المُعذب والطبيب: لماذا يُعذبوننا؟

صافي نزار - 2012-12-10 - 11:49 ص


صافي نزار*

تابعتُ باهتمام بالغ قصص الاعتقال وتجارب التعذيب التي مُورست في سجون النظام على أفراد من مختلف قطاعات المجتمع ومن بينهم الكادر الطبي. كنت أقرأ أو أسمع تلك التجارب القاسية بقلب يعتصره الحزن، وبمشاعر يستفزها ذلك الكمّ الهائل من الكراهية والحقد الذي صبغ تلك الممارسات. أحسست بعمق الجراح التي حفرتها أدوات التعذيب في أجساد من جرى تعذيبهم فضلاً عن قلوبهم، وبقوة الألم الذي كابدته جوانحهم عندما وجدوا أنفسهم بلا ناصر ولا معين بين أيدٍ لا تعرف الرحمة، وبمهانة الإذلال التي تعمد المعذِّبون إلحاقها بكل من وقع تحت أيديهم.

لسبب ما اقتربت من تجربة الدكتور غسان ضيف وزوجته الدكتور زهراء السماك؛ وبطريقة ما عايشت تفاصيل تلك التجربة بكل مرارتها وما تخللها من لحظات الألم الذي مازجه الأمل حينًا واليأس أحيانًا كثيرة. حفزتني معايشة تلك التجربة لأن أبحث في أسرار "مهنة التعذيب" ـ إن جازت تسميتها بالمهنة ـ علّي أجد إجابة مقنعة على الهدف من تعمُّد إيقاع الأذى الجسدي والنفسي على آخرين بأسلوب مدروس وبكيفية ممنهجة؛ أوأن أحيط ببعض الجوانب النفسية والثقافية التي تميّز من تُوكل إليه مهمة التعذيب؛ كيف يتشابه مع بقية الناس؟ وكيف يختلف عنهم؟ هل هو من اختار هذه المهنة أم أنها هي التي اختارته؟ ثمّ، عندما يعود إلى بيته بعد انتهاء نوبته، هل يحتضن زوجته أو يقبل طفله؟ ماذا يرى في أحلامه؟ بم يخاطبه ضميره؟ بم يبرّر فعله؟

اكتشفت، وأنا في مسيرة البحث، أن "التعذيب" فعل له فلسفته، وله أهدافه ونظرياته وبحوثه العلمية، ومدارسه القديمة منها والحديثة، وله مصطلحاته التي تُعرف بها أساليبه المختلفة، كما أن له مناهجه التدريبية، وعلماؤه، ومستشاروه، والمصانع التي تنتج أدواته. إنه، باختصار، منظومة متكاملة وصناعة رائجة تستفيد منها كل الأنظمة الديكتاتورية والديمقراطية على حد سواء، وإن اختلفت فيما بينها في الدوافع والمبررات. تبين لي أن التعذيب "مهنة" لها كل ما يميّز غيرها من المهن من حرفية وتفانٍ وضبطٍ للمعايير وانضباط في السلوك.

حاولت من خلال مطالعاتي حول "مهنة التعذيب" أن أسقط قراءتي على التجارب التي قرأتها أو سمعت عنها في البحرين، فإذا بي أرى أن لدينا مؤسسة تتبع في ظاهرها جهة رسمية، ولكنها في واقع الأمر مؤسسة مستقلة بذاتها تحمل اسم "إدارة التحقيقات الجنائية" أو "CID" كما اشتهرت بين عامة الناس، ولهذه الإدارة أطرها وكوادرها؛ ولها أساليبها وثقافتها، والقوانين التي تحتمي وراءها؛ ينتمي إليها بعض الأفراد اختيارًا، فيسلمون لها قيادهم لتصنع منهم جلادين محترفين، يتبعونها فخرًا واعتزازًا، ويدافعون عن ممارساتها بقناعة راسخة وعقيدة ثابتة. 

المكوّن النفسي والثقافي في المهنة

تساءلتُ عن المكوّن النفسي لمن يختار الانتماء إلى هذه المؤسسة، ويرضى بأن توكل إليه مهمة التعذيب، أو تنفيذ "المهمات القذرة" بحسب مصطلحات المهنة، فوجدتُ أن عديدًا من التجارب الرصينة أجرتها جهات علمية معروفة في فترات متفرقة، وفي بلاد مختلفة، تقول إن من يمكنه أن ينفّذ "مهمة قذرة" ليس بالضرورة شخصًا غير سوّي، ساديًا أو منحرفًا أخلاقيًا، أو كان يعاني من طفولة شقية، أو ذا شخصية مضطربة، وإنما هو إنسان عادي له حياته الاجتماعية وعلاقاته الإنسانية مثل غيره من سائر الناس. ما يختلف هو أن أبرز مكوّن في شخصيته هو قناعتُه الراسخة بوجوب طاعة الأوامر التي تصدر إليه من أي جهة تمثل السلطة؛ إنه شخص مستعد نفسيًا لأن يتحوّل إلى "عبد مأمور". الأخطر من ذلك ما أثبتته تجارب أخرى أُجريت في جامعات معروفة على متطوعين من جنسيات متنوعة ومن فئات عمرية مختلفة، أن أي إنسان ذي سلوك عادي مسالم في حياته اليومية، يمكن أن يؤدي أي "مهمة قذرة" توكل إليه إذا وقع تحت ضغط من "سلطة" أعلى، وبخاصة إذا أمكنه أن يبرر تنفيذه للمهمة بأنه طاعة لأوامر السلطة، وأنه لا يتحمل المسئولية الشخصية أو الأخلاقية لنتائجها.

إذن، فـ "إطاعة السلطة" هي السمة النفسية الأولى المطلوبة فيمن سينتسب إلى مهنة التعذيب. وإذا كان الشخص قد نشأ في بيئة تحض على الطاعة المطلقة لمصدر السلطة، من أب، أو مدير، أو رجل دين، أو غيرهم، فقد امتلك أولى متطلبات تلك المهنة. يليها في ذلك أن تولِّد "طاعة الأوامر" لدى الشخص إحساسًا بالراحة النفسية يفوق إحساسه بالضغط النفسي أو الألم الذي يمكن أن يولِّده "فعل التنفيذ". ومع هذه النتيجة، اكتشف الباحثون في هذا المجال أن "التعذيب" حرفة يمكن أن يتعلّمها من يلمس في نفسه قبولاً ثقافيًا وتوافقًا فكريًا مع الإيديولوجية الراعية والداعمة لتلك الحرفة، وذاك متطلب آخر ثالث يبرز أهمية المكوّن العقائدي والثقافي لمن ينتسب إلى تلك المؤسسة. 

إذن فلا عجب إن وجدنا أن معظم العناصر التي تعمل في إدارة التحقيقات الجنائية ـ على اختلاف أجناسهم ـ هم من أولئك الذين تمثل "طاعة ولي الأمر" مكوّنًا هامًا في عقيدتهم الدينية، فضلاً عن انتساب العديد منهم إلى قبائل معروفة تنبني ثقافتها على وجوب طاعة شيخ القبيلة وعدم الخروج على إجماع كبرائها. أما المتطلب الرابع فهو أن ينتظم في برنامج تدريبي مكثّف وصارم يعدّه جسديًا ونفسيًا وعقائديًا وسلوكيًا ليصبح"جلاّدا" محترفًا، يشار إليه فيما بعدُ بالبنان ويحظى من السلطة بالحماية والتغطية القانونية المناسبة واللازمة لاستمراره في "إطاعة الأوامر".

صناعة الجلاد

يخضع "الجلاد" في مراحل تكوينه المختلفة لتربية مكثفة تبني في داخله عقيدة ثابتة وقناعة لا تتزلزل بأن "المهمات القذرة" التي سيطلب إليه تنفيذها ـ أيًا كانت ـ إنما هي "إجراءات" ضرورية من أجل حماية "الوطن" عامة، ولحمايته هو وحماية أهله وجماعته خاصة، من عبث فئة ضالة، مفسدة ومتمردة، غير شاكرة لأنعم السلطة عليها. ويتم تزويده في هذه الأثناء بالمفردات والعبارات التي يخاطب بها من يقع تحت يده ممن ينتمون لتلك الفئة، ويُدرَّب على الأساليب التي تؤمن شلّ حركة الضحية المحتجزة لديه وتسلبه القدرة على القيام بأي رد فعل أو  مقاومة، وتضمن له السيطرة التامة على الموقف. من هنا أدركتُ أن اختيار النعوت والشتائم من قبيل "ولد المتعة" و "المجوسي" و "الصفوي"، والأسئلة حول "كم راتبك؟" و "من الذي أنفق على تعليمك؟" و "ماذا كنت تفعل في الدوّار؟" وغيرها من أسئلة تكررت في حفلات الزار التي مر بها كل واحد من المعتقلين، فضلاً عن كثافة استخدامها في وسائل الاتصال الاجتماعي لنعت فئة محددة من المواطنين، كل ذلك لم يكن أمرًا عبثيًا ولم يكن وليد اللحظة، وإنما هو جزء لا يتجزأ من منهجية واضحة ومدروسة تدربتْ عليها الأجهزة الأمنية بكافة مستوياتها للهجوم على مقدّسات المعتقل وتحقيرها بهدف كسر إرادة المقاومة لديه وإلحاق الهزيمة النفسية به. كما فسّرتْ لي هذه المعطيات جانبًا مما حفلت به الساحة في البحرين منذ ما قبل 14 فبراير 2011 وما بعده، وإلى اليوم من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان من عناصر قوى الأمن والحرس الوطني وغيرهم وما نراه بشكل يومي من بلطجة منفلتة وممارسات لا مسئولة ولا إنسانية تنفذها عناصر "مجهولة". 

بين يدي الجلاد

إن أول ما يواجه الضحية إذا وقع بين يدي جلاّده هو انتهاك حرمة جسده. الجسد هو أعز ما يملكه إنسان؛ ففيه يختزن تاريخه، وهو الذي يجسّد ملامح شخصيته، ومن خلاله يعبر المرء عن قيمه وأخلاقه، وعن انتمائه ومعتقده. الجسد "حرمٌ" خاص لا يسمح المرء لأيٍ كان بالاقتراب منه أو لمسه أو التعرض له من دون استئذان وموافقة. إذن، فأول ما يفعله الجلاد هو أن يغزو هذا الحرم، أن يقترب منه عنوةً فينتهك قدسيته ويلوّث أرضه. وهذا أول ما فاجأ "غسان ضيف" عندما أُخذ إلى "غرفة بجانب مكتب الجوازات" في المطار  ليعيش "حوالي ساعة كاملة"، لا يعي فيها "شيئاً آخر غير الضرب في كل أنحاء الجسم: الوجه والرأس والرجل والبطن وكل مكان. الضرب بكل شيء: بالأخشاب وبالهوز وبالأيدي. كانت مجموعة تدخل وأخرى تخرج، والكل يضرب". الأسوأ من ذلك أن يجري الانتهاك على مرأى من آخرين، وأن يكون متعمّدًا، ومتجددًا، ومتواصلاً بلا سقف يعلن ساعة نهايته.

في هذه الحفلة الماجنة، لا يمثل الألم الجسدي سوى القمة الظاهرة من جبل جليد في محيط من المهانة والإذلال لضحية مسلوب الإرادة، أما ما يحدث تحت السطح فسيظل بالنسبة إلى الضحية تجربته الخاصة التي ستحفر آثارها في قلبه وفي عقله وفي نفسه مدى حياته، وستتناوب أحداثها حضورًا في ذاكرته. وأيًا كان حديثه عن تلك التجربة فإن وصفه لها لن يتجاوز حصيلته من اللغة وما يتاح له من قدرة على التعبير. عندما يكون الضحية بين يدي جلاده فإنه يكون عاجزًا عن لملمة شظايا هويته، أو مقاومة انهيار ذاته وذوبان كينونته؛ سيظل يسأل كما فعل "غسّان": "لماذا تفعلون بي هذا؟ أنا طبيب ولست مجرمًا هاربًا." ولن يجد جوابًا؛ سيخذله عقله ولسانه كما خذلته قبلهما يداه الموثقتان وعيناه المصمدتان، ولن يجد سوى الصرخات العالية والدموع الغزيرة تعبيرًا عن انكساره وعجزه وقلة حيلته. 


*كاتبة من البحرين.

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus