة النوم. التفت إليه الحارس: البس ثوبك، الإدارة تبيك (تُريدك). أخبره الضابط: أن أخته أم نبيل رجب قد توفت وسيتم استدعاء نبيل رجب من زنزانته الآن حتى يقوم برويز بمؤازرته، كما تقرر السماح لهما بحضور مراسم العزاء. 

تسمّر برويز في مكانه، استرجع تاريخا حميما يجمعهما، وهو لم يراها منذ أكثر من عام ونصف، هي بالذات يكنّ لها مشاعر خاصة وتبادله المشاعر ذاتها. حين دخل نبيل رجب تفاجأ بوجود خاله برويز،  الخطابات لم تفلح يوما في لقائهما بنفس المكان الذي يقبعان فيه. أخبره الضابط بوفاة أمه، لم يتمالك نبيل رجب نفسه فبكي بشدة. قدره أن يكون بعيدا حين تصعد روح والديه إلى السماء. في المرة الأولى كان مُنهمكًا بتوثيق الانتهاكات التى رافقت استشهاد فاضل المتروك العام الماضي، حين جاءه خبر وفاة والده، أما الآن فالموقف أصعب، فهو لم يرَ والدته منذ سجنه. وحالتها الصحية لم تسمح لها بزيارته. 

طلب برويز من إدارة السجن السماح له بالعودة للزنزانة لإخبار زملائه، رفضت إدارة السجن ذلك. كان قلقا خلال مراسم التشييع على رُفقاء دربه الرموز حين يستيقظون من النوم فلا يجدونه كما حدث في المرة السابقة حين أثاروا ضجة عندما افتقدوا وجوده أثناء غيابه للعلاج.

تسلم الأهل نبيل رجب و برويز مخترقين الأرض للوصول إلى بيته في بني جمرة.غرفة أمه كانت جهته، ظل هناك يسامر طيفها، مسامرة الغائب للغائب والتفات البعيد إلى البعيد، كان مبتلا بالدموع وحمرة وجهه تحاكي حال خجله "وأخجل من دمع أمي" زاد منها حينما أخبروه أنها كانت تنادي باسمه كثيرا في أيامها الأخيرة، اليافطات الكبيرة التي تنادي بحريته لا زالت معلقة في البيت وقد ساعد ذلك على حضوره الدائم في ذهن والدته. 

كانت أصعب اللحظات وأفجعها ضمة نبيل لجسد أمه الذي كان يحن له وعليه، ضمه بقوة الفاقد وتحدث معه بمناجاة الكسير. توسّد جنبها سريرها الأبدي وراح في لجة حزن أبكت الجميع. منذ هذه اللحظة، صارت كل أمهات الثورة أمه، صار دعاء الأمهات يلهج بلسان أمه الذي لم يفتر يوماً عن الدعاء له، وهو يخطو وسط الموت ساحات البحرين وبلداتها وقراها المستباحة، مواسياً ومعزياً ومقرراً وملهماً.

في الجنبة الأخرى. كانت عائلته الصغيرة  في جنيف حاضرة حفل تكريم جائزة "مارتن إينالز" للمدافعين عن حقوق الإنسان. لم يكن هناك وقت للحزن العام، سرعان ما دفن نبيل حزنه الخاص حيث تقبع أمه في أعماق قلبه، عاد إلى القضية الكبرى سريعا، الحلم بسيادة القانون والانتصار للشعب، عاد الى ليكون ملهما. حول الحالة العاطفية سريعاً إلى حالة ثورية، تلا على مسامع الناس حقوقهم وبالأخص حقهم الأصيل في التعبير والتظاهر السلمي بالعاصمة المنامة.

   
كانت شبكات التواصل الاجتماعي تحفز الناس التي كانت مهيأة ليكون التشييع يليق بالملهمين برويز ونبيل، وتثبت لهما بأنها مازالت على الوعد، وهو ما أدهش برويز الغائب في السجن منذ ما سُمي بفترة السلامة الوطنية، رؤية هذا الزخم الكبير، ولولا ما يُعانيه من تداعيات تعذيبه وبالأخص من دوار في الرأس وضعف جسدي لتصدر موكب التشييع بالهتافات الملهمة كعادته دومًا.  كان على كرسيه المتحرك، ارتفع ثوبه قليلا مُبينًا أثر المثقاب الكهربائي(الدريل) وآثار السحل في رجله اليمنى كانت واضحة.

تحوّل التشييع لمسيرة "مُخطر عنها" تحولت المقبرة منبراً للقاءات الصحفية ومكاناً لبث عشرات الفيديوات، إنها فرصة لن يفوتها نبيل رجب ولا حتى برويز في التأكيد على المطالب، كان برويز يؤكد: لا تتركوا الشوارع. وكان نبيل وهو يمشي في التشييع يلتفت للناس موصيا: لا سبيل للتراجع، إن ضاعت الفرصة فلن تعوض. هو نبيل نفسه لا تغيرة المحنة، كما وصفه أحدى قيادي المنظمة الدولية الفيدرالية "من أشجع الحقوقيين الذين عرفهم التاريخ – إن لم يكن أشجعهم على الإطلاق". 

وجدت وزارة الداخلية وملحقاتها في النيابة العامة، أن نبيل وبرويز تجاوزا المسموح، فانتقمت بمنعهما من الإفراج المؤقت لحضور ما تبقى من مراسم العزاء للأيام الثلاثة التالية كما في العرف. أحدهم همس لبرويز حين كان يهتف "ألا تخاف ؟!" قال هازئا: "من شنو (ماذا) من التعذيب!؟" ومتى كان التعذيب يمس من روح هذا الرجل الستيني الذي دخل السجن 26 مرة وكان يخرج منه في كل مرة أكثر إصرارا على المطالبة بالحقوق. لسنا ندري من يستمد من الآخر صلابة الموقف، نبيل أم برويز، لكن لا شك هناك سرّ يجمعها، إنه قلب أم نبيل.

ربما ستكون ليلة سعيدة للرموز في سجنهم، سيتحلقون حول برويز ليصف لهم الهمة العالية التي قضوا حياتهم في بثها للناس، سيسمعون في رواية برويز ما يؤكد أنها مازالت متقدة ساخنة، سينام برويز هانئا بأن هناك من يسطر ملاحم البطولة على الأرض وبأن الشارع مازال مصراً على أخذ جرعات دوائه المر، وسيسقي من كأس المرارة من يذيقه اليوم المنون.
    

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus